إن الأدب كثيرا ما ينقذنا من الوحدة” هذا التصّور الذي زوّدنا به الكاتب والروائي المغربي “عبد الفتاح كيليطو” يتماشى مع السمات الخاصّة لفعل الكتابة بقدر ما يرتكز أيضا على أهمية الأدب وصداه الذي يتردّد في المخيّلة كرافد لإعادة تشكيل عالم برمّته من خلال التلقّي ومنطق التأثير والتأثر، ما يدفعنا لاعتبار اللغة الوسيط الحيويّ للانعتاق من بوتقة الذات الضيّقة والتحليق في مدارات متسّعة، تنبثق من الوعي الإنساني لمحنة الوجود، بدءا بالعوالم الداخلية التي تفيض وتتشكّل بمعزل عن الواقع لتلامس الإبداع الخلاّق والحرّ، وهذا ما يمكن تبيانه من خلال الشعر وجاذبيّته بمناوأة الحدود الفاصلة بين بواعث التجربة ومخرجات اللحظات الأكثر خصوبة في طرح بدائل تنتج معنى مغاير ينقذنا من النزوع للوحدة والانطواء، بين الكشف والانفعالات الحسيّة المرتبطة بالقلق والمكابدة.
ويعدّ الشعر بوح، وترجمة للوجدان دون عائق يطمس رحابة الخيال الإنساني وكائناته اللغوية المتعددة في عالم فسيح. وبين الجليّ والخفيّ يتهاطل الشعر بنبض مرهف وصور فنية، فتنصاع اللغة إلى أقوام من الوسائط التعبيرية، لصياغة المعنى المتخطّي لمواطن قاتمة ومتأزمة، وادراجه في منزلة الخلاص وانعتاق الرؤى والمشاعر المتواطئة مع فضاءات تستجلب طاقة التوحّد مع عالم شعريّ يجسّد كل ما أردفهُ الأفق الرماديّ، بضبابيّته المستفحلة، فتتلهّب جمرات المعنى ليهب القصائد النور والنّماء.
من هذا المنطلق، يمكننا استنطاق القصائد والشذرات المتربّعة في ديوان “ما أردفهُ رمادي” للشاعرة الجزائرية “حسناء بن نويوة”، الصادر حديثا عن دار “كلاما للنشر والتوزيع” في طبعة أنيقة تحمل بين دفّتيها 146 صفحة.
“وأنزوي من وَهني
إلى أهوالِ صخبك المُجلجل
أراوح الرّماد الممحوّ
بأطلالِ خريفٍ غائر
ودهشةٍ باهتة.”
بهذا الجوهر السريالي تتشكّل التجربة الشعرية لحسناء بن نويوة بلغة بليغة ومتدفقة وحسّ عالٍ، ما يفترض أن يضعنا أمام رهانات الذات المنزوية حين تغدو أكثر التصاقا بعالم نابض يتنكّب عن إسقاطات منبثقة من الممكنات التعبيرية، لإعلاء صوتها العميق وهتاف الكينونة المجسّدة للكوامن المضمرة وجدواها الفنيّ، عن طريق الأسلوب التصويري وتكثيف الدلالات في مجال عموديّ وذهنيّ مشترك. ونلحظ مثل ذلك في النص التالي:
“عن أشياء تختبرُ صبري” ص 72
“عن الوجد
الذي مذْ غيابك يفتِّتني
عن الأرق المُصاحب
عن الأسئلة المُلحَّة
عن النَّزوات التَّائقة
تلك التي لم نفتعلها
ولو على سبيلِ المزاج
والاستحواذ
عن الألوان
التي أثقلها الرَّماد الباهت
عن الصَّمت المُنبثق
الذي دائمًا ما ينصت
عن الشُّروخ
المترعة بملوحة الدَّمع
عنَّا حين تلتهمنا الحرائق
وتستوطننا المكابدات
عن الآتي
عنِّي أنا
من يشفع ضآلة مواسمي؟”
ولعلّ الوسائط التشبيهية تبنّت تلك الحمولة المضاعفة والمجازيّة ما بين المخاتلة والاستعارة والانزياح، لإثراء المعنى وتعرية الشعور الوامض بين الجمر والرّماد وأحقيّته في الانصهار مع الشعر والانبعاث مجدّدا عبر التماهي مع الذات الشاعرة وانفتاح الدلالات على الإيحاء والتأويل فتضطلع بدينامية النص الجوهرية ألا وهي جمالية الصورة والقدرة على إنتاج تشابهات عديدة عبر التخييل.
فالنسق التصوري للأشياء وللمفاهيم الذي تعتمده الشاعرة، ينهض على الكشف ببعده اللغوي بقدر ما تعبّر عن دواخلها وكيفية رصدها للكون من حولها لتتناسل عديد الاستعارات كما هو الشأن في هذه الأمثلة من الشذرات (تناهيد):
“قلبٌ عاشقٌ، ليسَ بوسعهِ احتراف النِّسيان.” ص 113
“ثمَّة عيونٌ تُكلِّلُ نقصنا الكامن.” ص 114
“الألم؛ أن تشملك سعادة خاطفة، بالكادِ امتلكتها.” ص 118
“أقصى درجات الحرِّيَّة؛ أن نتخفَّف من حمولة ”الأنا“.” ص 120
“أيُّ شعور مترف في الصِّدق، مترف في الإنسانيَّة.” ص 120
وقد ارتبط المجال التعبيري بعدّة وسائط أبرزها توصيف حالة القلق والاغتراب والحنين، واستدعاء مُكثّف للفظ “الرّماد” الذي لم يبرح أغلب روافد النصوص والشذرات بدءا بالعتبة الرئيسيّة المتمثلة في العنوان “ما أردفهُ رمادي” فطبيعة الرّماد مرتكزة على تحولّه من الإحتراق إلى نقيضه. إنه رهين تآلف بين الشعلة واللهيب الجامح، ومن ثمّ الإنطفاء لمعانقة السدّيم، تليه استثارة العدم للترحّل إلى اللانهائي والتجلّي في خلقٍ ثانٍ.
إنها محاولة لمقاطعة السّكون والصمت وتغيير التالف، وإصلاح المعطوب، مدعومة بقوّة الحسّ وفاعلية اللغة التي تتلاءم مع اشتقاق المعاني والتجسيد التجريبي تحت وصاية الشعر لا غير.
ومع كون الشعر يسوغ إلى يقظة الشعور في ترحاله بين ثنائية الألم والفرح، بإنشاء عوالم متسعة ومتباينة، إلا أنه ينشد الثورة أيضا بذلك العناء والمكابدة لافراز معيار تقويمي للذاكرة ولانحرافات العاطفة، في إطار العلاقة الجدليّة بين الأنا والآخر. وعلى هذا المنوال ألّفت “حسناء بن نويوة” معيارها الشعريّ المتفرّد لتتجاوز حدوده الإيديولوجيّة مُنتقلة من معلم الحب “المُستعصي” إلى معلم الحريّة والنور وصولا إلى معلم الانعتاق من الوجع، عبر صيرورة كياناتها اللغوية القائمة على الإفصاح وما يتخلّلها من تساؤلات شتى تسبح في وعاء الذات، فتوزّعها عبر عناوين ذات بنية اتجاهية أساسا والتي تحدّدها سياقات تنهض عليها معالم منتقلة بين “إضاءات” و “تناهيد” وما يردفهُ رمادها من تطلّعات عميقة وتمثيلات حسيّة وذهنية.
ويتجلّى ذلك من خلال الشذرات التالية:
“أنا، أنا، أنا
ما كلُّ هذا الهُتاف
إلَامَ أتطلَّع
أأكونُ أحدًا حقًّا!”
“في العزلةِ يتقدَّس ما هو منسيٌّ.” ص 138
“لأنَّني رغبتك؛ تراءت الطَّريق.”
“يكمن جوهر الحياة، في ارتقاء الرُّوحانيَّة.” ص 139
“كان علينا أن نصادق الأشياء برويَّة، لئلَّا تُراق البراءة فينا.” ص 141
الخاتمة:
“كلّ كلمة هي منفذ” هكذا عبّر الشاعر اليوناني “يانيس ريستوس” عن معنى الكلمة، وبالتالي فهي تُشكلّ نقطة جذب كما المغناطيس. ولعل ما ترومه “حسناء بن نويوة” هو الانحياز جهة الضوء والحكمة و “آخر الممكن” حسب تعبيرها، لتغدو اللغة منفذها للعبور نحو الصّفو الطافح والديمومة المُعلقة في حبائل الحواس. ولأنها تملك اللغة، اتجهت صوبا نحو منفذ يقلّها من طوافٍ مُجرّد إلى سفر وجوديّ من خلال إمكاناتها الأدبية التي تستقيها من الشعر كرهان فكريّ وروحيّ على حدّ السّواء، وذلك بتحويل المعنى لنسق فريد ينطوي على كل المفارقات، لتنحت تجربتها الإبداعية فوق جذع الشعر وتوابعه من دوافع ومنهج كرسالة إنسانية مبتكرة تنأى عن الرّماد وتعتصم بلغة مشتعلة وطاقة خلاقّة.