استطاعت المخرجة د. مجد القصص أن تُدخل المُشاهد الى مسرحية تكاد تكون تماما مثل مهرجان للألعاب النارية الذي اضاء ليل المسرح بتلك الرؤية الاخراجية المختلفة وتلك السينوغرافيا التي جاءت لتوافق النص تماما .
بالموسيقى الحية والغناء الحي كانت اوركسترا تبرز واقع المرأة القديم والحديث من خلال كوميديا سوداء عبرت من خلالها عن ذلك الكم الهائل من الالم الذي يدور بحياة المرأة ، ومن خلال التجريب الذي كان واضحا بالمسرحية من خلال الديكور الجديد والذي يحمل سيميائية خاصة وملفتة وهي الكراسي المتحركة التي كانت دلالاتها كبيرة وتجاوزت حاجز المسرحية العادي الى معنى اكبر ، وهو ان العجز ليس فقط بالحركة ، فقد شاهدنا أن الممثلات استخدمن الحركة والرقص والمشي ، أرادت مجد بتلك السيميائية ان تخلق معنى جديد للعجز وهو انطفاء الروح من خلال تلك الكوارث الداخلية للنساء المقهورات .
لعبت المخرجة على تخطي حاجز الزمن الحالي والزمن الفائت ، ظهرت النساء العجائز بشعرٍ يملؤه الشيب وبدأت رحلة استرجاع الذاكرة القاسية ، بعد ذلك حين أرادت الانتقال للزمن الحالي ، قامت الممثلات بخلع باروكة الشيب وبدأن الحكايات عن زمنهن المعاش ، برأيي هذه تقنية _ ربما _ لم يلتفت اليها احد قبل مجد القصص ، فالمسرح الكلاسيكي مثلا ، يذهب الممثل خلف الكواليس ليعود بمظهر وزيٍ جديد يناسب الدور الذي سيقوله ، لكن الرؤية الاخراجية الأكاديمية التي اشتغلت عليها المخرجة ، هي أن تجعل المُشاهد شريكا بالعرض وليس فقط متلقِ .
لماذا كان هناك ممثل واحد فقط بالمسرحية ؟ هل لهذا الأمر دلالة خاصة وسيمياء محددة ؟ ولو استخدمت عدة ممثلين لاداء ادوار الرجل لحققت بذلك قبولا لحظيا لدى المُشاهد وعدم ارتباكه ، لكن _ برأيي _ أن هذا الفهم سيكون عاديا ولن يستقر بذهن الحضور ، لانه أداءً كلاسيكيا مستهلكاً ، لكن ان يؤدي ممثل واحد كل ادوار الرجال المختلفة ، هذا يعني أن الرجل ( واحد ) أينما كان وان اختلفت الادوار
لماذا جاء عنوان المسرحية ( اوركسترا ) ولماذا تم اختيار هذا العنوان تحديداً ، من المتعارف عليه ان أي عمل فني او ادبي ، يكون العنوان هو بمثابة العتبة التي ينفذ منها المتلقِ الى اجواء العمل ، وقد ذهبت بعض المراجع العلمية ، بانه _ اي العنوان _ يعتبر ملكية فكرية لصاحب العمل ، وتاتي اهميته بأنه عنوانا تلميحيا ودلاليا ، وفي مسرحية اوركسترا ، هناك الكثير من الاضاءات التي تلقي بوهجها على النص وتوجه القارئ نحو سلطة العمل ، وماذا تريد ان تقول ، وما هي الاضافة النوعية التي سيقدمها العنوان ، يقول امبرتو ايكو : العنوان قاعدة عليها ان ترن دائما وتخلخل الافكار لدى المتلقي حسب معرفته وثقافته ، حيث يتباين افق التوقع من انسان لاخر ، ( انتهى الاقتباس )
فالذي يعرف ما يعنيه مصطلح اوركسترا ، بالطبع سيضع تصورات وتوقعات مسبقة ، عن ما هية هذا التناغم الذي تدور به الاحداث ، فاوركسترا هي الجوقة الموسيقية التي تتالف من أكثر من مئة عازف ، وكل الة موسيقية تختلف من حيث طبيعتها ، فهناك الالات الوترية والات النفخ الى الايقاع ، تبدو في الظاهر هذه الالات مختلفة ، الا انها تجتمع اخيرا لتؤدي لحناً واحدا متناسقا متناغما رغم اختلاف الات العزف كما قلنا سابقاً لذلك بدت الشخصيات النسائية مختلفة ، لكنها تلتقي اخيرا من خلال الفقد العام لكل شخصية مستقلة .
رسمت مجد القصص أحداث مسرحية اوركسترا ، تماما وكأنها فنانة تشكيلية ترسم لوحة، لكنها لم تستخدم الفرشاة والالوان بل استخدمت تقنية المشهد التجريبي بكل ما فيه من رؤية ودلالة فاقت الوصف العادي
خمس نساء في ملجأ للعجزة ، خمس نساء يتشابهن في مقدار الألم والبؤس امام الرجل وامام الحياة ايضاً ، في رسمٍ للشخصيات من الداخل تبدأ المسرحية بالمرأة العاقر وذكريات عن ليلة زفافها ، امام زوجٍ مخادع وانتهازي بعد ان خاب ظنها بكل قصص الحب والغرام التي كان يسمعها اياها ، لتدرك اخيراً بانها امام واقع يبخر كل امنياتها واحلامها الجميلة ، اكتشفت أنها كانت مجرد اداة لانجاب الاطفال ، ليصدمها الزوج برأيه الذكوري بأن مؤسسة الزواج هي مؤسسة فاشلة بدون اطفال ، ولا مكان للحب بها
بعد ذلك جاءت المرأة الحامل بسبعين عاما ، وهنا اشتغلت مجد على ( الواقعية السحرية ) بكل ما فيها من غرائبية وسيميائية ودلالة ليست مجانية وانما وظفت تماما لخدمة العمل المسرحي حيث كان التجريب الذي قدم للمشاهد هو تجريب حقيقي بعيداً عن الضبابية والتقليد والرمز الذي لا طائل منه ، لكنه قُدِمَ للمشاهد ليجعله يعيد صياغة افكاره ، بمعنى أن مجد القصص لم تقدم مسرحيتها للقارىء على طبقٍ من ذهب ، ومن خلال السيدة الحامل الذي طال حملها لمدة سبعين عاماً ، هذا الرقم هو تحديدا سنوات احتلال فلسطين منذ عام 1948 ، هنا لم تتخلَ مجد القصص عن حسها الوطني تجاه تلك القضية المقدسة والمدهش انها قدمتها بصورة حداثية بعيداً عن التلقين والمباشرة وظهر الرجل هنا للمرة الاولى شخصية مناضلة تذهب للحرب ، أذن الحمل هنا هو القضية والجنين هو النصر المنتظر . هذه السيميائية التي شحنت دلالات كثيرة استخدمتها مجد القصص في نهاية المسرحيةعلى صوت القصف وطلاق النار الكثيف
ليست النزيلات فقط عانين ظلم واستهتار الرجل فقط ، بل ظهرت الممرضة التي تعتني بهن ، مفاجأة ودهشة اخرى للمشاهد ، النساء الخمس في المسرحية كن بحالة استرجاع للماضي وما صادفهن به من خيبات وكوارث انسانية ، ثم ظهرت شخصية الممرضة وهي شابة صغيرة ، وتكاد تقول لنا المسرحية أن ثمة خيبة اخرى لنساء الوقت الحاضر ، بمعنى أن معاناة المرأة قديمة وحديثة ايضا ، هذه الممرضة عانت من سلطة الأب ( الرجل ) من خلال تسلطه وقسوته عليها وعلى أمها وعكست ذلك على حبيبها المفترض الذي جاء لتذهب معه ليجددا قصة الحب القديمة ، الا انها ترفض وذلك لانها ترى به صورة مكررة لابيها .
لوحات المسرحية لم تكن مثالية بالمطلق ، فهناك المرأة العشيقة التي تؤكد ان الرجل يحب ويهيم بعشيقته أكثر من زوجته ( حوار دار بين العاقر الزوجة والعشيقة ) لأنها تجعله بشوق دائم يتوق الى حضنها الدافىء ، هنا ايضا تبدو العشيقة قد عانت ايضا من الرجل لأنه في نهاية الامر تركها وعاد الى زوجته وما هي الا نزوة شبق عابرة ، وهنا تاكيد على دور الرجل السافر باستغلال مشاعر وأحاسيس حبيبته وعشيقته ، فهي كانت لفترة قصيرة ثم عادت أدراجها تلعن خيبتها .
ظهرت الغانية التي لا يطربها سوى الأغاني الهابطة ، أنها متمردة على الواقع وقد جسدت المسرحية شخصية الغانية بموسيقى حية وأغانٍ لها وقعها الخاص عليها ، فبدأت بالغناء والرقص متحدية كل النساء بأنها تستطيع وبلمحة عين أن تأخذ الرجل من بين أحضانهن .
في المشهد الختامي يتم محاكمة الرجل ، الزوج الغائب بالحرب ، الحبيب الخائن ، عبرت كل شخصية عن ألمها بطريقتها الخاصة ، فالعاقر اتهمته بالخيانة ، الحامل اتهمته بالسلبية تجاهها وأنه فضل قضيته عليها ، العشيقة ايضا تكشف له عن ثمرة لقاءاتهما بحمل لم تخبره بها ، الغانية تتهمه ايضا بأنه كان يلعب بمشاعرها طوال الوقت وحين انتهى منها تركها ، الممرضة التي رأت به ابيها الظالم ، لكن الرجل لم يقف مكتوف الايدي تجاه تلك الاتهامات ، بل دافع عن نفسه أمامهن .
اذن هذه هي ( اوركسترا ) تجمعن النساء المختلفات أخيرا أمام صيغة تناغمية واحدة أمام الرجل ، وكما قلت سابقا ، أن النساء في هذه المسرحية كن الات العزف المختلفة اللواتي أدين لحناً واحدا متناغما .
قام بالتمثيل كل من الفنانين ، زيد خليل ، نهى سمارة ، بيسان خليل ، دعاء العدوان ، ميس الزعبي ، الموسيقى الحية والغناء الفنان يزن ابو سليم
يذكر ان مسرحية اوركسترا حصدت خمس جوائز في مهرجان الزرقاء المسرحي ، الذي شاركت به خمس دول عربية ، فلسطين ، الجزائر المغرب ، مصر ، تونس ،
اخيرا قدمت د.مجد القصص فرجة مسرحية مهمة وذات قيمة برؤية مختلفة وفقا للتجريب ووفقا للمسرح الاكاديمي الهادف
/
* ناقد من الأردن