يضم هذا الكتاب مجموعة من الأبحاث و الدراسات صدرت في دوريات و مجلات عربية منذ سنة 1988، أول عهدي بالكتابة و التأليف و أنا شابا يافعا في العشرينيات من العمر، و بطلب من الأخ الفاضل بشير مفتي، بادرت بجمعها و تنقيحها و ترتيبها بهدف نشرها من جديد في هذا الكتاب الذي يحمل عنوان: ” نحن و الدولة- مقاربات في الوعي السياسي العربي-” و الحق أن إشكالية الدولة كانت و ما تزال عندنا محور خلاف فكري و أيديولوجي عميق، تمتد جذوره و أصوله بعيدا في أغوارنا و أحشائنا الفكرية، فكيف نشأت هذه الإشكالية، و كيف عبرت عن نفسها سياسيا و دينيا و فكريا، و ما هي القضايا التي ارتبطت بها و الفرق أو الجماعات التي تصارعت حولها، ذلك ما نسعى إلى تسليط الضوء عليه في هذا الكتاب، فتعالوا لنحكي الحكاية من بدايتها؟
إن أول صدمة عنيفة هزت كيان المسلمين، هي صدمة وفاة النبي محمد و انتقاله إلى جوار ربه، فكيف تعاطى الصحابة مع هذا الحدث الذي هو أشبه بالزلزال؟ تجمع معظم مصادر المؤرخين على الرواية التالية: بينما كان المهاجرون من ٱل بيت النبي مشغولين بتجهيز الجثمان الطاهر الشريف إلى مثواه الأخير في حجرة زوجه عائشة-رضي الله عنها- تناهت الأنباء إلى سمع عمر بن الخطاب و أبي بكر الصديق-رضي الله عنهما- عن اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة و ترشيحهم لسعد بن عبادة بالإمارة، فيسارعان إلى حيث يجتمع الأنصار، و في الطريق يلتقيان أبا عبيدة بن الجراح الذي يصحبهما إلى هناك، و بعد أن أبعدوا الناس عن سعد بن عبادة الذي أعلنه الأنصار أميرا، شق أبو بكر طريقه إلى صدر الاجتماع و خطب في المجتمعين قائلا: ” يا معشر الأنصار منا رسول الله (ص) فنحن أولى بمقامه ” فيجيبه الأنصار: ” منا أمير و منكم أمير ” ثم يعللون موقفهم قائلين: ” فلو جعلتم اليوم رجلا منا و رجلا منكم بايعنا و رضينا على أنه إذا هلك اخترنا ٱخر من الأنصار، فإذا هلك اخترنا ٱخر من المهاجرين أبدا ما بقيت هذه الأمة، كان ذلك أجدر أن يعدل في أمة محمد(ص) و أن يكون بعضنا يتبع بعض، فيشفق القريشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري و يشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القريشي ” و يعود أبو بكر فيذكر بالظروف التي قامت فيها الدعوة المحمدية و بدور المسلمين السابقين في حمايتها و ما لاقوه من اضطهاد و أذى مشركي قريش لينتهي إلى القول: ” إن المهاجرين هم أول من ٱمن بالله تعالى و رسوله (ص) و هم أولياؤه و عشريته و أحق الناس بالأمر من بعده لا ينازعهم فيه إلا ظالم ” ثم يختم كلامه مخاطبا الأنصار بقوله: ” فليس بعد المهاجرين الأولين أحد عندنا بمنزلتكم فنحن الأمراء و أنتم الوزراء لا نفتات ( نستبد) دونكم بمشورة و لا تنقضي دونكم الأمور “. و يكثر الجدل و السجال بين الفريقين حتى توشك الفتنة أن اشتعل في صفوفهم لولا تدخل رحل من الخزرج هو بشير بن سعد الذي بايع أبا بكر بالخلافة و عند ذاك تتحرك في نفوس الأنصار رواسب الصراع القبلي القديم ( الأوس، الخزرج)، فيذعنون جميعا للأمر الواقع بلا اعتراض، اللهم إلا سعد بن عبادة و بقية من أهله و أتباعه.
ثم ثنتقل بنا المصادر بعد ذلك إلى الفصل الثاني من هذا الخلاف، فتذكر أن نفرا من بني هاشم ٱل بيت النبي منهم علي بن أبي طالب و العباس بن عبد المطلب و الزبير بن العوام و بعض أتباعهم كعمار بن ياسر و سلمان الفارسي و البراء بن عازب، كانوا غائبين عما جرى في سقيفة بني ساعدة، فلما علموا بالأمر ثار بهم الغضب و أعلنوا رفضهم لما أجمعت عليه قريش و لم يقروا بالبيعة لأبي بكر إلا بعد وفاة فاطمة الزهراء-رضي الله عنها-، التي لم تعمر بعد أبيها سوى خمسا و سبعين ليلة.
ذلك هو الإطار التاريخي الذي طرحت فيه إشكالية الخلافة في المجتمع العربي الإسلامي، أما عن العلاقة التي تربطها بالقضايا التي أثيرت لاحقا من قبل المتكلمين و الفرق الدينية، فيمكن القول أن الشكل الديني الذي اتخذه الصراع حول هذه الإشكالية، كان هو السبب في حصول تلك البلبلة التي أصابت نظام القيم في العقيدة الإسلامية، و بالتالي تحول الصراع بين السلطة و معارضيها في التاريخ العربي من مظلة السياسة إلى غطاء الدين، و هذا النوع من الممارسة غير المباشرة للسياسة، أنتح خطابا لاهوتيا في السياسة، أو بتعبير ٱخر خطابا سياسيا بدون مضامين سياسية محددة.