(قُدّمت هذه الورقة النقدية كمداخلة في الملتقى الدولي “واقع الجماليات البصرية في الجزائر” المنعقد بكلية الفنون/جامعة مستغانم في 11/ 12 نوفمبر 2014)
مقدّمة:
تشتغل هذه الورقةُ النقدية على مفهوم الصّورة السينوغرافية في العرض المسرحي، بوصفها خطاباً بصرياً يقوم على مجموعة من العلامات المحمّلة بدلالات يستقبلها المتلقي ويقوم بفكّ شفراتها للوصول إلى فحوى خطابها الجزئي الذي يتضافر مع خطاب الممثّل لتحقيق الهدف العام من العرض المسرحي.وعلى هذا الأساس تشكّل مسار هذه الورقة من محطّتين اثنتين:إحداهما نظرية والأخرى إجرائية:
تحدّدت تضاريس المحطّة الأولى في النقاط الآتية:
أوّلاً: الصورة في المسرح:مقاربة نظرية.
ثانياً: الصّورة السينوغرافية:
1/ السينوغرافيا: حدّ المصطلح وارتحالاته.
2/ مهام السينوغرافيا اليوم ورهانات المستقبل.
أما المحطة الثانية فقد كانت تحليلاً للتشكيل السينوغرافي في واحدٍ من العروض المونودرامية الجزائرية الشهيرة، وهي مونودرام ” حمق سليم ” للراحل عبد القادر علولة، وفق الخطوات التالية:
ثالثاً: وسائل التشكيل السينوغرافي في مونودرام “حمق سليم”.
1/ الأكسسوار/ Les Accessoires.
2/ الملابس/Les Costumes.
3/ الدّيكور- الإضاءة/ Le Décor-L’éclairage.
أوّلاً/ الصورة في المسرح:مقاربة نظرية:
من المؤكّد أنّ العرض المسرحي لا يتكامل خطابه بالدلالة اللّغوية فقط، بل في تفاعله مع بقية العناصر المسرحية، وبين المتلقي الذي يتفاعل مع الحركية البصرية واللّغوية.وأيّ عمل مسرحي يحتاج إلى حركة مسرحية تنسجم وتتفاعل مع الألوان في تحليل الإبداعات التشكيلية وبناء الصّورة المرئية.فقواعد المنظور المسرحي تُعطى لتكوين الإيحاء بالمكان المتّسع داخل فراغ المسرح(2) وهو ما يشكّل “الصورة المسرحية” الكليّة.وإذا كانت الصّورة في مفهومها العام تمثيلٌ للواقع المرئي ذهنياً أوبصرياً، أو إدراكٌ مباشر للعالم الخارجي الموضوعي تجسيداً وحسّاً ورؤيةً(3).فإنّ الصورة المسرحية لا تخرج عن زاوية هذا المنظور؛ فهي «تقليصٌ لصورة الواقع على مستوى الحجم والمساحة واللّون والزاوية.ويعني هذا أنّ المسرح صورة مصغّرة للواقع أو الحياة، وتتداخل في هذه الصورة المكونات السمعية والمكونات البصرية غير اللفظية»(4).ووفْق هذا الطرح يُصبح «كلُّ شيء يُشكّل واقعاً على خشبة المسرح:نصّ الكاتب المسرحي، تمثيل الممثّل، والإضاءة المسرحية.كلّ هذه الأشياء، وفي جميع الحالات ترمز إلى أشياء أخرى.فيكون العرض المسرحي بهذا المعنى مجموعة إشارات»(5).وقد عبّر عن المعنى ذاته (O.zich/أوتكار زيش) في كتابه “علم جمال الفنّ الدرامي” بقوله:«هو فنّ الصور/images وهو كذلك من جميع النواحي على الإطلاق»(6).
تتكوّن الصورة المسرحية من مجموعة من الصور البصرية التخييلية المجسّمة وغير المجسّمة فوق خشبة الركح، منها:الصورة اللّغوية التي يمثّلها النصّ، وصورة الممثّل، والصورة الكوريغرافية، والصورة الأيقونية، والصورة الحركية، والصورة الضوئية، والصورة السينوغرافية، والصورة التشكيلية، والصورة اللونية، والصورة الفضائية، والصورة الموسيقية الإيقاعية، والصورة الرصدية(7).وفي هذا السياق أشار (T.kowzan/ تاديوز كاوزان) إلى وجود ثلاثة عشر شفرة، يُقلّص العالم الدرامي فيها وهي(8): “
“1- الكلمة،
2- النغمة(لهجة المتكلّم)،
3- الإيمائية(تعابير الوجه)،
4- الإيماءة،
5- الحركة،
6- الماكياج،
7- تسريح الشعر،
8- الملابس،
9- الإكسسوار،
10- الديكور،
11- الإضاءة،
12- الموسيقى،
13- الصّوت”.
وقد لاحظ (كاوزان) أنّ العلامات البصرية أكثر حضوراً في العرض المسرحي مقارنةً بالعلامات اللّسانية اللفظية؛ حيث قدّر عددها بتسع علامات من أصل ثلاثة عشر علامة.وتخضع هذه العلامات أو الشفرات إلى قانون التحوّل المستمر في العرض المسرحي، ومن ثمّ لا تُعدّ الصورة المسرحية هي الشكل البصري فحسب، بل هي تلك العلاقات والحوارية البصرية؛ العلاقات البصرية التي تجمع مكونات العرض الفنّي المسرحي ذاته، والحوارية البصرية بين هذه المكونات والممثلين والمتفرجين(9).
ونظراً لتعدّد الصور الفرعية التي يُشكّل تضافرها الصورة المسرحية الكلية، سوف نعمل من خلال هذه الورقة النقدية على التركيز على واحدة من أهم تلك الصور الفرعية التي عرفت إشكالات كثيرة على المستويين النظري والإجرائي وهي الصورة السينوغرافية.
ثانياً/ الصورة السينوغرافية.
1- السينوغرافيا :حدّ المصطلح وارتحالاته:
في البدء نُشير إلى أنّ قلّة البحوث والدراسات التي تُعنى بالسينوغرافيا على مستوى التداول والممارسة، سواء ما كان منها تأليفاً أو كان ترجمةً، قد فتح باب الالتباس والغموض والارتباك في فهم حدود هذا المصطلح، شأنه شأن غيره من المصطلحات الأدبية والفكرية والفنية الوافدة على ثقافتنا العربية.ولعلّ قلّة من المسرحيين في المغرب والجزائر وتونس قد أبانوا عن استيعابٍ واضح لهذا المفهوم نظرياً وإجرائياً لقربهم واحتكاكهم بالثقافة الغربية خاصّة الفرنسية.عدا هذا الاستثناء ظلّ مفهوم السينوغرافيا – عربياً- يفتقد إلى إضاءات عبر دراسات جادّة ترفع عنه اللّبس وضبابية الفهم، وتُصادر تلك المقالات المبتسرة الصادرة عن أقلامٍ غير متخصّصة في الصحافة الإلكترونية بالتحديد.
مصطلح السينوغرافيا من المصطلحات الحديثة في الخطاب المسرحي العربي بشقيه الإبداعي والنقدي؛ فقد بدأ تداوله من طرف المسرحيين العرب في ثمانينيات القرن الماضي.ولعلّ أوّل من استخدمه مسرحيو المغرب العربي بحكم اتّصالهم الوثيق بالثقافة الفرنسية.ثمّ بدأ استخدامه تدريجياً في أنحاء أخرى من العالم العربي(10).وقبل أن نقدّم إضاءة لهذا المصطلح ونقف عند حدود مفهومه.نحاول في البدء الكشف عن أصوله في المسرح وارتحالاته نحو مجالات أخرى عبر الأزمنة.
اشتُقّ مصطلح “سينوغرافيا” من الكلمة اليونانية”Skênographia” التي تمّ نحتها من كلمتين هما:” Skêne” وهي الخشبة، وكلمة”graphikos” وتعني تمثيل الشيء بخطوط وعلامات، ويُضاف في اللغة الإنجليزية إلى كلمة “سينوغرافيا” تعبير(Set Design) أي تصميم الخشبة(11). وفي العهد اليوناني اعتبَر(أرسطو/Aristote)(384- 322ق م) المناظر وتجهيزات الخشبة أحد المكوّنات الستّة للتراجيديا، وإن كانت أقلّها أهمية، حيث يقول في هذا الصدد: «صناعةُ المسرح هي أدخل في تهيئة المناظر من صناعة الشّعر(…) والمنظر، وإن كان ممّا يستهوي النفس فهو أقلّ الأجزاء صنعةً وأضعفها بالشّعر نسباً »(12).وفي القرن الخامس قبل الميلاد كانت هذه الكلمة تُحيل على معنى فنّ تزيين واجهة الجزء المخصّص للتمثيل بعوارض مرسومة تُمثّل مناظر طبيعية أو معمارية تدلّ على مكان الحدث(13).وفي عصر النهضة في إيطاليا صارت الكلمة مفردة من مفردات فنّ العمارة، ودلّت على “المنظور” وهو أحد الرسوم الثلاثة التي كانت تُقدّم للبنّاء قبل أن يشرع في البناء إلى جانب “المسقط” و”الواجهات”.وعندما أصبح تحقيق “المنظور” هو الأساس في تصميم الديكور المسرحي في عصر النهضة والقرن السابع عشر، انتقلت كلمة “سينوغرافيا” للدلالة على فنّ تحقيق المنظور بالرسم في ديكور المسرح واستُبدلت تدريجياً بكلمة “ديكور”(14).
توسّع مدلول الكلمة في العصر الحديث، وتجاوز دلالة مصطلح “الديكور”، فإذا كان مجال “الديكور” هو ما يوجد على الخشبة حصراً، فإنّ “السينوغرافيا” صارت تختصّ بالبحث في علاقة (الممثل والمتفرج) بالفضاء المسرحي، وعلاقة كلّ المفردات المسرحية ببعضها بما فيها الخشبة ومكان المتفرج(15).ومع منتصف القرن العشرين ظهر مفهوم “التجريب/Expérimentation” في مجال المسرح، و أفرز العديد من المفاهيم والأطروحات الجديدة حول تنظيم الفضاء المسرحي، قام بالتنظير لها مجدّدو القرن العشرين من أمثال (أدولف آبيا/A.Appia)(1862- 1928)، و(غوردن كريغ/ G.Craig)(1872- 1966)، ابتغاء إعداد الفضاء المسرحي وإعطائه مسحة تشكيلية.وهو ما غيّر النظرة إلى هذا المفهوم من مجرد عنصر مكمّل في العرض المسرحي إلى عنصر محرّك له، وحامل رئيس لدلالته.فتتوجّه السينوغرافيا – تبعاً لهذه الرؤية – من العناية بالتكوينات البصرية والعلاقات المكانية الناشئة في هذا الفضاء، والكُتل المتحركة فيه(الممثل، الضوء، اللّون، الديكور..)(16).
وبهذا أصبح مصطلح “السينوغرافيا” يحيل على مفهوم « تنسيق الفضاء المسرحي والتحكّم في شكله، بهدف تحقيق أهداف العرض المسرحي الذي يُشكّل إطاره الذي تجري فيه الأحداث»(17).و هناك تحديد أكثر دقّة تمّ فيه مراعاة عنصر المتلقي في الدلالة المعاصرة لهذا المصطلح، وهو أنّ السينوغرافيا «عملية تشكيلٍ بصري/صوتي لساحة الأداء التي يُشارك المتلقي في تشكيلها بوجوده وخياله، فهي عملية إرسال مركّبة تُقابلها وتكمّلها عملية قراءة مركّبة يقوم بها المتلقي»(18).ويقوم مبدع هذه العملية (أي السينوغراف) باستثمار تقنيات الديكور، الإضاءة، الأزياء، اللّون، الفراغ، الحركة، الكتلة، الصوت،…ليُشكّل من معطياتها، وفق رؤية موحّدة، تكوينات بصرية- مشهدية تنطوي على علامات مكانية وزمانية ذات قدرة على التوليد الدلالي(19).
يتّفق جلّ المهتمين بالمسرح على أنه يوجد مجالين للسينوغرافيا المسرحية هما(20):
أ/ سينوغرافيا التقنيات:
ويتركّز اشتغالها في دراسة وتصميم واقتراح كلّ ماله علاقة بالمكان المسرحي.
ويمكن أن يكون السينوغراف في هذه الحالة مهندساً معمارياً ينصبّ عمله على:
- تحديد قياسات الخشبة وحجمها نسبةً إلى الصّالة انطلاقاً من نوعية العروض (مسرح، باليه، أوبرا…إلخ).
- تصميم العلاقة بين الصّالة والخشبة معمارياً وتقنياً بمراعاة بعض المعايير:كشروط الرؤية، وهندسة الصوت Acoustique، واختيار نوعية التجهيزات الصوتية والضوئية.
- حساب قُدرة الصّالة على استيعاب عدد معيّن من المتفرّجين والقدرة على إخلاء الصّالة ضمن شروط السلامة.
- تصميم أماكن الخدمة الملحقة بالمسرح والأماكن المخصّصة للممثلين والعاملين.
ب/ سينوغرافيا الديكور:
وهي أقرب إلى صلب العملية المسرحية، ويتركّز عملها على تصميم الديكور، وفي كثير من الأحيان تصميم الزيّ المسرحي والأكسسوار والأقنعة والمؤثرات الخاصة من إضاءة ومؤثرات سمعية.يعمل سينوغراف الديكور إلى جانب المخرج لكي يتحقق الانسجام في أسلوب العمل إجمالاً.وينصبّ عمله على معالجة الفضاء المسرحي بكلّ أبعاده (داخل/خارج) ومكوّناته (إضاءة وإكسسوار من جهة، والتكوين من خلال الخطوط والكُتل والفراغات والشكل واللّون والملمس من جهة أخرى.
2/ مهام السينوغرافيا اليوم ورهانات المستقبل:
إذا كانت الصورة السينوغرافية «ترتكز على تأثيث الفضاء سيميائياً وأيقونياً، وتحويله إلى تحفة تشكيلية بصرية لونية وجسدية وضوئية وإيقاعية.ومن هنا، فالصورة السينوغرافية هي صورة مشهدية كبرى تشمل على مجموعة من الصور المسرحية الفرعية كالصورة اللّونية(الأزياء، والماكياج، والتشكيل…).والصورة الضوئية(الإضاءة…).والصورة الإيقاعية الزمنية(الموسيقى…).والصورة الجسدية(الرّقص والكوريغرافيا، وحركات الجسد…).والصّورة الفضائية(تقسيم الخشبة وتوزيعها…)»(21).فإنّ وظيفتها الأساسية تنحصر في الوقت الراهن في «إعادة تشكيل الفضاء المسرحي، وإخفاء الحدود بين الركح والجمهور، ثمّ السعي إلى تأسيس علاقة مكانية وبصرية بين الدراما والمتلقي، والعمل على توسيع الصورة والمكان المسرحي التقليدي بالاتجاه نحو التراكيب والأشكال والأحجام المستقلة المتحركة التي تُسهم في التعبير الدرامي، فالتنوّع اللامحدود واللانهائي للعمل السينوغرافي انطلاقاً من الفراغ، هو تنويع صور الفراغ وتوسيع مجالات الحركة فيه، لأنّ كلّ شيء فيه يمكن هندسته وبناؤه»(22).
ووفقاً لهذا الطّرح تصبح الخطّة القبْلية التي كان يعمل وفقها الديكور قديماً مرفوضة بالنسبة للسينوغرافيا لأنها خطّة جاهزة تحيل على دلالة منتهية وتابعة لباقي الدلالات التي يعمل العرض المسرحي بكلّ مفرداته على خلقها وتوليدها ولا يُشرَكُ المتلقي في فعلها لأنه لم يكن حاضراً لحظة تصميمها؛ ذلك أنّ «البناء القبلي مرفوض، أما ما هو بعدي فهو فنون السينوغرافيا التي تصير بالنسبة للمتلقي إمكانات بصرية تخييلية ومتلفّظة تجعله يشتغل على ما يرى ويسمع ليملأ الفراغ بحيوية خياله»(23).هنا تتجلى الفروق الواضحة بين مفهوم”سينوغرافيا” ومفهوم “ديكور”؛ فإذا كان الديكور- في المسرح – في الماضي يقوم على استثمار إمكانيات الرّسم في تحقيق “الإيهام/Illution”.فإنّ فنّ السينوغرافيا اليوم يقوم على استثمار الفضاء المسرحي كفراغ من أجل إعطاء المسرح بُعداً شعرياً.وتطبيقاً لهذه الرؤية الجديدة، استثمر المخرج الروسي” ڤسيڤولود مييرخولد/V.Meyerhold”(1874- 1940) النظرية البنائية التي تقوم على استثمار تناغم الخطوط الأفقية والعمودية في فراغ الخشبة للتوصل إلى شكل عرض يقوم على رفض الإيهام.كما فتح الروسي “ألكسندر تايروڤ/A.Tairov”(1885- 1950) – بالتعاون مع الرسّامين في المسرح- الباب أمام توجّه جديد ظهر في ألمانيا وتجلى بأعمال مدرسة “الباوهاوس/Bauhaus”، التي عمل القسم المسرحي فيها على تطوير التجريب حول العلاقة بين الألوان والأشكال، وكان له الفضل في تطوير النظرة إلى سينوغرافيا المسرح(24).
وفي السنوات الأخيرة اتّسع مجال السينوغرافيا عالمياً، فتجاوز نطاق المسرح إلى كلّ ما يدخل في إطار تصميم الفراغ وأساليب استثماره في المعارض والمتاحف والعروض المُبهرة والاحتفالات الجماهيرية مثل افتتاح الأولمبياد على سبيل المثال.أمّا في العالم العربي فمازالت السينوغرافيا كاختصاص مستقلّ معماري وتقني له علاقة بالمسرح، في خطواتها الأولى بل وتكاد تكون مجهولة(25).وليس من المبالغة في شيء أن نقول أنها مازالت في طور الحبو تحاول أن تتلمس طرق نهوضها في غمرة التنظيرات الغربية المتراكمة وما يعتورها من إشكالات.
تُراهن السينوغرافيا على «ترويج ثقافة بصرية لا كلامية، إنها رهاناتٌ مشروطة بـ “التحيين الإخراجي” وبإثراء الفضاء بتعدّد زوايا النظر والمشاهدة بعيداً عن “مادية النصّ”.إنها تريد أن تجعل العرض مسكوناً بالعديد من الإيحاءات التي تخترق فضاء الركح وجغرافيته باستحداث فضاءات أخرى داخل هذا الفضاء الهندسي وقد تراكبت فيه مجموعة من الأنظمة الإشارية»(26).
وسائل التشكيل السينوغرافي في مونودرام “حمق سليم”:
1- الإكسسوار/ Les Accessoires:
حدّد “باتريس بافيس/ Patrice Pavis” في معجمه المسرحي مصطلح “إكسسوار” بأنه مجموعة من أشياء ركحية يُحرّكها الممثلون أثناء العرض؛ بغض النظر عن الديكور والملابس(27).وفي كتاب “عالم المسرح/L’univers du Théâtre ” وضِع الإكسسوار في مرتبة وسطى بين الديكور والملابس، نظراً لمرونته وقابليته للتحوّل إلى حدّ الالتباس من خلال سياق اللّعب والاندماج في وضعية مغايرة لوضعيته الأصلية التي وضِع لها(28).
بقليل من التمعّن في هذا المونودرام نُدرك أنّ الإكسسوار قد حضر وبقوة كوسيلة استعانت بها السينوغرافيا في إيصال خطابها للمتلقي.فإذا كان “سليم” موظفاً إدارياً بسيطاً راح يُسجّل يومياته مع الوظيفة، والبيت، والشّارع.فإنّ (الجريدة، والسجّل، والقلم) كانت هي الإكسسوارات الضرورية المصاحبة لمثل هذا الدّور.وبما أنّ سليم الموظّف سيتحول لاحقاً إلى سليم الأوّل الملك صاحب الجلالة في نقلةٍ نوعية امتزجت فيها التراجيديا بالكوميديا، فإنّ هذه الإكسسوارات الثلاثة ستختفي وستظهر بدلاً منها قطعتان غريبتان، وتكمن غرابتهما في أنهما نُقلتا من وظيفةٍ إلى أخرى بعد إجراء بعض التعديلات عليها لتليقا بالدور الجديد.إنني أتحدّث هنا عن “حاملة الخبز” التي تحوّلت إلى ” تاج الملك”، و”البرنوس القديم” الذي صار رداءً ملكياً فاخراً يحمل خلفه رسمةَ تنّين كأيقونة دالّة على المُلك والإمبراطورية.
- هل كان سليم الذي وُصِف بالأحمق يطمح فعلاً في الحياة البرجوازية أو ما أسماه بـ “المرتبة العالية” ؟
- وما هي هذه المرتبة العالية إذا قرأناها في ضوء الإكسسوارات التي لحقت بالممثل لتدّل عليها: (حاملة الخبز= التّاج)، (برنوس تقليدي= رداء ملَكي)؟
إنّ” المرتبة العالية ” التي كان سليم يطلُبها ليست سوى “الكرامة”، وهي مطلبٌ إنساني ليس هو الوحيد الذي كان ينشدها ولكنّ كثيرين سبقوه في طلبها وهم أولئك الذين وجدهم في استقباله في مستشفى المجانين !!
ولتتحقّق كرامة الإنسان لدينا لا بدّ من توافر شرطان:
الأوّل: هو الأمنُ الغذائي؛ أن لا نكونَ تابعينَ غذائياً فنكون عبيداً تابعين إيديولوجياً ثمّ إنسانياً، لذلكَ جعل سليم من “حاملة الخبز” تاجاً ملكياً ليقول لنا إنّ من يُحقّق كفايته وأمنه من الغذاء، فقد ملَك نفسه ولم يملكهُ غيرُه.
الثاني: أن نتمسّك بمقوّمات أصالتنا دون أن نرفض الانفتاح والتطوّر، من هنا لم يجد سليم أفضل مُكمّلٍ لمُلكه وسيادته غير البرنوس القديم الذي كان بحاجةٍ إلى قليلٍ من التعديل ليكون مناسباً ولعلّ أهمّ تعديلٍ لحق به هو صورة التنّين التي رسمَها سليم على ظهره لتكتملَ فيه صفة “الملَكية/ الإمبراطورية”؛ فالأصالةُ ليست ضعفاً ولا انطواءً على الذات، بل هي قوّةُ الجمع بين الماضي والحاضر.
2- الملابس/Les Costumes:
لازمَ الممثّلَ لباسٌ واحدٌ تقريباً تميّز بالرّسمية وكان مناسباً لموظّف إداري، ولم يتغيّر إلا في المشاهد الأخيرة حين استُبدل بقميص المجانين.وقد شكّل “المعطف” قطعة لباسٍ مثيرة للانتباه؛ إذ كان بمثابة الرفيق الملازم للممثّل يتحرّك بتحرّكه ويستكين بسكونه، إلى الحدّ الذي جعلنا نعدّه تارةً لباساً ونراه تارةً أخرى قطعة إكسسوار نظراً لحمولته الدلالية وتميّزه بكثافة تعبيرية جعلتنا في كثيرٍ من الأحيان نعتبره ظلاً للممثّل أو مرافقاً له أو توأماً لصيقاً به.وهذه القدرة على “السميأة/ Sémiotisation” التي حظي بها المعطف، تشتغل بحضور الممثّل وبغيابه عندما يرتقي بوصفه شيئاً إلى مستوى الممثّل، في حين ينحدر هذا الأخير إلى درجة الصّفر من خلال محدودية الفعل وتكراره إلى حدّ التنميط كما ذهب إلى ذلك “يوري فيلتروسكي”(29).ويؤكّد في موضعٍ آخر من مقاله (الإنسان والموضوع في المسرح) بأنّ « الموضوع (الشيء) الذي لا حياة فيه يمكن أن يُدرَك كذاتٍ مؤديةٍ للفعل.كما يُمكن للكائن الحي أن يُدرَك كعنصرٍ معدوم للإرادة كليّاً»(30).وإن كنّا نعتقد بأنّ أداء “عبد القادر علّولة” لم يصل إلى درجة الصّفر، فإنّ المعطف قد اكتسب – في حضوره- طاقة إيحائية وقدرة على الارتقاء ليكون في درجة واحدة معه نظراً لقدرة علّولة البارعة في الاستحواذ على انتباهنا وشدّه نحو هذا المعطف.
شغَل هذا المعطف الأسود وضعيات عديدة متحركة وثابتة على مدار غالبية المَشَاهد؛ فتارةً يضعه سليم على كتفيه مرتدياً إيّاه ارتداءً كليّاً، وتارة أخرى يكتفي بإثباته على كتفيه دون أن يرتديه، وفي وضعيةٍ ثالثة يضعه على كتفه الأيمن، ورابعة على كتفه الأيسر، مرّةً يُمسك به بيديه الاثنتين، ومرةً يقبض عليه بيدٍ واحدة، ونادراً ما يُريحه برميه على كرسي مكتبه أو سرير غرفة نومه كجثّة هامدة تعبت من الحركة واستسلمت للراحة..وفي إحدى اللحظات الحاسمة والمضيئة في العرض المونودرامي وهي اللحظة التي تلمع فيها في ذهن سليم فكرة التمرّد على وضعه البسيط وطموحه في اعتلاء ما كان يُسميه ” المرتبة العالية “.يُقدِم على قلب هذا المعطف وارتدائه مقلوباً كترجمةٍ لرغبته في تحقيق فِعل انقلابي على مستوى ذاته التي تُمثّل كلّ ذاتٍ إنسانية متواضعة بسيطة، تعاني الفقر والقهر الاجتماعي والبيروقراطية القاتلة.هذا الانقلابُ الذي جاء رمزاً وجسّدَ فكرته سليم عبر المعطف، تحقّق مرةً أخرى على مستوى الحلم حين تحوّلت حاملةُ الخبز إلى تاجِ مُلْك، وظهر سليم ملكاً في لوحةٍ مستقبليةٍ انفتحت في تفاصيلها على دلالات المستحيل؛ حيث حُدّد تاريخ هذا الإنجاز في يومياته بــ 43 ديسمبر 2000.
هل كان حلماً مشروعاً رغم استحالة تحقيقه؟ أم كانَ لحظة جنون؟
” نعم ” هي الإجابة المنطقية عن السؤالين معاً.لقد كان حلماً اعتمد على الخيال، وكان جنوناً تحرّر فيه العقلُ من قيود الواقع المؤسف والمخزي.ولعل إثبات هذا الجواب نجده في مقولة سليم:(النّاس تظنّ بلّي مُخّ الإنسان ساكن محبوس في الرّاس..هذا غلط..مخّ الإنسان رحّال جوّال مع الريّاح). نعم إنها الحقيقة، يُمكن استعباد جسَد الإنسان لكنّ فكره يظلّ حرّاً مستعصياً عن التقييد.ولعلّ هذه الفكرة/ الحقيقة تتجلى أيضاً في كلام المجانين الذين سبقوا سليم إلى ” القصر الملَكي/ مستشفى المجانين”، فعندما جاء دوره استقبلوه بالترحيب هاتفين:(بَرْكانا..بَرْكانا من البَنان..حَلّوا البيبَان..خلّوا الصحّ يْبانْ)..هل كانوا فعلاً مجانين؟.فليكن لنأخذ الحكمةَ من أفواه المجانين.
3- الدّيكور- الإضاءة/ Le Décor-L’éclairage:
الدّيكور في مفهوم “باتريس بافيس” هو كلّ ما يوجد على الخشبة، ويُحدّد إطار الحركة بوسائل تصويرية بلاستيكية ومعمارية(31).ويعتقد هذا الناقد بأنّ مفهوم السينوغرافيا قد أصبح مفهوما بديلاً تمّ بواسطته تجاوز المعنى الضيّق للديكور الذي ارتبط عند العامة باللّوحة العُمق، أو المنظور/Perspective للإيهام بالواقعية كما هو الحال عند الطبيعية/Naturalisme(32).
تشكّلَ ديكور مونودرام “حمق سليم” من هندسةٍ غريبة وكان ثابتاً غير متغيّر طيلة مدّة العرض التي قاربت الثلاث ساعات؛ فقد حرص مصمّمه (بوخاري زروقي) على جعله في شكل غُرفٍ منفصلةٍ ومتجاورة، متباينة الحجم، بعضها وقع في اليمين والآخر في الشّمال، وارتبط الأعلى بالأسفل عبر سُلّمٍ كان رمزاً للطموح؛ حيث استعان به سليم في حركةٍ فاصلة لينتقل من الأسفل/ مرتبة موظّف بسيط، إلى الأعلى/ صاحب السموّ سليم الأوّل.وقد اتّسم هذا الديكور بالبدائية وكأننا قُبالة كهفٍ من كهوف العصر الحجري عملتْ يد الإنسان البدائي على تشكيل تفاصيله عبر حركةِ نحتٍ بسيطة، وهندسةٍ تقترب من الغرائبية؛ هذه الأخيرة التي عزّز حضورها إنطاقُ الحيوان، فقد تحوّلت الكلبة ” لُبانة ” إلى كائنٍ ناطق يُحبّ ويكتب رسائل، يُبدي رأيه ويُحلّل ويتساءل، ويتمتّع بحقوقٍ مفقودة عند البشر..كما زادت الموسيقى المصاحِبة من تعميق إحساسنا بالبدائية واستحضارنا للأجواء الغرائبية.
استُغِلَّ جزء من هذا الديكور كجدارية حملت كتابةً وصوراً، تمّ التركيز في كلّ مشهدٍ وعند الضرورة على واحدةٍ منها، ومن أمثلة هذه اللّوحات المصوّرة:(صورة الكلبة، قارورة العطر، عربة ملَكية بجياد، كرسي أثير…إلخ) وقد كانت رموزاً أحالت على الوسط البرجوازي الذي كانت تنتمي إليه رجاء.أما اللّوحات المكتوبة فقد حضر منها واحدة فقط كُتِب عليها بالفرنسية (Hopital Silence).وعلى العموم فقد تميّز ديكور العرض المونودرامي “حمق سليم” بالثبات الذي كان يوحي برتابة الحياة اليومية لموظّف مطحون اجتماعياً، ولم يأخذ هذا الديكور قيمته الإنتاجية الفاعلة إلا بتحرّكات الممثّل في إطاره، قائماً في كلّ مرّة بعملية تبئير لرقعةٍ مقصودةٍ منه.
أمّا الإضاءة فلم توظّف بدلالاتٍ جديدة غير وظيفتها الرئيسية في الفصل بين المَشاهد وتحديد تعاقب الزمن ( ليل – نهار).وقد كانت تُسند إليها في أحيانٍ قليلة وظيفة تبئير الممثّل في وضعٍ ما وفي مكان ما..ولعلّ المثال الوحيد الذي نسوقه في هذا المقام هو منظر تكبيل سليم في مستشفى الأمراض العقلية؛ حيث تعمل الإضاءة على تبئيره كشهيدٍ صُلب في سبيل كلمة الحقّ، ويسود الظلام كلّ ما يحيط به على فضاء الرّكح الذي لم يبق منه منفذاً للنور سوى نافذة صغيرة تُخفي خارجها نوراً أعاقهُ حجمها الصّغير وكثافة الظلام بالدّاخل من إضاءة الخشبة بصورة واضحة. وبهذا الصّراع الصّامت بين بقعة الضوء المحدودة المساحة وسطوة كثافة الظلام، يتلقى المتفرّج إحساساً رهيباً بالوضع المؤسف الذي آل إليه سليم.وهو يردّد:(أمّي وْليدَك ضاعْ..رجاء لي بيه) طبعاً هي ليست رجاء علّولة زوجته الحقيقية في الواقع، ولا رجاء ابنة المدير في المونودراما، بل الأمل الذي كان ينشده ويرجوه في غدٍ و حياة أفضل.
الهوامش والإحالات:
(*) عبد القادر علّولة: حمق سليم (اقتباس حرّ وأداء وإخراج عبد القادر علولة).تسجيل تلفزيوني:بن براهم رشيد.
Anne Ubersfeld :Lire le théâtre .paris ,édition sociales,1982,p37.(1)
(2) عامر موسى الربيعي: سينوغرافيا….تشكيل الصورة المسرحية.7/4/2007، جريدة الحوار المتمدّن.ع1878،.متاح على الموقع الإلكتروني//www.ahewar.org:httpm.
(3) قدور عبد الله ثاني: سيميائية الصورة.ط1، عمان- الأردن، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، 2007، ص24.
(4) جميل حمداوي: سيميوطيقا الصورة المسرحية، دراسات في المسرح. ، الرباط- المغرب، منشورات المعارف، 2013، ص93.
(5) مجموعة من المؤلفين: سيمياء براغ للمسرح، دراسات سيميائية.ترجمة وتقديم:أدمير كوريّة، دمشق، منشورات وزارة الثقافة، 1997، ص97.
(6) المرجع نفسه.ص ن.
(7) جميل حمداوي: سيميوطيقا الصورة المسرحية.ص93.
(8) يُنظر مقالته الموسومة بـ ” ديناميكية الإشارة في المسرح” مترجماً ضمن كتاب: سيمياء براغ للمسرح، مرجع سابق، ص ص 97، 122.
(9) شاكر عبد الحميد:عصر الصورة.سلسلة عالم المعرفة، الكويت، المجلس الأعلى للثقافة والفنون، ع311، يناير2005، ص306.
(10) عواد علي:غواية المتخيّل المسرحي، مقاربات لشعرية النصّ والعرض والنقد.ط1، بيروت-الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1997، ص87.
(11) ماري إلياس، حنان قصاب حسن:المعجم المسرحي، مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض.ط1، بيروت- لبنان، مكتبة لبنان ناشرون، 1997، ص265.
(12) يُنظر الفصل السادس من كتاب فنّ الشعر لأرسطو.
(13) ماري إلياس، حنان قصاب حسن:المعجم المسرحي.ص265.
(14) م ن، ص ن.
(15) م ن، ص266.
(16) مارسيل فريدفون: السينوغرافيا اليوم السينوغرافيا معالم على الطريق.ترجمة:إبراهيم حمادة وآخرون.وزارة الثقافة- مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، ص14.
(17) م ن، ص8.
(18) عبد الرحمن دسوقي: الوسائط الحديثة في سينوغرافيا المسرح.القاهرة، سلسلة دفاتر أكاديمية الفنون، 2005، ص17.
(19) عواد علي: غواية المتخيّل المسرحي.ص88.
(20) ماري إلياس، حنان قصاب حسن:المعجم المسرحي.ص266.
(21) جميل حمداوي:سيميوطيقا الصورة المسرحية.ص114.
(22) عبد الرحمن بن زيدان: التجريب في النقد والدراما.الرباط- المغرب، منشورات الزمن، ، 2001، ص104.
(23) م ن. ص ن.
(24) ماري إلياس، حنان قصاب حسن:المعجم المسرحي.ص266.
(25) م ن.ص267.
(26) عبد الرحمن بن زيدان:التجريب في النقد والدراما.ص101.
(27)Patrice Pavis :Dictionnaire Du Théâtre .Paris,Edition Sociales,1980 p :18.
(28) Girard Gilles/Oullet Réal/Rigault Cloude :L’univers du théâtre, Littératures modernes presses universitaires de France,edition 1978,
(29) عدد من المؤلفين: سيمياء براغ للمسرح.ص141.
(30) المرجع نفسه.ص139.
(31) Patrice Pavis :dictionnaire Du Théâtre .P :99
(32) Ibid.p :99
َ
َ
* أستاذة محاضرة بكلية الآداب واللّغات – جامعة قسنطينة 1
َ
.