قراءات سردية في خارطة النصوص القريبة / أبو الخيرعماري *
بواسطة مسارب بتاريخ 3 سبتمبر, 2014 في 12:19 صباح | مصنفة في حفريات | لا تعليقات عدد المشاهدات : 2177.

تصدير :


فاقصص القصص لعلهم يتفكرونالأعراف/ ص 176

الفرق الجوهري بين القصة والرواية هو تماما الفرق نفسه بين اللوحة الساكنة والفيلم المتحرك.
فاللوحة في سكونيتها كأنما هي حياة تتحرك في متوالية ثم جاء فنان تشكيلي نقر على ملمس pause للحظة تساكن معها.
أما الفيلم ففي حركيته تكتمل اللحظة المستهدفة التي يريدها المخرج .
أما القصة فهي اقتفاء لحطة مسكونة بفكرة تدهش قارئها بعيدا عن كل ثرثرة في السرد.
وأما الرواية فهي مسح ضوئي لحيز حيوي يعج بالشخوص الفاعلة والمنفعلة في فضاء مكاني ومحور زماني.

(1) زعب الخوخ/عبدالباقي قربوعة
قراءة العتبة يظنّها البعض شيئاً من النقد كَمنْ يصف بذرة على أنّها هي ذاتها البستان ؛ جاهلين بذلك فعل القراءة أو متوجّسين من الولوج إلى دهاليز النصّ لكونهم غير مدجّجين بأدواتها من جهة مناحيها التناولية والإجرائية والمفاهيمية .. بينما العتبة هي مجموعة الشِفرات الواسمة للكائن المكوَّن المسمّى نصّاً يمكن من خلالها النفوذ إلى بعض المجاهيل والإشكالات النصّية خدمةً للقراءة وليست هي القراءة .
ولستُ هنا بصدد الاستمرار في الحديث عن العتبة بالقدر الّذي أريد فيه فعلاً استجلاب عتبة سردية لنصّ روائي ممتاز يمكن بسط آليات التناول فيها من خلال قراءات خاطفة تكون مفاتيح استشرافية للنص / الكائن ؛ وقبل ذلك لا بدّ من صُنافة أوّلية للكمّ الهائل من العناوين :
ـ المفرد ذو المدخل الواحد والمعجمي السمة ومحدود الصيغة .
ـ المُسند ذو المدخليْن والنحوي السمة وكثير الصيغة.
ـ المفيد ذو المداخل الثلاثة ويكون جملةً قصيرة أو شبه جملة والبلاغي السمة ومتعدّد الصيغة.
ـ الممتدّ ذو المداخل المتعدّدة ويكون جملة طويلة والخِطابي السمة ومتفرّع الصيغة .
… وهذه الصنافة تلامس العنوان في بنيته التكوينية فَقطْ وهناك تصنيفات أخرى تكون نمطية هي بحاجة إلى مقال متفرّد ولا جدوى منها هنا !
والآن ليكن لدينا مضغة نصية مسمّاة “زغب الخوخ” مثلاً ولتكن مخصّبة بقلم كاتب روائي جزائري يُدعى “عبد الباقي قربوعة” ؛ فالنظر إلى هذا الإسناد من جهة النحو لا يجعل المضغة مخلَّقة من وجهة نظر دلالية حتّى تتمّ كلّ القراءة الإفرادية لإحداث ما أسمّيه “التفاعل الدلالي” بين المكوّن المعجمي والمكوّن النحوي الإسنادي والإضافي لإسقاط المجانسة الدلالية بين الهشاشتين واستخراج المعطى النقدي وفكّ التشفير الرسالي بين “الكوديْن” انطلاقاُ من مدلول الهشاشة في ملفوظ “الزغب” لدى صغار الطيور وتحديداً تلك الفراخ الصغيرة جدّاً والطرية جدّاً الفاقدة للصلابة والفحولة أيضاً والممتلكة للنعومة المفرطة ؛ هنا يضع الناصّ توصيفه الاستعاري الأوّل غير مكتفٍ بتلك الدلالات التوصيفية البلاغية بل يوظّف دلالات البلاغة الدارجة أو الدلالة العرفية من خلال القصدية الاستعارية لزغب”الفرخ” وهذا للإحالة إلى معنى انعدام النسب الموصوف به شخوص كثيرون تحدّدهم تلك الإضافة إلى ملفوظ”الخوخ” متخطّياً سلاسة الفاكهة وحلاوتها وميوهتها بمعنى الركون إلى نزوات تصنعها ثروات ؛ لكون المتفكّهين يكونون من أثرياء القوم ، واختيار فاكهة الخوخ للانزياح إيقاعياً من خلال إيحائية صوتية يصنعها حرف الخاء كدلالة عرفية للتقذر والتنفير ، وأيضاً جاء الاختيار لربط المشاكلة بين الزغب الحيواني والزغب النباتي وإضافة الأرقى إلى الأهوى مع تغييب لكلّ عنصر إنساني للإمعان في الهجاء الناعم للشخوص المقصودة باللقطاء السافلين الأنذال ، الراكنين إلى نزواتهم الهشّة عند بقية أسيادهم ؛ وفي المعطى المقابل الإحالة إلى الثناء النائم من خلال الهجاء الناعم توحي به طباقية افتراضية تعكس المعنى وتحيل إليه فوراً في المعجم الذهني لدى المتلقّي .
والآن لم يبقَ سوي الاستقراء الصنافي للعتبة واستخراج إمكاناتها الصياغية بالوثوب إلى صيغ ممكنة مع تجاوز غير الممكنة لاختراق مخيال العاتب وأعني به هنا باني العتبة وأعني به هناك هاجي ساكنيها !
فَمنْ “زغب الخوخ” كان بالإمكان أن يكون “الزغب والخوخ” وبدلاً من الإضافة يكون الفصل بينهما من زاوية تركيبية كانت ستفسد ذلك الإمعان ويسقط معنى اللاانتساب ويفكّك تلك الوحدة السردية بين معطى اللامنتسب اللقيط ومعطى الخلاعة والخنوع ، وانهيار محمول تركة البلاغة العرفية في حامل المخيال لدى الناصّ الروائي ؛ ومثلها أن تكون ” خوخ الزغب” ممّا يقلب طاولة الهجاء فيولد ثناء اجتزائي للفاكهة وتعاطف ودّي لفراخها ويكون الناصّ مدّعياً ببلاغاته الكاذبة على شخوصه أو بلغة القانون يكون ادّعاؤه غير مؤسَّس الأركان ممّا ينسف بأطروحة النصّ فيكون من مضغةً غير مخلّقة !
أو تكون “زغبُ خوخ” فيكون التجريد ليس إلّا تلويحاً جميلاً من المنطق الرياضي الرقمي الفضفاض سَيمسّ بدلالاته من عناهم ومن لم يعنِهم ويتحوّل الأثر آنياً وآلياً من الإبداع إلى السوسيولوجيا التاريخية ؛ كَأنّه أي النصّ من مضغة مخلَّقة مات جنينها الفاتن بعد الولادة بلحظات !! .


(2) سينما جاكوب/عبدالوهّاب عيساوي
مقهى”إسكندر”..على بعد أمتار من فندق “الأمير” ,وفي الجهة المقابِلة كانت سينما “جاكوب”… كانت الحكاية،وما زالت،وستبقى !!
لأكن مفصولاً عن فضائي/فضائها,أجهل مدينتي وأقرأ كيف حلّ”الرجل المقدوني” في مقاهينا/مآقينا,وكمْ كان مذهلاً اختيار”إسكندر” برمزية تاريخية وأخرى ثقافية تجمع بينهما حِرابية هي الآن قائمة؛اجتياحات مقدونية تنتهي بموت مبكّر لإسكندر،تقابلها صراعات قائمة كأنّها منفوثة من ثقوب إلياذة”هومير” شاعر الملحمة العظيم.
وفي فندق”الأمير” حيث يلتقي السيّاح والعابرون من كلّ الوطن مثلما مرّ من هنا أميرنا ليمتزج المختلفون وتجتمع أياديهم على الراية الأميرية ضدّ الاجتياح المعادل لـ “مقدونيا” وبنكهة لاتينية هذه المرّة لمقاومة”الغالِيّين” الجدد..تلك المقاومة تتوثّب المكان والزمان والإنسان,حتّى لا تصيبَ العُمران في مقتل !!
مدهش هذا التموضع رياضيا على شعاع واحد في الفضاء ذاته بين انفتاح “الأمير” وانكسار”إسكندر”,ومذهل أنْ يقابلهما في الشعاع الموازي لفضاء النص “يعقوب اليهودي” أو “جاكوب” بعطره اللاتيني وزخرف بلاد الغال متلبّساً بعروبة”الأمير الجزائري” فاتحاً مدينتنا بعصور تجوس على الحائط على بعد أمتار من ملاحم البطل المقدوني؛فما ألذّ الانتباه حين نشرب قهوتنا قبل أن تُسكرَنا الجُدران !!
… كلّ الرواية هي”سينما جاكوب” ,عند هذه العتبة تشتعل وتشتغل كلّ الأساطير وتجتاحنا كلّ الملاحم,ويختلط نتوء البناء بنهود النساء..عند هذه العتبة تتحوّل المدينة من مخطوطة دينية عتيقة إلى امرأة تسبح في البحر بقطعتين..عند هذه العتبة ينفجر التاريخ بيننا وبينهم،وينشقّ أخدود الزمن لتعويَ فيه الفتاوى؛فقدْ مُسخ تراثنا ذئاباً ضدّ الحضارة لفسح المجال للملائكة الجدد فلا يوجد الآن قردة وخنازير إلّا في محيطنا العربي..عند هذه العتبة مازال في الرواية كثير من البلاغة العربية والعبرية وبلاغات الغرب والشرق،والجنّ والإنس،والقديم والحديث؛بلاغات ترقّبوها.


(3) رؤوس ممسوخة/مسعود غراب
واقعة المسخ من الوقائع الأدبية الّتي عرفها الأدب قديمه وحديثه, وأشهر واقعتين للمسخ: حمار”أبوليوس” وخنفساء”كافكا”..هاتان الواقعتان لا أصل لهما في أيّ أسطورة من أساطير الأوّلين؛والآداب الهلّينية واللاتينية القديمة مع الآداب الأوربّية والأمريكية الحديثة وسّعتْ من دائرة الواقعة من حالة واحدة إلى مسخيات كثيرة انتشرت في أداب عديدة… والأصل فيها معروف وثابت في القَصص القرآني في واقعة”القردة والخنازير” في قصّة”أصحاب السبت”الواردة في سورة”الأعراف”؛فقبل زمن هذه الواقعة (حوالي ثلاثة آلاف سنة خلَتْ) لم يعرف تاريخ الآداب الإنسانية حالة واحدة من تلك المسخيات,ممّا يثبت محاولة نسف الواقعة ودحض تاريخيتها عبر تمريرها إلى المخيال الأدبي.
… انطلاقاً من المقدّمة الآنفة,وخلف نصّ سابح في التفكير أخرجَ لنا صاحب”رؤوس ممسوخة” القاصّ/”مسعود غراب” رائعته القَصصية لبعث شكل متفرّد لتلك الواقعة المسخية في صورة أكثر منطقية وأقرب إلى الواقع الإنساني؛بلِ انزاح بالحالة من أسطوريتها الأبوليوسية والكافكاوية والرجوع بها إلى حظيرة الواقع,لتقف أثراً بين خطّين:
ـ أسطورية إسقاطية كآلية سيكولوجية للدفع النفسي والدحض الزمني.
ـ تاريخية تفرّدية لم تتكرّر مذْ حدثتْ تعبّر عن إمكانية تنمذجها في الواقع.
… والكاتب تجاوز الاحتيال الأسطوري لاختلاف بائن المشرب والرؤية السابرة لتاريخانية الحدث,حتّى الفضاء السردي في”رؤوس ممسوخة” كان فضاءً عصرياً شمولياً لا يقبل المحاكاة الأسطورية لممسوخيه المعنويين إذ لم يكن المسخ شكلاً امتدادياً لسخافة أبوليوسية ولا انسحاق كافكاوي؛بل أبدع الكاتب شكلاً رائعاً وفريداً للمسخ,فليس من الضرورة أن تنبعث مسخية حصرية الزمان والمكان والإنسان … أو محاكاة فعل التبرير والإسقاط “السيكوستوري” !!
هي تقنية من أجمل وأصدق ما قرأتُ في المسخيات,حيث يتعلّم الممسوخ معنوياً كيف يتعرّف على رأسه وهو في حِلّ منَ المعرفة السابقة في سياق سالفٍ من القِيم المشوّهة أوالمنعكسة..بل فتنة الاختيار وروعة الإخفاء وراء فكر يمتدّ في كلّ الجهات من خلال رمزية دينية غير طافية تمثّلتْ في جلب رؤوس مفصولة عادةً هي من عالم المذبوحات وليتصوّر كلّ إنسان مذبوحاته أيّاً كانت وسيرى القيمة الّتي افتقدها الرأس وانعكست في الذنَب, وسيكتشف حثيثاً أنّ مدينته كانت غير فاضلة وأنّها قَطُّ لم تكن سوى حظيرة مفتوحة لآدميين مُسخوا على مكانتهم فرداً فرداً !!
قصّة”رؤوس ممسوخة” عالجت إشكالية الانقلاب القيمي لدى الإنسان في المدينة الّتي لم تتطهّر بالقيم الفاضلة الّتي أُزيل ماؤها فارتفعت راقصةً أذنابها ورسَتْ رؤوسها, والممعن في طهر مائها يرى مسخها في حطيرة البشر,وتدخّل الغريب في فعل إبرازها تحت الماء وفوق الماء يُحيل إلى منظور ثيولوجي راسخ قابع بين النصوص/نصّ”الغرابة” ونصّ”الضلالة” قبله “بلْ هم أضلّ سبيلا” حين”سيعود غريباً” !!.


(4) ثلج مدينة جنوبية/خليل حشلاف
في ليلة عيد ميلاد الحبيبة يفكّر عاشقها في أجمل هدية وأثمنها !
كان يحدث هذا في زمن جميل كانت تندر فيه الحبيبة ، وكان للقلب سلطانٌ على النفس الوالهة ؛ أمّا اليوم فَلمْ يعد للثورة العاطفية معنى فَقدْ حلّتْ محلّها ثورة الجسد وسُعار الشهوة من طرفيْ الثنائية الإنسانية (الرجل والمرأة) ؛ فَصار الجنس مَشاعاً وبارداً مثل “الآيسكريم” وَلمْ يبقَ شيء لِ”حوّاء” في زمننا !!

في المدينة الجنوبية ترتسم في لوحة الرؤية غالباً ثلاثة إظهارات :
ـ إظهار جغرافي يرمي بها غالباً إلى أسفل التمدّن وهذا جليّ في مدن العرب ، والكاتب عربي وينطلق من مدينته إلى فضائه السردي بهذا الإظهار الجغرافي .
ـ إظهار إيكولوجي يجعل مدن الجنوب عندنا صحراوية تخلو من كلّ الابتلالات ويتفاخر فَقطْ بالظمأ اليومي ؛ فتخلو من كلّ جماليات حرف الميم بدءاً من ميم الماء حتّى الميم الأنثوية وبينهما لا مكان لموسيقى الحبّ !!
ـ إظهار إناسي بكلّ تمظهراته الأنثروبولوجية من المعتقدات إلى العادات وهيمنة المجتمع الذكوري وغياب الرغبات والارتماء في أودية الخرافة في غياب العقل واحتقار الجسد في لحظات تواصله والْتصاقه …

ومحنة المثقّف المبدع تكون أشدّ ما تكون في ابتلائه الوجودي بمثل هذا الفضاء بكلّ حرماناته الطبيعية والثقافية والاجتماعية والعاطفية … مدينة تأسر ساكنيها في أتون الاحتراق والاجتفاف ولا مكان للميمات الجميلة : للماء ، للمَرج ، للمرأة ، للموسيقى ، للمرح ، للمحبّة ، لا ميم فيها إلّا الموت في انتظار باعث يحيي القلوب بعد موتها في هذه المدينة الّتي أعيتْ راسمَها في نقل الحجر وانقطاع الشجر وبؤس البشر بِ”الفِرجون الكئيب” على لوحاته الجنوبية !!
والفنّان المغترب في واقعه يلوذ إلى بياضه الافتراضي ليصنع واقعه المُشتهى في سراديب الرغبة الآبقة من سيادة أنثروبولوجيا المكان كما أومأ الكاتب في قصّته في انتظار أنْ يفاجئه بياض واقعي ذات صباح إيكولوجي فريد وذات مدينة كانت نائمة في حلمه مذْ كانت تلك العجوز صبيةً تحلم بالثلج الّذي يدفعها الآنَ لتلعب مع الأطفال الّذين فارقوا لحظتها من عشرات السنين وتفتدي بقطرات من دمها العتيق من دم طفولتها شاكرةً ربَّها على بلوغ اللحظة أنْ ذاقت برودة الثلج قبل أن يبرد دمها تحت المدينة الجنوبية الملتهبة …
وهنا يُعطي الكاتب مثلاً لكلّ العجائز والشيوخ في ارتمائهم البياضي البريء تاركين أثقالهم الأنثروبولوجية تحت هذا الثلج متغافلين لساعاتِ ما يصنعه نهار الثلج بين أبناء المدينة وبناتها في صورة المعطف الأحمر حيث يخفق القلب المشتعل بمشاعر الوله بين الذكر والأنثى ، وصورة البنطلون الأبيض الناطق بطهر ما وراءه لدى الفتاة الجنوبية ؛ هذه الصورة تبرز تلك الاختلاسات والاستراقات داخل المجتمعات الجنوبية لحظة توفّرها في غياب الرقيب غير الطبيعي .
وفي الليل يلبس ثلج المدينة الجنوبية ثوب الحداد ويتوارى الفنّان خلف نافذة البيت مدركاً أنّ هذا الثلج هو كحلمٍ سينتهي بصراخ الواقع المقيت والجامد كيديه بحاجة إلى الهروع إلى تلك المدفأة المركونة إلى أحد جدران الغرفة مثل حبيبته المركونة في البيت الجنوبي مثبّتة بمسامير اجتماعية صدِئة ، تبحث عمّن تهبه قلبها الدافئ حبّاً وتمرّ كلّ أعياد ميلادها بلا هدايا ؛ تلك الهدايا العاطفية الّتي تنحصر في زجاجة عطر تشمّه في محلّات مخياله مع لمسة حرير وبريق ذهب بمذاق الشوكولا .. لكنّ الهولندي العاشق في مدن الشمال يسخر من كلّ هدايا الجنوب فيرسم في أكثر أيّام حياته بياضاَ من غير بياض ثلجنا الجنوبي أغلى هدية إلى حبيبته ؛ يهبها أذنَه الّتي أسمعتْه كلماتٍ ليست كالكلمات وأطربتْ رسّامَنا العالمي الكبير “فان غوغ” !!
فلتمتلئ أسرّة المحبّين صدقاً إنْ وُجدوا الآن بالأحمر المشتعل والأبيض المتطهّر بعيداً عن التخلّف العاطفي في مدننا والتفسّخ الغريزيي في مدائن الشهوة … وأختم صديقي في انتظار البياض الماكث بلا ثلج يعادل حياتنا لا كما عادل المدينةَ في “ثلج مدينة جنوبية” .


(5) ثقوب الصمت/ مجمّد بلقاسم الشايب
ليلٌ وصرصار وناي وعازف,تبدو جميعها داخل الفضاء المسمّى غرفةً مكوّناتٍ لِلوحة تشكيلية رباعية الأبعاد .
ترسم هذه اللوحة في تبطينها الزمني سيرة رجل (فنّان) كان يعزف بالناي ثمّ هجر الناي أو هجره الناى..ليست هنا المشكلة ولو أقصينا صفة”الفنّان” فليكن رجلاً من العامّة ,هو إنسان في نهاية الأمر تعاطى شيئاً من العزف وأصيب بشيء من العزوف .
ومساحة هذه اللوحة السردية بين وقوع ( مفاجئ ) للسنّ وإيقاع مزعج للصرصار تبدو المسافة الزمنية بينهما طويلة؛فالناي السابت تحت السرير بين الأشياء المهملة يؤشّر لِساعات الهجر البعيدة,وإيقاع الصرصار لم يزعج فيه حالة النوم بل أيقظ فيه حنينه إلى العزف !!
الصراصير في الليل تصنع كورالاً من إيقاعاتها بكلّ حرّية وبلا مانع إلّا فردة حذاء قد تصيبها أو عدوّاً من مملكتها يبتلعها,والعازفون من البشر لا يملكون تلك الطلاقة فسقوط سنّ أو بتر إصبع يسكت فنّهم ولو رضي أعداؤهم جميعاً بالعزف..وهذا ما منع البطل من قتل الصرصار، وتشبيهه بالكلب النابح ما هو إلّا إسقاط لرؤية الآخر للفنّ .
وسقوط السن كان ذريعة للانتصار والحقيقة أنّ الضغوط الأخرى ( غير المصرّح بها) هي المانع الحقيقي الأوّل للعزوف عن العزف,وأنّ الحشرة كشفتْ ضعفه أمامها واستفزّت فيه خبيئته وأصابته بالخجل من ذاته !!
وهذا ما صوّرته قصّة”ثقوب الصمت” لكاتبها”بَلقاسم الشايب” معتمداً في تشكيله السردي على معادل أنطولوجي للسرد في حشرة,والملفت المثير في عنوانها ووسم العتبة بالسمة المعادلة لفضائها؛ فإضافة الثقوب إلى الصمت ينفذ بنا إلى الشروخ النفسية الّتي أحدثها الآخر/الديني,الاجتماعي..وثقوب الناي لا تصدر صمتاً وإصلاح السنّ كان ممكناً قبل أنْ يجيء الصرصار ويحثّه على الرجوع واتخاذ القرار الصحيح !!
وإذا نحوتُ منحىً إليوتياً فالقصة ممتازة ورائعة لاحتوائها على المعادل الموضوعي,بل نجح الكاتب إلى حدّ بعيد في هذا المنحى؛ لكن النجاح الحقيقي للقصّة وهو متوفّر فيها يكمن في قدرة كاتبها على إبراز فكرة واضحة بوقائع خفية لا تطفو على النص…
في الأخير,أعتبر هذه القصّة من أروع ما كتبه”الشايب” في مجموعته الموسومة”أنا الممضي أسفله” والصادرة عن”الجاحظية” في طبعتها المحتشمة ضمن سلسلة جعلتْ من عمله وأعمال أخرى نقوداً تحت التبن ممّا يدفعني إلى نصحه بالخروج من المتبنة ووضعها في الواجهة المقروءة لتُمضي في أعلى نصوصك خروجاً من أسفلها !!.


(6) فرار/بن ساعد قلولي
“تاه في بحر عينيها السوداوين .. لم يكن سبّاحاً ماهراً .. كان حديثَ عهدٍ بالسحر والجمال .. مسّه صداعٌ في رأسه … قال قارئ أطلّ من جُحر المعنى : لَقدْ توجّه على جناحِ السرعة إلى حمّام الصالحين ليغسلَ وجدانَه من أثر الضياء الّذي لم يتعوّد عليه.”
—————-
… هذا نموذجٌ سردي ممّا يُسمّى “القصّة الفلاشية” وكاتبُها يحترف النقدَ جيّداً خاصّةً على الصعيدين : الثقافي والمعرفي وتحديداً يختصّ بكتاباته النقدية في الحقل الناراطولوجي , وسأبحر في نصّه الوامض ابتداءً من عتبته مروراً بالمعنى وانتهاءً إلى مُخرجات النصّ .
دائماً يكون الإفراد المقصودُ والتنكير المتعمّد مُعطييْنِ للإبهام والغموض,وأيضاً يكون تخصيصاً لذاته تؤطّره محدّدات تعطيه خصوصيته بالزمن أوالذات أو الفكر أو الذوق … والاختيار كان موفّقاً معجمياً حيث الفرار يكون من كلّ جلَل يصدر من حرّ مُريد , وهو تعبير دقيق عن أوّلية المواجهة بين طرفيها (رجل حديث التجربة وامرأة صارخة الجَمال) فمن المعقول وليس طبيعياً أن يقع الطرف الفارّ من الآخر / المرأة بفتنتها في جبنه العاطفي وانتكاسِه الغريزي .
وهنا أقتحم نصّه بأوّليات أطلقها كومضة: (تيه،بحر،عينان،سواد) وأتّفق معه مبدئياً في تيه البحر وفقدِ مؤشّر العودة مخافة الغرق اللابث في سواد عينيها , لكن ألا تتّفق أنتَ معي في كون الضياء الّذي يغتسل منه أخيراً لايتناسب والبحرَ / الأسود في عينيها ؛ فالصورة لا تتماسك بدايتها المظلمة مع نهايتها المضيئة للوجدان ؟؟ .. وتسويغاً للصورة لنضعِ الكناية في زمن الليل حتّى تستويَ الصورة للإبقاء على جمال عينيها في بحرِ السواد الفاتن ليلاً , وهنا يتسلّل سؤال آخر : كيف يغتسل المبحر غير الماهر من أثر لم يقع ومنعه فراره منه ؟؟
واختيار “حمّام الصالحين” هو إحالة قطعية الدلالة على وجوب العودة إلى صلاح معهود أو مفقود ؛ وهنا يتجلّى تناقضٌ ممكن الحدوث في الصورة / الإشكال مع المعنى ولا يمكن هنا التسويغُ ثانيةً حيث الفرارُ يُبقي على المعهود والفقدانُ للصلاح يكون مانعاً أكيداً للفرار !!
ونساوقُ النصّ دائماً لصالح النصّ لإعطاء مسوّغ احتمالي آخر وهو أنّ الفرار وقع بعد الأثر فكيف يفرّ المرء من أثر الضياء غير المحتمل بماء الصلاح المفقود ؟؟
إنّ هذه المفارقةَ العجيبة الّتي يطرحها النصّ تستعصي على القراءة وتجعلنا ننصاع وراء قول القارئ المطلّ من جُحر المعنى ؛ تضييقٌ أراده الكاتب حتّى يُبقيَ لنصّه سؤالاً متجدّداً ومثيراً للجدل .
ولا يهمّ إدراك المعنى للنصّ بقدر ما يهمّ كشف بعض مخرجات النص متمثّلة في جمالية الاختيار وانزياحاته ، وتعميق الإشكال السردي ، ودهشة المفارقة الماثلة ، والخطف الجميل للنصّ ، وفرض سلطة للقراءة ، وإطلاق ديمومة للأثر … كلّها مُخرجات أنتجتها مفردات تختزن بالكثير من المعنى ، تحتاج كلّ واحدة منها إلى بسط قراءة إنتاجية من جديد !! .
لكن قبل مغادرة هذا الأثر الجميل كان واجباً نقدياً على كلّ قارئ أنْ يعرف من ذلك القارئ المُطلّ ؟!
الظااهرُ في النصّ الماثل انقطاعٌ سردي مفاجئٌ عند حدوث الصداع حتّى يلجأ الناصّ إلى خلق المفارقة وإدهاش المتلقّي بإدامة الأثر فيه ؛ حيث يباغت قارئه ويورّطه في صنع المفارقة والإدهاش والمعنى ليجعله مطلّاً من جحر المعنى وليس المعنى ؛ تسويغاً لقراءاتٍ أخرى قادمة واستتاراً من المساءلة عن المعنى ذاته الّذي استعصى على القبض !! .

 

 

 

* قاص وناقد من الجزائر

اترك تعليقا