ما هي أول رواية في الجزائر؟ تعود المؤرخون على ذكر «الحمار الذهبي» لأبوليوس، الذي عاش في القرن الثاني للميلاد، لكنها لم تكن رواية بالمفهوم المتعارف عليه اليوم، لذلك يميل البعض الآخر للتأريخ لها منذ «نجل الفقير» لمولود فرعون، التي صدرت عام 1950، وضمت عناصر الرواية المعاصرة، لكن ماذا صدر قبلها؟ في الغالب لم تكن سوى أعمال كتاب فرنسيين، بعضهم حلّ في الجزائر بعد الاستعمار، وآخرون وُلدوا فيها، ومن بين ركام الروايات التي صدرت قبل 1950 هناك عمل يلفت الأنظار إليه، بعنوان «خضرة.. راقصة أولاد نائل» التي تروي قصة خضرة بنت الطاووس، التي امتهنت الرقص برفقة أمها في الملاهي، وبن علي عشيقها، وتدور الأحداث بين مدينتي بوسعادة وغرداية.
صدرت هذه الرواية قبل قرابة قرن من الآن، وعلى الغلاف ظهر اسمان: إيتيان ديني وسليمان بن إبراهيم. نعلم أن إيتيان ديني، الذي عاش فناناً تشكيلياً وكاتباً لم يزر قط مدينة غرداية، ولا يعلم تفاصيل الهامش في بوسعادة، بحكم حياته البورجوازية، بالتالي فإن كاتب الرواية الحقيقي هو سليمان بن إبراهيم، أصيل مدينة غرداية، الذي أقام ردحاً من الزمن في بوسعادة، وهو العارف بتفاصيل المنطقتين، ولكونه أمياً لم يكن قادراً على التدوين، استعان بايتيان ديني، فقص عليه حكاية خضرة وبن علي وأصدرها الآخر باسميهما، مركزاً على عنوان مستفز، مصراً على وصف بطلة الرواية بالراقصة، من يومها سرى كليشيه في عقول الجزائريين، أن نسوة أولاد نائل هن نسوة رقيقات مندفعات للحياة، يطلب الرجال ودّهن، نجح إيتيان ديني في ترويج كليشيه كولونيالي، ولم يشف الجزائريون منه مثلما لم يشفوا من بقايا الاستعمار، يكررون ما علمهم إياه المستشرقون سنوات الاستعمار، رغم أن تلك الصورة التجارية التي راهنت عليها الرواية كانت مناقضة للواقع.
حين حلّ الفرنسيون في الجزائر عام 1830 لم يصعب عليهم إقناع معمرين بمرافقتهم، فجاؤوا من فرنسا وإيطاليا ومالطا وإسبانيا وغيرها، ونالوا نصيباً من الأراضي الزراعية التي سلبت من الأهالي في الشمال، تكسبوا غنائم تجارية ولقوا ثروات في انتظارهم، مقابل استقرارهم في الجزائر، ضمن مسعى استبدال السكان الأصليين بأجانب، لكن كيف كان يمكن إقناعهم بالتقدم إلى الجنوب؟ حيث لا توجد تربة خصبة ولا مزارع، ولا يهطل مطر إلا نادراً؟ الحل هو الإغراء. استخدام صور النساء، والجماعة الإثنية الأكثر انتشاراً في جنوب البلاد وشمال الصحراء هم «أولاد نائل». ظهرت في البدء بطاقات بريدية بصور نساء عاريات، لم يكن نائليات، بل نساء من مختلف مناطق البلاد، وأقنعت الإدارة المعمرين أنهن نسوة المنطقة، جرى التركيز على العري وعلى صورة المرأة الشبقية، كما يتخيلها أوروبي مولع بالشرق وملذاته السهلة.
تلتها مرحلة رسم العري في لوحات تشكيلية، وكان إيتيان ديني من رواد هذا المنحى، قبل أن يعتنق الإسلام وينقلب على نفسه ويغير فنه، لكنه في تلك الحقبة أيضاً دوّن رواية «خضرة.. راقصة أولاد نائل» ولعب دوراً في انتشار ذلك الكليشيه الكولونيالي. هل فعل ذلك عمداً أم عن غير قصد؟ هل كان ضحية المنهج الاستعماري؟ مع ما رافقه من مساع في ترسيخ تلك الصور في عقول الأوروبيين، حيث انتشر آنذاك ما يُطلق عليه «مقاهي الزهو» وهي سلسلة مقاه انتشرت جنوب البلاد، تتحول مساءً إلى ملاهٍ، زبائنها مجندون في الجيش، أو من موظفي المصالح المحتلة، تتزاحم فيها نسوة للرقص وإمتاع الناظرين، لم يكنَّ مرة أخرى نساء نائليات، بل من مدن أخرى، جيء بهن، من بقاع بعيدة، قصد إقناع الرجل الأبيض بالبقاء في تلك المناطق الجنوبية القاحلة، نجحت الحيلة الكولونيالية، وكادت مدن شمال الصحراء أن تتحول إلى مدن أوروبية، صارت مقصداً لهم (وهنا وجبت الإشارة إلى أنها كانت مقصد رجال لا نساء، لأن اللعبة كانت مقصورة على إغراء جنس دون آخر).
بعد استقلال الجزائر عام 1962، كان يفترض أن تسعى الدولة الناشئة إلى كنس بقايا الكولونيالية الثقافية، أن تجعل من تلك العملية أولوية الأولويات، بالتخلص من ترسبات الاستعمار في الأذهان، لكن وقع العكس، أصبنا بأمراض الاستعمار ولم نتعاف منها إلى غاية اليوم، ما نزال نروج لأفكار رسخها الكولونياليون، من بينها فكرة أن نسوة أولاد نائل إنما هن نسوة «للفرح والرقص» ولحظنا كيف أن التلفزيون العمومي نفسه كرر هذا الخطأ، ففي واحد من أفلام المفتش الطاهر، يظهر مشهد في تلك المنطقة، حيث نسوة يرقصن، فيلم عرض مرات ومرات، كما وقع فيلم «كرنفال في دشرة» في الزلة عينها، والحال نفسه في الأدب وفي الصحافة، لا أحد تساءل أين ولدت هذه الأسطورة عن نسوة شمال الصحراء، لا أحد راجع التاريخ، بل إن الجميع منهمك في تقفي أثر الاستعمار، وفي مضغ تركته والترويج لها، والأمر لا ينطبق على نساء أولاد نائل، بل الكثير من مخلفات الحقبة الكولونيالية تكاد تصير يقينيات في أذهان الناس، والدولة الوطنية نفسها ساعدت في انتشارها، عن سوء فهم وقلة معرفة، بحكم أننا لم نحظ بمثقفين، يدركون أننا نعيد إنتاج الاستعمار في العقول، أننا تحررنا منذ ستين سنة لكن ذاكرة الجزائريين ما تزال مُستعمرة.
بالعودة إلى رواية «خضرة.. راقصة أولاد نائل» وإن اعتبرناها ـ مع تحفظ ـ أول رواية جزائرية، بحكم أنها تدور في بيئة جزائرية خالصة، كل شخصياتها جزائريون، من الأهالي، مع أنها من صفحتها الأولى تخبرنا بأنها موجهة لقارئ أوروبي، فلا بد أن ننتبه إلى هذا الفخ الذي وقع فيه إيتيان ديني ـ عن حسن نية أو سوء قصد ـ في ترويج فكرة كولونيالية وفي حصر نسوة منطقة شاسعة في الجزائر ضمن سياق واحد، ممتنع عن النظر إليهن في تنوعهن واختلافهن عن بعضهن بعضاً، وعلى الرغم من أهمية النص فنياً، فهو لم يخضع إلى مراجعة فكرية، وكان نصاً مؤسساً على مغالطة تاريخية أورثنا إياها الاستعمار، ولا تزال سارية إلى حد الساعة.
* القدس العربي