اختار الباحث والأكاديمي الجزائري الطيب ولد العروسي، مدير كرسي معهد العالم العربي بباريس في كتابه ” إنّهم جزائريّون أيضا أصدقاء ثورة التحرير الجزائرية” الصادر عن دار خيال للنشر والترجمة سنة 2020، العودة إلى تاريخ الثورة الجزائريّة لكتابة فصل من فصولها المغيّبة، مستعيداً صدى أصوات الأوروبيين الذين ناضلوا في صفوفها؛ فاستحقوا بجدارة أن يكونوا جزائريين قلباً وقالباً؛ وذلك من خلال الاستعانة بمصادر متعددة ومتباينة في طبيعتها، عادة ما تصنّف على هامش النصوص التاريخيّة بالنظر إلى افتقارها للصبغة العلميّة الدقيقة التي يفترض في التاريخ أن يتوفّر عليها، ويمكن إجمالها في مذكرات وشهادات ونصوص روائية كتبت من قبل بعض هؤلاء الفاعلين مثل “رواية زيتونة مكودة: جزائري من أصل أوروبي في حرب الجزائر لكريستيان بوينو”، ونصوص أخرى كتبها جيل فرنسي لاحق تشبّع بالروح الإنسانية والرؤية النقدية للظاهرة الاستعمارية، مثل “رواية من إخواننا الجرحى لجوزيف أندراس”، لكن المفارقة تكمن في أنّ تصنيف هؤلاء عادة ما يختزلهم في كونهم “أصدقاء ثورة التحرير الجزائريّة”، ممّا يوحي بوجود فصل بنيوي بين مركز فاعل يتصدّر المشهد، وهامش منفعل يأتي في المقام الثاني داعماً ومصدِّقاً، في الوقت الذي تثبت فيه الحقائق التاريخيّة أنّ هؤلاء كانوا جزائريين أكثر من كثير من الجزائريين الذين لم تربطهم بهذه الأرض سوى صدف التاريخ وأخطاء الجغرافيا، وهذا ما جعل بعضهم يختار مصالح ذاتيّة ضيقة قدمها المستعمر، وأقصد بذلك بعض من ينضوي تحت مسمى “الحركى”.
يتجلّى التباس التسميّة في الصيغة المعتمدة في بناء العنوان، ولعلّ هذا ما دفع الكاتب إلى الإشارة في مقدمة الكتاب إلى الطبيعة المزدوجة لهذه الرؤية؛ فمن ناحيّة، تكشف العودة إلى الآثار التي خلّفها بعض هؤلاء عن حقيقة الروح الوطنيّة التي تشبّعوا بها؛ فكانت باعثاً لهم على النضال إلى آخر رمق، ويستأنس في هذا المقام بالرؤى التي تمخضت عن حواراته مع الأستاذة جنفياف بوينو، حفيدة الشهيد موريس أودان وابنة المناضل كريستيان بوينو، لذا جاء الشق الأوّل من العنوان (المتصدر للغلاف بخط عريض) “إنهم جزائريون أيضا” من اقتراحها؛ فلفظة “أيضا” الواردة فيه توحي بالرغبة في تأكيد أحقيّة التصنيف؛ إثباتاً لما ينكره البعض ويتردّد البعض الآخر في الإقرار به، ليعقبه عنوان فرعي ثانوي (كتب أسفله) في إشارة إلى الرؤية الجزائريّة لهؤلاء؛ لكن الكاتب وعلى الرغم من إبداء حيرته وتردده في تقبّل هذا الموقف الذي يفصل ويقيم تمايزاً بين فاعلي الثورة، لا يناقش بعمق هذا الطرح ولا يعلن موقفه الصريح من الموضوع، وإنّما يبرّر اختياره لهذا العنوان برغبته في تحقيق الإحالة الدقيقة إلى الموضوع، على الرغم من أنّه يتسبب – عن قصد أو غير قصد- في خلق التباسات يعهد به إلى المتلقي الذي يتوجّب عليه الاستعانة بآليات القراءة السيميائيّة للوقوف على رمزيّة تشكّله؛ وبناء رؤيته النقديّة الخاصة حول الموضوع؛ بعيداً عن التوجيه المسبق الذي قد لا يخلو من أبعاد إيديولوجية، تسبّبت في كثير من الأحيان في مصادرة الحق في الاختلاف، وتوظيف الثورة خدمة لأغراض فئويّة ضيقة.
يشتمل الكتاب على سبعة فصول خصّص كل واحد منها لشخصيّة من الشخصيات الثوريّة ذات الأصول الأوروبية؛ واختار الكاتب أن يصدّره بمقالة حول دور “فرناند إيفتون” في ثورة التحرير الجزائريّة، ليثبت أحقيّة هذه الفئة في نيل شرعيّة تمثيل الثورة لا مجرد الانتماء إلى هوامشها، كيف لا وهو أوّل شهيد جزائري من أصول أوروبيّة، والوحيد بينهم الذي أعدمته فرنسا في 11فيفري سنة 1957 بالمقصلة، بعد أن انضم إلى جيش التحرير، باعثه على ذلك إيمانه بعدالة القضية الجزائريّة بصفتها قضية إنسانيّة لا تختزلها الحدود العرقية أو الدينيّة أو الايديولوجيّة الضيقة؛ فقد تشبّع بالأفكار الثوريّة اليساريّة بعد التحاقه بالحزب الشيوعي الجزائري سنة 1942؛ لكن ارتهان هذا الحزب للرؤية المركزيّة الفرنسيّة وتقاعسه عن دعم القضيّة الجزائريّة كانا سبباً في انشقاقه والتحاقه بصفوف جبهة التحرير، ويشير الكاتب إلى أنّه لم يكن استثناءً في موقفه هذا؛ فقد التحق الكثير من المناضلين من أصول أوروبيّة بصفوف الثورة الجزائريّة ودفعوا في سبيل ذلك النفس والنفيس، نذكر منهم: شبكة فرانسين جانسون، هنري علاق، كريستيون بوينو، موريس أودان، جاكلين غيروج، فضلاً عن هنري مايو مؤسس مجموعة “المقاتلين من أجل التحرير” الذي قال: “لست مسلما ولكنني جزائري من أصول أوروبية، أعتبر الجزائر وطني، وعليّ أن أقوم نحوه بكافة واجباتي كباقي أبناء الجزائر، من خلال تزويد المحاربين الجزائريين بالأسلحة التي يحتاجونها في كفاحهم التحرري.. إني واع كل الوعي بأني بهذا الموقف أخدم مصالح بلدي وشعبي” (ص22-23)، وكانت غاية هؤلاء خلق حالة من الإرباك في صفوف المستعمر الفرنسي من خلال القيام بعمليات تفجيرية للفت أنظار الرأي العام إلى جرائم المستعمر وتدويل قضيّة الشعب الجزائري، مع تجنب التسبب في وقوع ضحايا من المدنيين قدر الإمكان؛ ووفق هذه الرؤية طُلب من فرناند إيفتون زرع متفجرات في مصنع الغاز الذي يعمل به، شرط أن يخلو المكان من الوجود البشري؛ لكن العمليّة باءت بالفشل بعد أن اكتشف أمره بمجرد مغادرته؛ لتبدأ معاناة السجن والتعذيب التي انتهت بمحاكمة غير عادلة تقرّر على إثرها إعدامه بالمقصلة
تبنى إيفتون موقفاً معتدلاً في نضاله جمع فيه بين الموقف الثوري والمبدأ الأخلاقي؛ إذ “آمن بجدوى العنف الثوري (ضد النظام الكولونيالي الرسمي الذي حمله، في تركيبته الجنينية، أوّل العنف هو عنف الدّفاع، الرّد)، مع الحفاظ على صيغة أخلاقيّة” (ص26)، فجنّبه ذلك الوقوع في السلبيّة أو الاندفاع.
يتناول الطيب ولد العروسي سيرة المناضل الشهيد فيرنان إيفتون من خلال تسليط الضوء على نص روائي فرنسي موسوم بـ “إخواننا الجرحى”، للكاتب الشاب “جوزيف أندراس”، استحق به نيل جائزة الغونكور عام 2016 على الرغم من حداثة تجربته الإبداعيّة (أوّل أعماله الروائيّة)؛ إلاّ أنّه رفض استلامها انتصاراً لقضيّة إيفتون، فضلاً عن رغبته في فضح الواقع الكولونيالي الذي زيّف التاريخ وشوّه فاعليه.
يتناول الكتاب في مقام ثانٍ تجربة هنري علاّق السجنيّة من خلال كتابه الشهير “السؤال” La question الذي ضمّنه شهادته عن أساليب التعذيب الوحشيّة التي اقترفتها السلطات الفرنسيّة الاستعماريّة في حق المعارضين والثوّار، فبعد ملاحقة كل من كتبوا في جريدة “الجزائر الجمهوريّة” –الصوت التحريري للحزب الشيوعي الجزائري- التي أشرف عليها تمّ إلقاء القبض عليه في منزل صديقة موريس أودين في 12جوان 1957، الذي كان هو الآخر ضحيّة للتعذيب والقتل والتغييب، بعد كشف ولائه للثورة التحريريّة، ويستحضر الكاتب في هذا المقام شهادة هنري علاّق عن هذه الحالات التي لم تكن فرديّة بقدر ما كانت امتداداً لتوجه عام لدى بعض الأوروبيين الذين اختاروا مساندة الثورة الجزائرية عن وعي منهم بعدالة هذه القضية، فما كان من السلطات الاستعماريّة سوى تغييبهم بوسائل مختلفة، مشيراً إلى أن عدد هؤلاء يفوق ثلاثة ألاف شهيد “لا يعرف أين دفنوا؛ فهم ماتوا إما تحت التعذيب وإمّا رميا من الطائرات، أو تم وضعهم في إطار إسمنتي ورمي بهم في أعماق البحار لكي لا ينتبه أحد إلى أجسادهم أو يعثر عليها” (ص46).
دوّن هنري علاّق يومياته السجنيّة التي توثّق رحلة التعذيب التي كان أحد ضحاياها، وقد تكلّل ذلك بنشرها من قبل منشورات منوي سنة 1958، التي تحدّت هي الأخرى تهديدات الإدارة الاستعماريّة وتحذيراتها لكل من يتبنى هذه الموضوعات التي تسيء إلى الدولة ورموزها، وبمجرد صدوره بيعت منه خلال الأسابيع الأولى ما يفوق ستين ألف نسخة، كما تبنت جريدة “لو كانارد أنشيني” نشره في أحد أعدادها، ممّا أسهم في وصوله إلى الرأي العام الفرنسي والعالمي.
يصرّح هنري علاّق بأنّ تجربة الكتابة كانت محنة لم يسبق أن عايشها، ذلك أنّ الألم كان مدادها الحار وذاكرتها الحيّة، إضافة إلى أنّ كوابيس التعذيب خلال الحرب محنة عابرة للأزمنة ذاتيّة وغيريّة في الوقت ذاته؛ لذا فقد أسهم هذا الكتاب في إحداث ضجة وسط المشهد الثقافي العالمي، فتنامت صرخات التنديد وبيانات الإدانة في حق سياسات القمع التعذيب المسلّطة على المناضلين الجزائريين، وفي هذا السياق يقول علاّق مستحضراً سجّانه: ” كان شاربونييه يعذبني بالكهرباء رافعا صوته مرددا نفس الكلام أين قضيت ليلتك قبل أن يتم توقيفك؟ كما كانوا يأخذون وقودا ويشعلونها ويضعونها على صدري وأطراف أصابع رجلي، ومن كثرة الألم أصبحت لا أحس مما أزعجهم كثيرا” (ص49).
كما يستحضر الكتاب شذرات من شهادة “دانيال تمسيت” عن تاريخ الجزائر، دوّنها في كتابه “الجزائر، قصة غير متسلسلة” الصادر في باريس سنة 1998، فعلى الرغم من كونه حفيد أحد حاخامات الجزائر، فإن موقف طائفته الملتفة حول انتماءاتها الدينيّة الضيقة لم يحل دون تبنيه لقضية تحرير الجزائر، فأعلن انخراطه في مسار النضال ضد كل أشكال الشقاء التي تسبب فيها الاستعمار، وعن ذلك يقول: “كنت مدافعا عن قضية بلدي، وأشهد أن الكثير من الشباب من أصول يهودية ساروا على نفس الطريق وانخرطوا في الحزب الشيوعي الجزائري وكان لهم إحساس كبير بالتطلعات الوطنيّة، كما لا يمنع أن الكثير من اليهود قد وقفوا مع المستعمر الفرنسي”، كما أعلن موقفه الصريح من قيام دولة إسرائيل بقوله: “كنت ضدها كشيوعي وكمواطن أممي، غير أن الاتحاد السوفيتي كان من ضمن المؤيدين لها، هذا موقف أحزنني، لكن من الناحية الثقافية كنت ضدّ الصهيونية، ولم أكن يهودي وطني أبدا، إن إنشاء إسرائيل كان على حساب إزالة فلسطين وتهجير أبنائها بالقوة”.
ولأنّ الظلم لا يستثني مكوناً من مكونات المجتمع، فمقاومته ليست حكراً على الرجال دون النساء، لذا يسلّط الكاتب الضوء على شخصيّة الشاعرة ” آنا غريكي” (غريغوار) التي كانت جزائرية المولد والهوى؛ فقد ولدت في منطقة المنعة بالأوراس سنة 1931، واختارت لاحقاً سبيل المقاومة بالقلم، عبر نشر العديد من القصائد والمقالات والدراسات، كما انخرطت في الحزب الشيوعي الجزائري بصفتها عضوة في فرقة لجنة المحاربين من أجل الاستقلال؛ ممّا أدّى إلى توقيفها سنة 1957 وتعذيبها ثم نفيها من الجزائر سنة 1958، لتعود إليها لاحقاً، قادمة من تونس بعد الاستقلال، فتشارك في صنع الحراك الثقافي الذي أعقب الاستقلال، من خلال إثارة العديد من القضايا الخاصة بالمسألة اللغوية، متبنية رؤية واقعيّة معتدلة، تتمثّل في وجوب تطوير العربية وإحلالها مكانتها التي تستحق، دون إقصاء النخبة المفرنسة التي فرضت عليها الظروف التاريخيّة تبني لغة المستعمر فوجدت نفسها منفيّة فيها.
لعل أهم ما يستخلصه قارئ هذا الكتاب هو أنّ الموقف من القضايا الإنسانيّة العادلة ليس مجرد وجهة نظر، ولا يمكن أن يكون كذلك، كما أنّه ما يحدّد الهويّة الحقّة بصفتها اختياراً واعياً يرسخه مسار طويل من النضال، فهي كما يصفها محمود درويش بنت الولادة؛ لكنّها في النهاية إبداع صاحبها لا وراثة ماضٍ، كما أنّها انتماء لسؤال الضحيّة وتحمّل لتبعاته، أمّا اختزالها في تلك الهويات العرقيّة أو الدينيّة الضيقة فهو المدخل المفضي إلى الصراع والاقتتال خلال الأزمنة الحرجة؛ لذا فإنصاف هذه الفئة واجب وطنيّ مزدوج تجاه ذاكرة ظلّت تعاني من جراح الماضي، وأجيال هي اليوم أشد حاجة إلى معرفة ماضيها بأبعاده المختلفة؛ كي تتحصّن به ضد الفرقة والتمزق . .