هوس بلون الوجه…هوس بلون الماء / امينة حاج داود*
بواسطة مسارب بتاريخ 19 أغسطس, 2014 في 04:35 مساء | مصنفة في حفريات | لا تعليقات عدد المشاهدات : 1691.

ما إن تقع عيناك على المجموعة الشعرية لكنزة مباركي والمعنونة ب”هوس بلون وجهي”  الصادرة حديثا عن دار فيسيرا، حتى تستفزك الأيقونة التي اختارها المصمم لتكون عتبة صادمة للمتلقي، حيث إنها ممتلئة بما يشبه الماء، ربما لتجعلك تستفيق من غيبوبتك وأنت تتأمل هذا الغلاف، وتدعوك إلى أن تحيا بين دفتي هذه المجموعة العامرة بمظاهر الفتنة والجمال والبلاغة، صورة ولغة وخيالا وظلالا شعرية وارفة

هوس بلون وجهي، إن القاسم المشترك بين اللون والوجه، هو أن كلاهما يمكن رؤيته، فكيف والشاعرة تقرنهما بالهوس، هذه الحالة الشعورية المتدفقة الفياضة، التي لم تلبث أن تدفقت على تعابير الوجه فأصبح بالإمكان ملاحظتها لغزارتها وفيوضاتها. أرادت الكاتبة من خلال اثنين وعشرين وترا من أوتار الهوس، أن تصوغ لنا سنفونية إبداع، حيث اختارت أن تبدأ كتابها وهي تتحدث عنه، حينما قالت: الإبداع زمن يسكنك … ولاجئ يختارك أنت دون غيرك من الناس ليقيم فيك … إن القارئ لهذه المجموعة الشعرية سيدرك جليا أن هذا اللاجئ قد أقام عند شاعرتنا لزمن، فرفعت قصيدة إلى روح  الكاتب الجزائري الراحل الطاهر وطار بعنوان يدك ذهبت لتنام جاء فيها:

ستذكر لي ، وأنت في مقامك الزكي،

حين يكتمل للقصيدة وجعها،

أشياء كثيرة.

وتخبرني بما لم تصرح به في رواياتك،

من نهايات فكرت فيها.

تتشظى الحالة النفسية بدءا بعتبة العنوان، لتنتشر عبر كامل العتبات الداخلية، فمن الهوس إلى الوهم إلى البؤس إلى الرغبة إلى القلق إلى البكاء، ثم الوجع وأخيرا عشق ثم شك،  ربما لتنهار منظومة العشق هذه وتحل محلها الفصول الجافة،  إن القاسم المشترك بين مختلف العناوين الداخلية هو ذاك الشعور السلبي  في كل مرة، الحامل لأبعاد الألم الباطني، الذي لم يلبث ينفث إيقاعاته داخل جسد النصوص الشعرية، فيجعلنا نصغي بنهم إلى الكلمة حينما تنضح ألم المعنى، …وإلى الصورة حينما تنهار أمامنا، ليرتفع غبار الدمع والوجع  فيطال دواخلنا، ويعانق هواجسنا، ويربت في هدوء على وتر إنسانيتنا، فيجعلنا نعيد بناء اللحظة ونعايش هوس الشاعرة وكأننا نحن من كتبت لأجلنا هذه الكلمات،  أو أنها نجحت في اختزال ألمنا وعشقنا، دمعنا وسعادتنا في أبجدية تفيض رقرقة هوسية شعورية عامرة بالحلم والخيال.

تبدأ الشاعرة ديوانها بحديث عن وجع صارت له أسنان وكبر، وتختمه بنفس الوجع  على ظهر الغلاف، ونفس المسافة ونفس الطريق وكومة من حلم، كانت تراقص أمانيها ذات زمن فتقول:

كنت في وجع ضيق

في نبض الزمن

في عشرين حلما

والقلب يرسم للطريق وجهها

حتى عثرت عليك هنا..

هل أنت الذي كانت تحدثني عنه الطريق؟

وكانت المسافة ترسم في خيالي ظلك

حتى لما رأيتك،

صارت لوجعي أسنان، وكبر؟؟

ترى من هو هذا الهارب المتواري خلف ظلال مسافة عابرة.. من هو الذي ظل الحلم والزمن يطاردانه، حتى إذا تمكنا منه تحول وجعا كبيرا، وخيب ظن الانتظار، وكسر كل آفاق الأمنية الممتدة إليه قبل الوصل.

ولأنها عاشقة للمكان ولأن المكان يعني للشاعر أكثر مما يعنيه لغيره، فالمكان بالنسبة لشاعرة مثل كنزة مباركي، ليس مجرد جغرافيا تحوي تضاريس معينة، إنما هو ميلاد متجدد،  فالشجرة في المكان حافلة برمزية دفئ باهت ذات هطول، و الغرفة تعني ميلادا متجددا مع كل إشراقه شمس،  والمدينة إنما هي رحم كبير تولد فيه العلاقات والضحكات والبسمات والأحلام الصغيرة، أما تلك الحجرة  التي حفر عليها عاشقان أول حرفين من اسمهما فما هي إلا عثرة على درب اللغة، تنهمر  وجعا وعشقا وتختفي ورائها الأخطاء والقبلات، لعنابة عروسة البحر التي تقبل إليه كل يوم بعد أن ترتب ساحاتها، وتمشط  أهدابها بالضوء الذي يتسلل إليها خلسة، وهو يداعب منارتها ومقاماتها ومساجدها وكنيستها العتيقة ليستفيق اوغستين  ويبارك حبات التراب على جبل ايدوغ .

اختارت الشاعرة أن تعبر عن وفائها للمكان بكل ما يحمله من ثقل دلالي فكتبت عن عنابة ضوء على سطح المتوسط

اسمها عنابة

ونبض الطريق يعرف إحساسها

ويدرك طيف اسمها

قبل التهجي به

وابدوغ الجاثي على كتفيها

يغرغرها أغنية في صورته

ويفتح للبحر ذراعيها…

و لأنها اختارت أن تبدأ حديثها عن ذاك الفارس الذي خيب ظنون الحب، وأوهن عزيمة الأمل، كان لابد لها أن تستمر به ومعه وتحدثنا عنه دائما،  فكتبت  أقلام الفصول الجافة..ربما لأن قلما واحدا ما كان كافيا لترسم لنا لوحة عشقها الكبير، وخيبتها الأكبر، وتوقع عليها بختم الوجع الذي أخبرتنا انه كبر وصارت له أسنان…نعم قد ألقى الوجع عنه تراتيل الحبو وصار يمشي ويعض

الوقت هارب منذ عرفته

والمطر في هذه الليلة الحارة

خارج معطف الشتاء…

لا مكان للوقت حينما تعشق امرأة عربية، فالزمن كله للحب، والوقت خارج مملكة عشقها هو وقت ضائع، لابد أن تعوضه، ولذا فإن الوقت في خيبتها هو أيضا وقت ثمين يستحق منها أن تمنحه كامل حقه ليحيا وتحيا معه الظلمات والوحدة ومشاعر اليتم…

مرة أخرى تعود شاعرتنا لتكتب عن البؤس ذاك الجورب القديم كما اختارت أن تسميه، حيث يتعثر صوتها بالصدى وتعود الكلمات والضحكات والأماني خائبة إلى أوكارها …وحدها عصافير الوهم يمكنها أن تغرد، ووحده اللاصوت يصغي لنبض الليل.

صوت الريح يتغابى

أشرع ألمي لليل

وارسم في دائرة البرد

ضحكتي المنهارة من سقف الخيبة

كم هي حالكة تلك اللحظات حينما تنهار ضحكة مرتجفة، و تنتحر دمعة ساخنة على وجنتي امرأة لا ذنب لها في ارتداء السواد، إلا أنها عشقت ذات صدق طيفا هارب،ا وصدقت أكذوبة حبها، ومنحت قلبها بعض الخرائط للتعرف على عرين ذاك الطيف الذي أبى إلا أن يصطاداها باسم الرجولة، ويحبسها بين دفتي كتاب قديم عنوانه: امرأة مرت من هنا. ويدفنه بالصمت واللامبالاة والكثير من النظرات الصدئة والأوهام..وحينما أشرقت الشمس ذات يوم كتبت:

أشرقت الشمس هذا اليوم

فوجدتني أقف على رأسي

ووجدت الغيم في كفي يبكي

حلم الفراشات الي نذرت للضوء عمرها

إن لون الشمس واشراقتها وضوئها، لم يكفي ليحول دون حلول مواسم الاحتضار،.. لم يحل دون  بكاء الغيوم حزنا على فراشة وئد حلمها البسيط …حلم في أن تفنى ببعض النور كي تستمد سرمديتها منه وهو يحل بجسدها وتحل بروحه…

أحببت ومر إعصار فلم يقتلع شجرة لذلك عدت فأحببت ولم أنصب فوق رأسي خيمة بهذه الكلمات لأنسي الحاج طرقت الشاعرة باب الرغبة فهتفت أجراسها بذاك المعبد العتيق

ابعث صهيلك في المدى

يا وجعي الرابض عند أسوار الرغبة

اقرع أجراس الريح ورتل أنيني

كيما ينتفض عصفور الشوق

ويزأر لهيب الظلام

أي سنفونية كتبت بماء الأبجدية هذه التي استطاعت الشاعرة من خلالها أن تجمع فتات الأصوات، صهيل وزئير وجرس وتنين وعصفور ربما يغرد شوقا…كم هي مكتظة هذه الأسطر الشعرية بالضجيج، مزدانة بفصول الرغبة متأنقة بالشوق… معطرة بالوجع والأنين…دافئة ببعض خيطان اللهب التي تتلاعب بها هبات الريح والحب.

اختارت الشاعرة في آخر ديوانها أن تجمع لنا باقة من أزهار شجرة الشك، وقالت بصوت مرتفع كأنها كانت تصرخ في وجه الواقع وهي ترتدي ثوبا قصيرا، يكشف خيبتها ويواري دمعا غزيرا كان يتدفق إلى داخلها : هذه كائنات بماء المعنى وطين اللغة، نفخت فيها روحي فتشكلت قصائد هايكو تقول في زهرتها الرابعة والعشرين :

حرف

ارتكب القصائد كلها

عابثا

بالمساحات والهوامش المهملة

حرف

يثير إذا ما انتشى

مشكلة

إنها لعنة الحرف حينما تصيب كلمة تولد بين شفتي شاعرة تكتب بلون وجهها لوعة الهوس .

 

 

*كاتبة وباحثة جامعية من الجزائر

اترك تعليقا