بعيدًا عن الموت بصيغته المعهودة، الموت الذي هو زوال الأشياء وانطوائها خلف عوالم مُحتجبة. تكتب الشَّاعرة ”أسماء رمرام“ بروح شفَّافة.. مُطلقة، ومُنطلقة من دواخلها المسكونة بالحياة والوطن والذِّكرى. باحثة عن مسلك يرفل في النُّصوص الحُبلى بوشوشة الخفقات. فالنَّص الذي تقدِّمه ”أسماء“ نصٌّ منبثقٌ من العمق، ومن شأنه رفع الإنسان من هاوية الألم، وتخليصه من القنوط، والدفع به إلى فضاءات أخرى أكثر اتِّساعا وتفرّدًا:
وحين وقف الموت ندًّا لها
في مدخل النَّص
حضرت له صينيَّة القهوة
كضيفٍ مبجَّل
ورشَّت في فنجانه قليلاً
من ماء الزَّهر
ثمَّ أخفته كعارٍ
في جيب الكناية…
عمدت الشَّاعرة ”أسماء رمرام“ إلى خلق جديد لمْ يحدّ من تحرّرها. وتقرَّت المواربة والإثارة والإدهاش بإضافة مفاتن شعريَّة ولغويَّة متمرسة التوهج والإيقاع. كما أشركت (الآخر/ المتلقِّي) الالتفاف والالتقاء مع حميميَّات المرأة، وفقًا لما ينطوي عليه الجسد الأنثوي من رغبة متدفِّقة واحتياج حارق. فثمَّة ما يُشير إلى هذا الافصاح وتعريته شعريًّا في معظم ما خلَّفته نصوصها:
أنا التي تحبُّ لحيتك الخفيفة، وتمشي بلا عقل إلى خدَّيكْ، وتعود إلى سريرها مكشوفة الرِّئتين، هي ذاتها المرأة التي تغضبُ من لزوجة صوتك حين يمعن في المكرْ، ويتمدَّد كسقفٍ ثامن.
أنا جناحك، أحلِّق بك إلى ما فوق السَّحاب، حين أصير قصيدة.
أنا مائدتك، حين تتلوى جوعًا وترتمي بين ذراعيَّ.
بقلم الرَّصاص
يخربش طفلك
على سرَّتي
بصوتك
تخلع عنِّي الأرق.
بأحمر شفاه
أقيس درجة صبرك
بسرعة نبضك
أقيس درجة أنوثتي.
لم تكن القبلة الأولى
سوى طعنة
في ظهرِ الأرق
هبَّت على رياحها
تقاسيمُ الشَّبق.
تكرَّرت صورة الأمومة والأحلام الطفوليَّة في أكثر من نص. حيث تقول الشَّاعرة في خضم هذا الشُّعور الإنساني النبيل:
المرأة التي لم تحبل بعد
ما زالت تسأل عن شكل الأمومة
ولون القبلة الأولى
على ثغر طفل
ورائحةِ يديه
وتدَّعي أنَّها لا تغار من اللَّائي
يحملن أطفالاً
بين أيديهن.
القصيدة التي
في أعلى الشجرة
ليست كالقصيدة التي
في صدر السبورة
ولهذا قبل أن أعلِّم ولدي القراءة
علَّمته الحلم.
تكتب ”أسماء رمرام“ نصوصها بتقنيَّة رؤيويَّة مُنسجمة مع ذاتها (الشَّاعرة/ الأنثى). وتحتفي بالحالات الوجدانيَّة بفلسفة بليغة الإشارة، وعالية الانعكاس. كما أنَّها تتناغم مع أجوائها وفضاءاتها، وتهتدي إلى الخلق المطلق. ممّا عزَّزت تجربتها وجعلتها تشكِّل منحى فارقا في المَشهد الشِّعري الجزائري الذي ينتمي إليه جيلها. ولعلَّ أهمّ أسباب هذه المفارقات، والإيماءات، والمعارضات، والنُّزوع إلى خلق اللذاذات التي توازي بين الرُّوح والجسد، وتتقاطع مع الأنساق المغايرة المنبعثة من تجربتها الحياتيَّة، تلك التي كانت ناتجة عن دراستها للهندسة الصيدلانيَّة، لأنَّ القارئ الحذق سيتحسَّس هذا الجانب عديد المرَّات:
في المكان الذي تؤثِّثه رؤاك
أتملى رأسي المحموم
أبصق الدرس الأخير
في مقياس الهندسة المدنيَّة
في كليَّة الهندسة
حيث كانت الفيزياء ورطتي الثلجيَّة
ما زالت الأسئلة التي يرجمها الوقت
تنزف كظِّلٍّ على ورقتي
ولأنَّ الشِّعر الذي لا يعرف كيف يحل
معادلة فيزيائيَّة صعبة
سيبقى جائعًا على مائدة الكرام
فكَّرت في دعوة E و m و c
لحل المعادلة التي من شأنها
تغيير مسار النَّص
E=mc^2
هل السَّماء التي في جيب المجاز
كالسَّماء التي
في جيب المرآة؟
هل وزن المرأة الممسوسة
بعطر من خشب الصندل
كوزن المرأة التي
لا تدخل اللَّيل الوثير
برشة عطر؟
هل تغيَّرت المعادلة E=mc^2
وهي تصبُّ الأسئلة
في فنجان قهوة شاعر؟
للفيزياء التي
تجيد قراءة الكون
أرفع صوتك المورفين
وأغيب في الشِّعر.
ينبني الكون الشِّعري عند ”أسماء رمرام“ بدءًا من قناعاتها في الحياة، وصولاً إلى ثيمات مختلفة. فهي شاعرة تائقة إلى الإيمان، ولأنَّها حقيقيَّة لمْ تأتِ في ديوانها إلَّا بما يختصر إنسانيتها، وبما يبرزُ حدسها، واندماجها، ونفحاتها المتصوِّفة المأخوذة بالعزلة والهامش:
هذا العالم يشبهك كثيرًا يا صديقي
في ملوحةِ وزنك وهو يصفِّق في الفراغ
ويتعاطى الكذبَ
كجرعةٍ يوميَّةٍ مخدّرة
ويوهم الشجرة أنَّ بيانو ”يـاني“
لا يخلق الرُّوح في النسغ الناقص
وأنَّ الكمال
للعدم.
مبارك للمكتبة الجزائريَّة وهي تزدان بهذا العمل المثير، والجذَّاب، والمختلف في بنيته الشِّعريَّة، وإشعاعه الحداثي. عمل يوقظ الرَّعشات الساكنة فينَا دهشة وعذوبة.
هامش:
”أسمام رمرام“ شاعرة وقاصَّة جزائريَّة من مدينة قسنطينة.
خريجة كليَّة الهندسة/ قسم الهندسة الصيدلانيَّة سنة 2010.
صدر لها ديوان شعر:
- أبواب كثيرة.. غابة وحيدة سنة 2018.
- مجموعة قصصيَّة:
بكاء القرنفل سنة 2019.