ظَلَّ الشاعر العراقي الراحل” سعدي يوسف”(1934-2021) وفيَّاً لذاكرة المُدن والأمكنة ، صُور الأصدقاء والوُجوه الآفِلة تحاصِره في كل بُرهةٍ و لحظة، فتأْبَي الانسحاب أو النسيان، مدينة ” سيدي بلعباس” الجزائرية -الأثيرة على قلبه- لا تَفتَأ تَنقُر ذاكرته باستمرار، كُلَّما استطال به الزمن، وامتدّت به رحلة السنوات االمُرّة في المنافي والأصقاع.
مدينة بهيجة أغْوتْه بمفاتِنها كامرأة ساحرة تتأوَّدُ في خُطواتِها المُترنِحة، ، وقد أقامَ بين أهلها سبعَ سنواتٍ، هي أزهَى سنوات العُمر، وأبهَاها ، كان الشاعر مسكوناً بِحُبِ هذه المدينة الفاتنة، تستحثُه الذاكرة دوماً على استحضارها، كُلما اشتدّ لهيبُ الغربة ، واستبدّ به الحنين، كان يعتبرُ مدينة” سيدي بلعباس”موطِنَه الثاني بعد “البصرة”، مكانَ النشأة والولادة،.لم يعشق مدينةً أخرى كَما عَشِقَ هذه المدينة المُفعمة ب”الرّاي” والبارود والثورة، جاءها “سعدي يوسف” مُتعبًا مَنهوكاً ومطرُودا من العراق، بعد سنوات الشقاء و السجن والاعتقال أواسِط الخمسينيات، حينما غادر الشاعر مُضطراً أرض الرافدين عام 1957، رَكِبَ الزوبعة مُتجهاً نحو المنافي والمرافئ البعيدة، شِراعُه القصيدة، وبوصلته الكلمة الصادقة والموقف الشجاع.
في دمشق عام 2000 حينما إلتقَاهُ الروائي الجزائري “جيلالي خلاص” وتبادَلَا أطراف الحديث ، عن الجزائر التي يُحب،أجْهَش الشاعر-حينها- بالبكاء ، وانتابتْه غُصَّة ألمٍ مريرةٍ،..بكَى “سعدي يوسف” بحُرْقةٍ كَاويةٍ، واستاءَ كثيرًا لِمَ يحدُث للجزائر من محنة دامية وإرهاب أعمى، وقد تَحَسَّر كثيرا للواحة الخضراء وقد تحوّلت إلى ساحة للخراب والهمجية والتدمير، وعن سؤال العودة إلى الجزائر، أجابَه والدمع لم يَجفَّ من عينيه:” كيف يُمكنُنِي زيارة أحلَى مدينة إلى قلبي بعد أن استباحَ البرابرة الجُدد،عذريتَهَا، وداسوا تُربتها الطاهرة….إنِّي أُفضل يا صديقي أن تظلَّ صورتها القديمة عالقةً في شِغاف القلب و أهداب الذاكرة”
وعن ذلك يقول:
سيدي بلعباس كانت موطني
عندما طَوَّحَ بي رمل العراق
كأسها عُنقودُها، إذ ينْحنِي
والحقُول الطِيْبُ، والليْل اعتناق
جاء” سعدي يوسف” الى مدينة “سيدي بلعباس” وهو في الثلاثين يافعاً يحلُم بالتغيير ،مملُوءاً بروح مُتوهجة،مُشبعَة بالرغبات المحمومة والإرادة المُشتعلة، كانت عيناه ترنُوان إلى أفق بعيد، بحثاً عن سماءِ أخرى أكثر استجابةً لأحلامه وتطلعاته ، حينما لامست قدماه -لأول مرة – أرضَ الشهداء ،أصابته لوثةُ عشق وجنون لهذه البلاد وأهلها، روائحُ دَمِ الشهداء الزكيّة، المُنساب عبر الوديان والسهوب والمنحدرات ، أشعل بداخله فتيل الشعر، فكتب قصيدته الرائعة “روشي نْوَار”أو الصخرة السوداء عن شابة وجندي يغرسان راية الحرية في أعلى صخرة في الجبل يُعلنان للملَأ انبثاق فجرِ يومٍ جديد.
إحساس بالعظمة كان ينمو لديه، ويملؤه بالافتخار ، عَشِقَ الشاعر المدينة وسهولها وغاباتها وجبالها، أخذته النشوة بنبيذها الرائع وبِسحرِ كُرومِها الخضراء،عَشِقَ نساءَها، وأغوته عيونُهنَّ الكحيلة وسِحْرُ مِشيتِهنَّ وهنَّ يرفُلنَ في مُلاءاتهن البيضاء.. وعن ذلك كتب بعضًا من القصص المستوحاة من أجواء مدينة بلعباس، وما جاوراها “سيدي لحسن”، “سفيزف”، “بوحنيفية”..الخ
في عام 1964 –عام قدومه الى الجزائر- كانت الجزائر حُبْلَى بهواجس التغيير والمشاريع الكبرى، وجد-الشاعر- في هذه المدينة ضالته الكبرى، تآلَف مع شعبها السَّخي وعانق آلام الكادحين ،الخارجين للتوِّ من ليلٍ استعماري دامسٍ؟ توغَّل أكثر في حكايات الناس البسطاء ،وأصبح فردًا جزائريا منهم.
سنوات الطموح والوثبة والانطلاق الحقيقي لجزائر الستينيات ألهمت مُخيّلة شاعرنا الكبير “سعدي يوسف” فأنجز دواوينه الأربعة التالية، ” بعيدًا عن السماء الأولى” و”نهاية الشمال الإفريقي “الأخضر بن يوسف ومشاغله “وتحت جداريه فائق حسن”،ولعلَّ أفضل ماكتبَه الشاعر هو ماخطته يده من قصائد فريدة، وهو مقيم بيننا.، كقصيدتيه: “الأخضر بن يوسف” و”خان أيوب” وهُمَا من أجود ماكتبَ الشاعر”سعدي يوسف” مثلما يذهب إلى ذلك الناقد والشاعر اللبناني الراحل “محمد علي شمس الدين”
مع ذلك تظلُّ مدينة “سيدي بلعباس” مُمْعِنةً في عُلوِّها الشاهق، كسماء أبدية ، ترفض الخنوع و الانصياع كمُهرة متوحشة ، يقول عنها:
سماء” بلعباس” لا تنحني فيها ولا تُمطر منها النجوم
سماء” بِلعباس” مبنيةٌ ، قرميدة حمراء فوقَ الكروم