“بوابة الذكريات” للكاتبة الجزائرية آسيا جبار (المركز الثقافي العربي، ترجمة: محمد يحياتن)، ومنذ صدورها عن دار فايار، لم تكف أقلام النقاد، المهتمين منهم بالأدب الذاتي خصوصاً، عن الإشادة بها، ومحاولة استخلاص قوانينها الداخلية، كنص مركّب تسترجع فيه جبار حياتها بهدف كبير يستبدّ بها: تأمل هذه الحياة في مسارها منذ الطفولة إلى لحظة الكتابة التي تقف في نقطة نهاية الدائرة.
صحيح أنه لا يمكن التعرف بسرعة على السيرة الذاتية بخلاف مجموعة من الأجناس الأدبية، من خلال علامات شكلية معينة، لكن يمكن معرفة ما ستحكيه السير الذاتية من عناوينها، على الأقل: “التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا” تحكي عن كل مراحل حياته التي عاشها في الشرق والغرب على حدّ سواء. “سبعون” (أربعة أجزاء) لميخائيل نعيمة، تحكي عن حياته إلى حدود سنه السبعين. “الطفولة الستون” لمحمد الصباغ، تحكي عن حياة كاتبها إلى حين بلوغ الستين من عمره. “حياتي” لأحمد أمين، تدخل في الإطار نفسه. إن هذه السير الذاتية، من خلال عناوينها فقط، تحكي عن حياة ممتدة، عن كل شيء في حياة كاتبها. هذا لا يعني إلغاء صفة سرد الحياة الممتدة منذ الولادة عن النصوص القصيرة، فهذا الصنف تمثله سيرة “أنا” لشوقي ضيف، و”الكلمات” لجان بول سارتر، و”تجوالي” لفاليري لاربو، التي هي سير ذاتية رغم قصرها تحكي وتحصي الأحداث التي عاشها هؤلاء المؤلفون على مدى عقود وسنين. ولا تختلف في شيء عن السير الذاتية الكبيرة التي قامت بجرد أحداث جرت في سنوات العمر كله. ويبقى سحرها الآسر هو أنها جميعها، الطويلة والقصيرة، تشترك في نقطة جوهرية عبر عنها فيليب لوجون: “شخص حقيقي يروي قصة وجوده الخاص”. تلتقي سيرة “بوابة الذكريات” لآسيا جبار، مع السير الذاتية الطويلة في العديد من القضايا، منها البدء من سنوات الطفولة، والحديث عن الوالدين، الأم والأب، بتفصيل شديد. هنا نقطة التطابق مع سيرة إدوارد سعيد “خارج المكان”، و”ذكريات الأدب والحب” لسهيل إدريس (لم يصدر سوى جزئها الأول، دار الآداب). إن عنوان “بوابة الذكريات” ينبئ بالمراحل والأحداث الممتدة على طول سنين العمر. كل شيء تحتفظ به الذاكرة هو مادة للحكي الاسترجاعي. فالذاكرة أهل لذلك ما دامت تشبه المبرد الذي يحتفظ بكل شيء طازجاً، حسب بيتر بروك. لكن رغم ذلك يمكن تصنيف “بوابة الذكريات” ضمن صنف محكي الطفولة، فقد بدأت طفولتها في بلدة “شرشال” إلى حدود سنوات الشباب، إلى سنة 1953.
الضمير النحوي
يُعدّ الضمير النحوي مكوناً حاسماً في تلقي السيرة الذاتية وفي استهلاكها الأدبي عموماً. لقد احتكم العديد من النقاد والمشتغلين بنظرية الأدب لمسألة الضمير الذي غالباً ما ظل يحدد الانتماء النوعي للسيرة الذاتية. والعديد منهم شكّك في العديد من السير الذاتية بناء على الضمير الذي استعملته. فسادت القناعة بأن على السيرة الذاتية أن تتوسل ضمير المتكلم “أنا” حتى يتحقق لها شرط الانتماء للنوع. أما ضمير الغائب “هو” فلا يزيد هذا الانتماء إلا التباساً. وهنا نذكر أن عالم اللغة إيميل بنفنست نفى عن ضمير الغائب صفة الضمير النحوي. لكن كل ذلك ليس يتجاوز الطرح النظري القابل للمراجعة الشاملة، حتى نتجاوز هذا الشك الذي يؤدي في النهاية إلى ربط ضمير المتكلم بالسيرة الذاتية وباللاتخييل، وضمير الغائب بالتخييل. فالنص يصبح وثيقة تاريخية بمجرد أن ينقل السارد حياته المعيشة بواسطة الحكي الاسترجاعي، وبأي ضمير كان، مثلما فعل طه حسين في “الأيا”، بل حتى لو اختلطت الضمائر، كما هو الحال في “بوابة الذكريات”. أليس “أنا هو الآخر” كما أكد فيليب لوجون في كتاب له يحمل العبارة نفسها؟
يتداخل ضميران نحويان في “بوابة الذكريات”، ضمير المتكلم وضمير الغائب. ويمكن إضافة ضمير ضمني هو المخاطب “أنت” ما دامت الكاتبة تحكي حياتها للقارئ. إن هذه الضمائر تتداخل حتما في السيرة الذاتية، وبأشكال عدة، لكنها في بوابة الذكريات هي ضمائر مباشرة.
إذن كيف تعمل هذه الضمائر في “بوابة الذكريات”؟ إنها تعمل بالتناوب. فالسيرة تبدأ بـ”برزت صبية إلى الوجود: عمرها سنتان ونصف السنة وربما ثلاث سنوات”. إنه ضمير غائب صريح. لكنه ضمير شهادة. وما هي إلا بضعة أسطر حتى يبدأ السرد بضمير أنا: “ثمة رسوخ باقٍ: أمي التي لا تزال حية ترزق بفضل ربي….”. ويمتدُّ هذا التناوب حتى الصفحة النهائية من النص، دون أدنى ريبة في الحقيقة الواقعية أو التخييلية التي يمكن أن يشير إليها الواحد دون الآخر
سيرة التعلّم
تعود الكاتبة إلى سنواتها الأولى وتقلب حقائقها على أكثر من وجه. هنا يلعب الزمن لعبته الأثيرة: استبدال الأشخاص والفضاءات. تذكر الأفعال ودلالاتها. فآسيا المرأة التي تقترب من السبعين، تتذكر الطفلة آسيا ذات الخمس سنوات أو أقل. والشيء الثابت أنها تتذكر حساسيتها كأنثى، تلك الحساسية التي تستمر مع الجنس (ذكر أو أنثى) إلى آخر يوم في الحياة. فأول من تتذكر هو والدتها، ومن خلالها تتذكر جدتها. البنت وأمها وجدتها، هكذا يتأسس السرد والحكايات. من هنا يتفرّع كل شيء. وما الحكايات الأخرى عن الوالد وعن تقاليد المجتمع الجزائري، ممثلا في تقاليد بلدة شرشال، والإشارات إلى الفضاءات التي يملأها المستعمر الفرنسي… ليس كل ذلك إلا نبش في الذاكرة لإثارة ثيمات كثيرة سبق للكاتبة أن تناولتها في رواياتها السابقة. فكل شيء يمكن أن يفجر التذكر والحكي، ما يعني أن الذاكرة ضاقت بما تراكم لديها وتريد إخراجه في شكل قولٍ ذاتيٍ صريح يتواطأ فيه الكاتب مع القارئ المفترض: “قد يحصل أن تُبعث ذكرى بغتة انطلاقاً من شيء تيمي. شيء؟ كلا، الأمر هنا يتعلّق بقماش أو ثوب خفيف. فستان، لكن ليس أي فستان…” (ص. 174).
إن “بوابة الذكريات” سيرة ذاتية تحكي عن التعلّم. عن مسار شابة أصبحت من أشهر كتاب الجزائر وفرنسا: “الكتب التي طالعت؟ بل أقول الكتب التي التهمت وتصفحت بحمّى وكأني أستجيب لنداء بعيد، صفحات مطوية أو مقطعة مخفاة، تحت غطاء السرير، ومصباح كهربائي بيدي”. (ص. 165).
تعلن “بوابة الذكريات” عن نفسها، ومنذ الصفحات الأولى، أنها سيرة تعلُّم: “قبل هذه الرواية المسماة (بدون عائلة) التي أبكتني كثيراً، وقع بين يديّ كتاب آخر لم أقرأه أبداً، أتيت به من المدرسة إلى البيت مظفرة، ولم أره قط بعد ذلك…” (ص. 28).
لطول إقامة آسيا جبار في فرنسا، ذابت فضاءات من أمامها واختفت نهائياً من حياتها اليومية. من تلك الفضاءات “الحمّام” الذي يكاد يكون كلمة تتوزع على طول الكتاب. فضاء فيه ظلٌّ وماء. تبحث عنه النساء في شرشال تبحثن عنه كل يوم خميس: “إنه يوم الخميس. يوم ذهاب النساء إلى الحمّام، أي إلى عقر دارهن”. (ص. 69). إنها فضاءات وأمكنة لم تنطفئ مثل جمرات بقيت تحت الجلد
هيمنة الفرنسية على العربية
أقوى ما سعت فرنسا إلى ترسيخه في مستعمراتها بشمال أفريقيا، كما في مستعمراتها في باقي العالم، هي اللغة الفرنسية. كلّ من وُلد في زمن الاستعمار هذا ودخل فضاءات التمدرس يتذكر جدية فرنسا في هذا الأمر وتفانيها فيه. لذلك تجد المغاربيين، وإلى اليوم، يركعون أمام هذه اللغة كما لو أنها إرث إمبريالي صعب اقتلاعه. لقد كان فضاء المدرسة هو فضاء للغة الفرنسية، أما العربية، ويا لشراسة الأداة، فقد كانت تُدرّس كلغة ثانية. ويمكن قراءة هذا الأمر عند كل الكتاب المغاربيين: أحمد الصفريوي وإدريس الشرايبي (المغرب)، كاتب ياسين، محمد ديب، مالك حدّاد، مولود فرعون، مولود معمري، رشيد بوجدرة (الجزائر)، ألبير ميمي (تونس). كانت إيديولوجيا اللغة هذه سلاحا قويا امتلكته فرنسا وكانت المنتصرة فيه وبقوة. تقول آسيا جبار عن هذا الجرح: “أنا أصغر مرافقة ما بين المدرسة الفرنسية وشقة العمارة المخصصة لأسر المعلمين. نمشي، أبي وأنا – أنا الظل الصغير – بخطى غير مأمونة، تكاد تفقد التوازن (ولكن أبي هو الذي يدرك الخطر) بين مجتمع “الآخرين” ومجتمع الأهالي”. (ص.83). “الفرنسية غنيمة حرب”، كما قال كاتب ياسين، لكن لسان حال الحركة الوطنية كان يصرخ: العربية قتيلة حرب. زال غبار الحرب، لكن العربية ما زالت قتيلة، ولولا الترجمة الرائعة والمشرقة التي قام بها محمد يحياتن لبقيت سيرة آسيا جبار أسيرة لغة هيمنت كما هيمن المستعمر وأكثر، وعودتها إلى لغتها هي عودة نص شيق إلى حضن دافئ.
/
* المصدر ضفة ثالثة
*شاعر وروائي من المغرب
*