في القرنين السابع عشر والثامن عشر، اشتبكَت مجموعة من الفلاسفة الغربيين، على الورق على الأقل، حول مشكلة الشرّ الأزلية: كيف يمكن لإله خيّر أن يسمح بوجود الشر والمعاناة في العالم؟ فلاسفةٌ مثل بيير بيل، نيكولا مالبرانش، وغوتفريد فيلهيلم لايبنتز؛ تبعهم لاحقًا أعمدة الثقافة المعتمدة المكرّسة أمثال فولتير، ديفيد هيوم وإيمانويل كانط؛ اختلفوا بشدّة ليس حول كيفية حلّ المشكلة وحسب – إذا كان بالإمكان حلّها قط- بل كذلك حول كيفية الحديث عن مثل تلك المواد المظلمة.
قد تبدو بعض هذه النقاشات التي تناولت “العدالة الإلهية” (محاولة تبرير الخلق) مثل أنتيكة في نظر العيون الحديثة. لكنْ، في عصرٍ يُشكّكُ فيه جيل الشباب بمدى أخلاقيّة جلب أطفال جدد إلى العالم، تغدو تلك النقاشات في محلّها إلى حد يثير الدهشة. ففي آخر الأمر، ليست المسألة عن الله وحسب: إنها عن فعل الخلق، وعلى وجه أكثر تحديدًا، عن مدى إمكانية تبرير فعل الخلق، بالنظر إلى كل العلل أو “الشرور” الموجودة في العالم.
إن سؤال الخلق مُلحٌّ بالنسبة إلينا اليوم. فبالنظر إلى جسامة انعدام التيقن فيما يخصّ أزمة المناخ، يغدو من الضروري أن نسأل: هل من المبرّر خلق أناس جدد من غير معرفة المستقبل الذي ينتظرهم؟ وإذا كان ذلك مبرّرًا، هل ثمة حدٌّ لا يعود فيها كذلك؟ قد يتفق معظم الناس أنه من الممكن تخيّل بعض العوالم التي يكون فيها فعل الخلق لا أخلاقيًا. ففي أي نقطة محددة تكون الحياة أكثر سوءًا، أو أكثر انعدامًا للتيّقن، من أن تُقبَل؟
في بدايات عصر التنوير، بالطبع، لم يكن هنالك مثل هذه المخاوف حول مستقبل الكوكب. لكن كانت هنالك شرورٌ في الوجود؛ الكثيرُ منها. جرائم، فجائع، موت، مرض، زلازل، بالإضافة إلى تقلبات الحياة الصرفة. لقد تساءل هؤلاء الفلاسفة، آخذين تلك الشرور بعين الاعتبار، هل لا يزال من الممكن تبرير الوجود؟
ومن هذا الجدال الفلسفي طويل الأمد حصلنا على تعابير “تفاؤل” و”تشاؤم”، المستَخدمين كثيرًا جدًا، وربما أكثر مما يجب، في ثقافتنا الحديثة. سُكّ تعبير “التفاؤل” من قبل اليسوعيين لأجل فلاسفةٍ مثل لايبنتز وفكرته بأننا نعيش في “أفضل العوالم الممكنة” (لأنه لو استطاع الله خلق عالم أفضل، لكان فعلَ بالتأكيد). أمّا تعبير “التشاؤم” فجاء بعد ذلك بوقت قصير ليشير إلى فلاسفة مثل فولتير الذي سخرت روايته “كانديد” (1759) من التفاؤل اللايبنتزيّ من خلال مقارنته مع الشرور الكثيرة في العالم. “إذا كان هذا أفضلَ العوالم الممكنة”، يتساءل بطل رواية فولتير، “كيف هي العوالم الأخرى بحق الجحيم؟!”
لكن في الواقع، لم يكن فولتير متشائمًا كثيرًا؛ فلاسفةٌ آخرون مثل بيل وهيوم ذهبوا أبعد بكثير في تبياناتهم لرداءة الوجود. بالنسبة إلى بيل، وإلى هيوم من بعده، ليست المسألة أن الشرور في الحياة تفوق مظاهر الخير عددًا وحسب (رغم أنهم يعتقدون أن ذلك هو الحال أيضًا)، بل إنها تفوقها وزنًا كذلك. قد تشتمل الحياة على عدد متساوٍ من اللحظات الجيدة واللحظات السيئة، لكن المشكلة أن للحظات السيئة عادةً شدّةٌ تقلب الموازين. إن فترة سوءٍ قصيرة، يقول بيل، لديها القدرةُ على تخريب كمية كبيرة مما هو جيد، تمامًا كما بوسع مقدار صغير من ماء البحر أن يملّحَ برميلًا من الماء العذب. كذلك، إن ساعة واحدة من الحزن العميق فيها من الشرّ أكثر مما يوجدُ من الخير في ست أو سبع أيام مُبهجة.
مقابلَ هذه الرؤية الكئيبة، أكّد مفكرون مثل لايبنتز وجان جاك روسو على خير الحياة، والقوة التي يجب أن نفتّش بها عن الخير في كلّ الأشياء، لأنه إذا تعلمنا أن نعدّل رؤيتنا، فسنرى أن الحياة في الحقيقة جيدة للغاية: “أن ثمة بما لا يقبل المقارنة خيرًا أكثر من الشر في حياة البشر، مثلما هنالك بما لا يقبل المقارنة بيوتًا أكثر من السجون”، يكتب لايبنتز، وأن العالم “سيقدّم لنا النفع إذا استخدمناه لمنفعتنا؛ وسنكون سعداء فيه إذا أردنا أن نكون”. وتمامًا كما اعتقد المتشائمون أن المتفائلين مخدوعون في إصرارهم على خير الحياة، كذلك اعتقد المتفائلون أن عيون المتشائمين تنحرف نحو السيء: لقد اتهم كل جانبٍ الجانبَ الآخر بالافتقار إلى الرؤية الصائبة.
هكذا يصبح جزءٌ كبير من السؤال: ما هي الرؤية الصائبة؟
أحد الأشياء التي أدهشتني حين تعمقتُ أكثر في هذه الأسئلة هو مدى انشغال كلٍّ من المتفائلين والمتشائمين بالافتراضات الأخلاقية الكامنة وراء النقاشات النظرية. على السطح، كان السؤال: هل يمكن تبرير فعل الخلق؟ لكن تحت ذلك السطح، ليس بعيدًا كثيرًا، يقبع سؤالٌ أعمق، سؤالٌ مشبع أخلاقيًا وعاطفيًا بذات القدْر: كيف يمكن الحديث عن المعاناة على نحو يمنح الأمل والعزاء؟
هكذا، لا يقدّم كل جانبٍ اعتراضًا نظريًا ضد الآخر وحسب، بل اعتراضًا أخلاقيًا كذلك. الاعتراض الكبير الذي يلقي المتشائمون بمسؤوليته على عاتق المتفائلين هو هذا: إن الإصرار على أن الحياة جيدة حتى في وجه المعاناة القاسية المتعنّتة، أو التعهّدَ بأننا نتحكّم بسعادتنا، أي أننا سنكون سعداء “إذا أردنا ذلك”، كلّ هذا يجعل معاناتنا أكثر سوءًا. إنه يضيف إلى المعاناةِ المسؤوليةَ عن تلك المعاناة، ويثقل كاهلَ الذين يعانون بإحساسٍ بالعجز والقصور. فإذا كانت الحياة جيدة للغاية، فلا بدّ أن مِحن المُعانين هي حالة رؤية خاطئة؛ وفعلًا يميل المتفائلون إلى قول أشياء مثل هذه. لأجل ذلك، التفاؤلُ، هكذا يقول المتشائمون، هو فلسفة قاسية. وإذا كانت تُكسِبنا بعض الأمل، فإنها تخفق في المواساة.
من جانبهم، يثبت المتفائلون أنهم منشغلون بالأخلاقيّ بطريقة مماثلة. واعتراضهم على المتشائمين هو التالي: إذا أصرّينا على شدّة المعاناة، وجودها المطلق، وحتميتها، إذا وصفناها بكل أغوارها وكآبتها (كما اعتاد المتشائمون بالفعل أن يفعلوا)، فهذا يكدّس المعاناة فوق المعاناة. وهو ما يجعل المعاناة أكثر سوءًا، مثلما “تتضاعف الشرور بإيلائها الاهتمام الذي ينبغي أن يُصرَف عنها”، كما يقول لايبنتز. التشاؤم، هكذا يقول المتفائلون، هو في حدّ ذاته غير مواسٍ؛ وهو، فوق ذلك، غير مؤمِّلٍ.
السؤال الذي يشغل هؤلاء الفلاسفة، إذًا، ليس السؤال النظري وحسب (سؤال هل الحياة بالعموم جيدة أو سيئة؟) بل هو كذلك سؤال أكثر عمليّة: وجهًا لوجه قبالة الشخص الذي يعاني، ماذا يمكن للفلسفة أن تطرح؟ ما الذي يمكن للفلسفة أن تقدّمه فيما يخص الأمل والمواساة؟
إن كلا مساري الفكر لهما الهدف ذاته، لكنهما يرسمان سبلًا مختلفة للوصول إليه. يمنح المتشائمون العزاءَ من خلال التأكيد على هشاشتنا؛ من خلال إدراك أنه مهما بذلنا من جهد، قد نفشل في تحقيق السعادة، لأن الخطأ ليس خطأنا. من جهة أخرى، يسعى المتفائلون لنشر الأمل من خلال التأكيد على مقدرتنا؛ من خلال التشديد على أنه مهما كانت ظروفنا قاتمة، مهما كانت كئيبة، نستطيع دائمًا أن نغيّر رؤيتنا واتجاهنا، نستطيع دائمًا أن نسعى للأفضل.
بالطبع، ما من سبب يمنع، من حيث المبدأ، اجتماعَ الطريقين، ليكون كل منهما بمثابة المقابلِ الضروري للآخر، أو بمثابة ترياقٍ للسم الذي قد تصبحه كل شربة من أيّ منهما عندما تُقدَّم غير مُخفَّفة. لكن، تبقى الحقيقة أن المتفائلين والمتشائمين الأوائل رأوهما متناقضين؛ وفي الحقيقة نحن نراهما هكذا أيضًا. إذ لا يزال لدينا الميل لأن نفكر بمنظور ثنائي، كما لو أن هنالك في الحياة خيارًا صارمًا ينبغي اتخاذه بين التفاؤل والتشاؤم، أو، وفق كلمات نعوم تشومسكي، بين التفاؤل واليأس: “لدينا خياران. بوسعنا أن نكون متشائمين، نستسلم، ونساعد في ضمان حدوث الأسوأ. أو بوسعنا أن نكون متفائلين، نغتنم الفرص الموجودة بالتأكيد، وربما نساعد في جعل العالم مكانًا أفضل. لا كثير من الخيار”.
يظهر المثال الأخير الفجاجة وأحادية الجانب التي نستخدم بها هذه المصطلحات. يكون التفاؤل عادة مشحونًا إيجابيًا، والتشاؤم مشحونًا سلبيًا. وعندما ندعو شخصًا بالمتفائل، يكون هذا عادة مديحًا. ولهذا، السياسيون حريصون بوجه خاص على التشديد على أنهم متفائلون، أو حتى على الحديث عن “واجب التفاؤل”. بالمقابل، أن تدعو شخصًا بالمتشائم يعني عادة أن تزدريه، تشجبه، تقلّل من شأنه. “التشاؤم للفاشلين”، كما يقول عنوان أحد الكتب الحديثة.
هل خياراتنا ثنائية إلى هذا الحدّ؟
لكن، هل خياراتنا ثنائية إلى هذا الحدّ؟ إذا كان ثمة أحزان على طريق التشاؤم، فثمة أخطارٌ على الطريق المعاكس. وهذه الأخطار هي ما ظلّ المتشائمون القدماء يحذرونها منه: أننا إذا بالغنا في التأكيد على سلطتنا على عقولنا، حيواتنا، ومصائرنا، فمن السهل جدًا أن ننزلق إلى القساوة.
لا حاجة بنا لأن ننظر بعيدًا جدًا لكي نرى أمثلةً عمّا يمكن أن يصير إليه التفاؤل، بأحلك أشكاله. عندما بيع مجمّع سكني في لندن يدعى “عقار هيغيت” لمستثمرين أجانب في عام 2008، أُخرِج سكّانه أول الأمر، ثم عُرِض عليهم الخضوع لدورات في “اليقظة الذهنية” من قبل المجلس المحلي، ليتمكنوا من التعامل مع قلقهم، بحيث جُعِلوا هم ذاتهم مسؤولين عن مصائبهم. لكن، إذا كان كل منّا في الأساس مسيطرًا على حالته العقلية، أيّ سببٍ يدعونا للمطالبة بالعدالة الاجتماعية؟ هذا هو الجانب الحزين الذي يلتصق بالسردية الرائجة التي تقول “أنت مسؤولٌ عن سعادتك”، وهو معزَّزٌ بالرعب الخبيث لنظام وسائل التواصل الاجتماعي التي تدفعنا إلى إذاعة نجاحنا وسعادتنا على مسامع العالم.
في مثل تلك الحالات، تكشف قوة التشاؤم المُواسية عن نفسها: لا بأس في ألا تكون على ما يرام. أحيانًا نفشل، أحيانًا نصطدم بالجدران الصلبة لإمكانياتنا أو نصطدم بحدود العالم؛ وقد يكون مواسيًا أن يتم تذكيرنا أن معاناتنا، هشاشتنا، ليست خطأنا؛ أننا نعاني رغمًا عنّا، وأنه قد يكون من الصواب أن نحزن على ما نخسره، أو سنخسره، أو خسرناه مسبقًا.
إنّنا نسارع إلى مساواة التشاؤم بالسلبية أو القدرية أو اليأس، وإلى رفضه على هذا الأساس؛ لأننا، بالطبع، لا نريد فلسفة تقول لنا أن نستسلم. لكن، هل هذا ما يعنيه التشاؤم حقًا؟ ناقش جوشوا فوا دينستاغ في كتابه “التشاؤم: الفلسفة، الأخلاق، الروح” (2006)، أن التشاؤم، بعيدًا عن الإفضاء إلى السلبية، يمكن ربطه ربطًا وثيقًا بتقليدٍ من الفاعليّة الأخلاقية والسياسية، كما في حالة ألبير كامو الذي كانت شجاعته وفاعليته في الحرب العالمية الثانية مشبعة برؤاه التشاؤمية.
علاوة على ذلك، حتى أكثر المتشائمين قتامةً لم يقولوا أبدًا إن الحياة لن تصير إلا أسوأ أو أنها لا يمكن أبدًا أن تصبح أفضل حالًا: هذه صورة كاريكاتوريّة للتشاؤم، مرسومةٌ على عجل بغية نبذه. وحتى آرثر شوبنهاور، الأكثر كآبة بينهم جميعًا، لم يصادق عليها. بل إنه، على العكس، اقترح أن عدم قدرتنا على التحكم بمجرى الأمور، هو تحديدًا ما يجعلنا لا نعرف ماذا يخبئ المستقبل: قد تصبح الحياة أسوأ أو أفضل. وبكلمات دينستاغ: “المتشائم لا يتوقع شيئًا”. ليس ثمة الكثير من الأمل في هذا، ربما، لكنه مع ذلك نوع من الأمل. وكذلك هو البصيص الخافت الذي يمكن العثور عليه بين الصفحات الأكثر حلكة لأولئك الكتّاب: الحدس الخاطفُ القلِقُ الذي ينبئنا بأن شيئًا ما يمكن استجماعه في الرؤية المظلمة؛ بأن أعيننا يمكن أن تُفتَح كما لم تكن قبلًا؛ بأننا قد نرى في العتمة.
لهذا، التشاؤم المُؤَمِّل قد لا يكون ضربًا من التناقض، بل تجليًّا للقوة الجامحة التي لا يمكن أن تُسخَّر إلا عندما تُجمَع أحلك قوى الحياة إلى خيمياء الأمل الغريبة.
أفكر بهذه الأشياء كلّها في هذا العصر المتّسم بالاستنزاف والتخريب البيئيين، بالفيضانات والحرائق والسقوف الحرارية التي لم يظن أحد أنها ممكنة، وبشبح أزمة المناخ التي تتضح معالمها في كل مكان حولنا؛ هذا العصر المتّسم أيضًا بيأس الشباب، اليأس الساكن أو غير الساكن كثيرًا. إن ذات الانتقادات التي شُنَّت يومًا ضد متشائمي الماضي تُلقى اليوم ضد الشباب اليائس من قبل “المتفائلين بالتكنولوجيا” ومناصري التقدم الذين يعتبرون أنّ أي تفكير بمجرد احتمال الانهيار هو في حدّ ذاته إشارةٌ إلى الضعف، افتقارٌ إلى الخيال، عيبٌ أخلاقي، وفشلٌ في الرؤية قبل كل شيء. ولهذا، يشجبون صرخة الشباب بوصفها تشاؤمًا، قدريةً، و”محض” يأس. إنهم ينتقدون الشباب بسبب كآبة رؤيتهم؛ يعتبرون أقوالهم مُبالغًا فيها وقائليها مدلَّلين مُفسَدين.
لكن في الحقيقة، من السهل جدًا أن تغيب عن بالنا حقيقةُ أن هذا الجيل – أولّ جيل ينشأ في عالم لا تلوح فيه عند الأفق حالةُ طوارئ مناخية وحسب، بل واقعٌ مرير كذلك- هو جيلٌ مسكون بإحساسٍ حقيقي بفقدان المستقبل، لأنّ كل الأشياء التي قيل له إنها تعطي الحياة معنًى باتت إما عديمة الجدوى أو إشكاليّة؛ أشياء مثل: الدراسة، الحصول على عمل، الاستقرار. فأي أعمالٍ لا تزال مضمونة؟ وأيّ مكانٍ لا يزال آمنًا للاستقرار؟ وكما قالت غريتا ثَنبِرغ في ساحة البرلمان في لندن عام 2018: “لماذا عليّ أن أدرسِ لأجل مستقبل لن يكون له وجود قريبًا، في حين أن لا أحد يفعل أي شيء مطلقًا لإنقاذ ذلك المستقبل؟” وأي معنًى لأشياء مثل تأسيس عائلة؛ فإذا لم يكن هنالك مستقبل للأطفال، هل ما يزال مقبولًا أن ننجب؟ وحتى أشياء أكثر سخافة، مثل تطوير الذات من خلال السفر، لم تعد بسيطة: أيّ أهمية لتطوير الذات عندما توضع في الميزان مع تكلفة الكربون التي تترتب على السفر الحديث؟
إنه انهيارٌ كليّ للمعنى لم يتضح لنا إلا الآن. وثمة شعورٌ حقيقي لا يختبر فيه الشباب فقدان المفاهيم فحسب، بل فقدان المستقبل ذاته، فكل الأجوبة المعتادة عن سؤال “ما الذي يجعل الحياة تستحق العناء؟” تصبح أجوبةً غير يقينية بصورة متزايدة. إنهم في تلك العتمة، يبحثون عن بعض الأمل، بعض العزاء؛ وماذا نستطيع أن نقدّم لهم؟ لا ريب أننا نستطيع أن نقدّم ما هو أفضل من إعطاء الجواب الذي من الواضح أنه غير كافٍ (والذي قد يكون أيضًا كذبة صريحة)؛ الجواب الذي يؤكد لهم أن كل شيء سيكون على ما يرام، بما أننا نعرف أن ثمة احتمالًا كبيرًا بأنه لن يكون.
إنّ أيّ عبارات فجّة عن التفاؤل لن تكون في غير محلّها وحسب، بل ستكون من نوع الكذبات التي لا تخدع أحدًا، فما بالك بالحواس الأخلاقية المشحوذة للشباب؛ الشباب الذين يدركون حقيقة الوعود الفارغة وتطمينات السياسيّين بغضبٍ نعلم أنه مبرّر؟ فإذا قلنا لهم إن كل شيء سيكون بخير، فإن هذه ليست كلمات فارغة وحسب: إنها إخفاقٌ في أخذ تجاربهم على محمل الجد، وذلك، كما سيقول لنا المتشائمون، هو الشيء الوحيد الذي يضمن جعل معاناتهم أكثر سوءًا.
لكنْ، إن كان التفاؤل الأعمى يخفق، هل يمكن أن يكون التشاؤم أفضل؟ لقد اقترحتُ أن التشاؤم يمكن أن يكون له قيمة؛ لكن هل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك؟ هل يمكن أن يكون التشاؤم، في حقيقة الأمر، فضيلةً؟
بالنسبة إلى بعض الناس، قد تبدو فكرة “فضيلة التشاؤم” في حد ذاتها غير معقولة. على سبيل المثال، قد نوافق على فكرة هيوم بأن علامةَ أيّ فضيلة هي أن تكون مفيدة ومُحبَّبة، إما للشخص الذي يتمتع بها أو للآخرين. لكن التشاؤم بالتأكيد ليس مفيدًا ولا محبّبًا. إنه ليس مفيدًا، وفقًا لهذه المناقشة، لأنه يجعلنا سلبيّين؛ إنه لا يُكئِّب أنفسنا فحسب بل “إحساسَنا بالممكن” كذلك، كما قالت مارلين روبنسون عن التشاؤم الثقافي على وجه الخصوص. وهو ليس مُحبَّبًا، بما أنه يعزّز معاناتنا، جاعلًا إيانا نركّز على الجانب السيء من الحياة بدلًا من الجيد (أو هكذا سيقول المتفائلون الرئيسيون مثل لايبنتز وروسو). ليس من المفاجئ إذًا أن بعض الدراسات عن “المُثل الأخلاقية” المفتَرضة حدّدت الإيجابية، الأمل، والتفاؤل، بين السمات التي تشترك بها تلك المُثل.
لكن، لنفكّر بغريتا ثَنبِرغ. إذا كان ثمة شيء يدعى “فضيلة المناخ”، فيبدو أنها تمثّلها؛ نظرًا إلى الخيارات الشخصية الصعبة التي أخذتها، رسوخِ رؤيتها، والشجاعة التي تنتقد بها قادة العالم على لامبالاتهم وإحجامهم عن الالتزام بالقضية التزامًا كاملًا، ثم تحملهم على تبرير تلك اللامبالاة. إذا لم تكن هذه ممارسةً للفضائل، فلا أعرف ما الذي يكون؛ ومع هذا ما من شيء إيجابي أو تفاؤلي في ثَنبِرغ. وإذا كان ثمة أمل في هذا، فهو أملٌ قاتم، كئيب، مليء بالغضب والحزن والألم على ما تجري خسارته؛ لكنه أيضًا أملٌ مشبع بالإصرار، المثابرة، والتصميم. ومن الواضح أن هذه الناشطة، على الأقلّ، ستستمر بالكفاح حتى لو كان محكومًا على جهودها بالفشل. غير أن هذا ليس تفاؤلًا: إن كان شيئًا، فهو تشاؤمٌ مُؤمِّل، وأعتقد أن له كامل الحق بأن يُدعى فضيلةً في عصرنا.
إن التشاؤم المُؤمِّل يخترق ثنائية “تفاؤل/تشاؤم” الصدِئة. وهذا الموقف، هذا المنظور، يتجسّد بثَنبِرغ وشخصيات أخرى من الذين يعطون بمِثالهم جوابًا بالإيجاب عن السؤال الذي طرحه بول كينغزنورث: “هل من الممكن رؤية المستقبل مظلمًا ويزداد ظلمة؛ هل من الممكن رفض الأمل الزائف والتفاؤل الوهمي اليائس، من دون التداعي نحو اليأس؟”.
ينبغي التمسك بالأمل
إن الشيء الذي ينبغي تجنبه ليس التشاؤم، بل انعدام الأمل أو القدرية أو الاستسلام. وحتى اليأس لا حاجة لتجنبه تمامًا، بما أنه أيضًا يمكن أن يستحثّنا ويشجّعنا على الكفاح لأجل التغيير، لكننا يجب أن نتجنب نوع اليأس الذي يسبّب لنا الانهيار. إن هذه الأشياء ليست مثل التشاؤم الذي هو ببساطة افتراضُ نظرةٍ مظلمة للحاضر وللمستقبل، كما أنه لا يقتضي فقدان الشجاعة أو فقدان الإصرار على الكفاح لأجل الأفضل: على العكس، غالبًا ما تكون هذه هي الهدايا ذاتها التي يمكن للتشاؤم أن يهبها لنا.
يمكن للمرء أن يكون متشائمًا على نحو كئيب وعميق، وقد يجد نفسه بين براثن اليأس الباردة والقاسية، ومع هذا لا يستنفد احتمال (وقد يكون مجرد احتمال) أن الأفضل قد يأتي. هذا هو نوع الأمل الذي يُشترى بثمن غالٍ، ولا يأتي بسهولة، بل يُقتَطع من الرؤية المؤلمة التي قد لا تكون إلا اعترافًا بكلّ المعاناة التي يمكن أن تحملها الحياة وتحملها بالفعل. إذا كان المتشائمون قد علّموني شيئًا فهو هذا: مع عيون مليئة بتلك العتمة، من الممكن أن يظلّ هنالك إمكانيةٌ لفتحها على نحو غريب مُحطِّم، مثل باب مفتوح قليلًا، لأجل دخول الخير إلى الحياة. وبما أن كل الأشياء غير مؤكدة، فكذلك هو المستقبل، ولهذا هنالك دائمًا إمكانيةُ التغيير نحو الأفضل مثلما هنالك إمكانية التغيير نحو الأسوأ.
قد يكون هذا في حدّ ذاته موقفًا أخلاقيًا: موقفًا يرحّب بالجيد عندما يُعطَى، ويدفعه للأمام في رحلته، لكنه أيضًا يعترف بالسيء من دون تبريره أو الإثقال على إرادة الذين يسحقهم في طريقه. أحيانًا لا نملك القدرة على تغيير العالم كما نرغب، والاعتراف بهذا قد يكون أفضل مجهود وأفضل عزاء، من غير استبعاد الحافز لبذل أفضل جهودنا وأكثرها صعوبة لأجل القضايا التي نؤمن بها.
وكما كتب جوناثان لير في كتابه “أملٌ جذري” (2006)، إن إحدى الظواهر الشائعة في أوقات الدمار الثقافي هي أن القيم القديمة تفقد معناها. فإذا كان لها أن تصمد أمام انهيار الأفق الأخلاقي، فهي بحاجة إلى معانٍ جديدة، مفاهيمَ جديدة لتبعث فيها الحياة. وأكثرُ الأشياء صعوبة هو مفاوضة هذا التغيير، وبدْء تبَوُّء فضائل جديدة بينما لا تزال الفضائل القديمة تحوم بيننا. وهذه، حسب اعتقادي، هي إحدى الطرق التي يمكن أن ينفعنا بها التشاؤم؛ كفضيلةٍ في حد ذاته، إنما أيضًا كطريقةٍ لإعطاء معنًى جديد لفضائل تتغيّر كجزء من هذا العالم المتغيّر. أن نرى الواقع أمامنا بعيون مفتوحة، فذاك يتطلّبُ شجاعةً، يتطلّبُ ألا نشيح بنظرنا عنه، أن نتصبّر، ومع هذا ألا نقرّر أنه ينتهي عند هذا الحد: هذا هو الأمل.
الأمل: ليس أن كل شيء سيكون على ما يرام في النهاية، بل أن لا شيء انتهى بالفعل؛ أن هنالك هذا الـ”شَّق في كل شيء” – الشَّق الذي غنّى عنه يومًا ليونارد كوهين- في الخير كما في الشر، بحيث لا يكون أيٌّ منهما مغلقًا عنّا بشكل كامل. ليست هذه القناعةَ الراسخة بأن مصير الأشياء أن تتحسن، كما أنه ليس التفاؤل الفج الذي لم يعد يمكن أن يكون فضيلةً في عالم يتصدّع، وقد يثبت أنه رذيلتنا المزعجة. صحيحٌ أن قد يكون من الأسهل أن نبذل جهودنا تحت عنوان النجاح المضمون، لكن هذه السهولة خادعة، لأنه كما من الممكن أن تُثبَّط بالسلبية أو القدرية، فمن الممكن أيضًا أن تُستَنزَف بالإحباط المستمر. ما يدعونا إليه التشاؤم المُؤمِّل بدلًا عن ذلك هو أن نكافح لأجل التغيير إنما من دون يقينيات، من دون أن نتوقع أن تثمر جهودنا عن أي شيء سوى معرفةِ أننا فعلنا ما علينا فعله كفاعلين أخلاقيين في عصر التغيير. قد لا يكون هذا إلا الأمل الأوهى، العزاءَ الأكثر كآبة؛ لكنه قد يكون أيضًا الشيء الذي سينفعنا على أفضل وجه في الأوقات القادمة، كفضيلةٍ، ونعم، كممارسةٍ للحماسة الأخلاقية: فضيلةٌ هشّة لزمنٍ هشّ.
مارا فندرلخت: حاصلة على دكتوراه في التاريخ من جامعة أكسفورد عام 2014، بأطروحة ركّزت على بيير بيل. مُحاضرة في قسم الفلسفة، جامعة سانت أندروز، اسكتلندا. من كتبها: “مواد مظلمة: التشاؤم ومشكلة المعاناة” (2021). تشمل مجالات اهتمامها، حسب قولها: “الفلسفة الحديثة، التشاؤم، مشكلة الشر، العدالة الإلهية (والعدالة الإلهية المضادة)، الأخلاقيات البيئية، الأخلاقيات الرقمية وأخلاقيات الإنجاب”.
رابط النص الأصلي:
https://aeon.co/essays/in-these-dark-times-the-virtue-we-need-is-hopeful-pessimism