صــــــــالح القرمــــــــادي: كاتب خارج الأقفاص / محمد بوزرواطة
بواسطة admin بتاريخ 18 أغسطس, 2024 في 04:23 مساء | مصنفة في حفريات | لا تعليقات عدد المشاهدات : 100.

-01-

في غفلة من ليل العرب الدَّامس، وفي غمْرة إشتعَال الحرب الأهلية اللبنانية، انطفأت شعلة المترجم البارع صالح القرمادي في الثاني عشر أفريل عام 1982، دون أن يُحدِث- موته المأساوي- أي ردَّ فِعل يُذكَر!؟ خاصة وأنّ الأمر يتعلَّق بقامة سامقة في عالم التَّرجمة واللسانيات والدراسات اللغوية، والتي شغلت حَيّزًا مُهمًا من حياة الرجل، الذي نذر عمره لتدريس علم اللسانيات بكلية الآداب بتونس، على مدار أكثر من عشرين عاما، قضَاها في البحث والتنقيب والترجمة.

-02-

هكذا مات صالح القرمادي بشكل عبثي، يدعو إلى الإستغراب والدهشة، تصوَّروا أنه سقط في بئر، وهو يتجوّل بإحدى المُنتزَهات الجبلية التونسية!؟، مَوتٌ شبيه بمصير عالم اللسانيات رولان بارت – شقيقه على الأَقل في الهَمِّ والحفر والتفكير- وقد قَضَى هو الآخر في حادث سير فجائعي، عام 1980.

تُرى مَاذا لو امتدّ العُمر بصالح القرمادي أشواطا أخرى، واستطالت به دورة الحياة!؟

أمَا كَان بالإمكان أن يُثْرِي المكتبة العربية بالعديد من الإنجازات المُهمة في حقل اللسانيات والترجمة؟ غير أن المُصادفات –وحدها- لا تعرف المنطق كما يُقال، وأنّ نهر الحياة الهادر، كثيرًا ماَ تعصفُ به الأقدار العابثة!؟.

لقد غاب عنَّا الرجل جسدَا، لكن طيفه لايزال حاضرًا، بقوّة توهّجه، وعطائه المُستمر، في ذاكرة أصدقائه ومُريديه، من طلبة تتلَّمَذوا على يديه وأخذوا منه الكثير، من دماثة السُّلوك و نُبل الأخلاق وجَسَارة التفكير في وجه الخصوم والأصدقاء على حَدٍّ سوَاء، مثقف مُفعمٌ بالتفكير وإثارة الأسئلة والإشكاليات الحادّة، فيما يخُصّ وضعنا الثقافي واللغوي المُنْتَكَس.

-03-

استطاع القرمادي المولود عام 1933، أن ينجوَ بأعجوبة من براثن الفقر والإحتياج، وسَطَ عائلة عاشت العَوز والحرمان، كأغلبية الأسَر التونسية في تلك الفترة الإستعمارية الحرجة. وبإرادة حديدية، استطاع أن يُواصلَ تعليمه بفرنسا، وأن يحُوزَ الدكتواره بجامعة السُّوربون في اللسانيات والدراسات اللغوية، الأمرُ الذي فتح عينيه وعقلَه باكرًا، على الوضع الإجتماعي والإبداعي واللغوي المُتَخلِف لثقافتنا العربية، إن هي ظلَّت مُلتصِقةً بالموروثات الواهية، والثوابت الهشَّة، التي ظلَّت تُعيق مسيرة الإبداع العربي نحو آفاق التطوّر والتقدم.

ومن هنا جاءت ترجمته لكتاب جان كانتينو الموسُوم بـ “دروس في علم أصوات العربية”، وقد صدر في تونس عام 1966، على هذا النحو يُعدّ القرمادي رائدَا في مجال إقتحام علم اللسانيات في عالمنا العربي، في وقت شهِدَ انحسارًا وشُحّاً في مجال الدراسات التي تناولت المسألة اللغوية وعلم الأصوات، بمنهج أكاديمي مُتمرّس، وبنظرة موضوعية فاحصة، بعيدًا عن تضخُم الذَّات، والارتكان إلى سلطة الحفاظ على الموروث، دون امتلاك الجرأة على الخَلْخَلة والنقد.

-04-

لقد تَسَاوَق عمل القرمادي الأكاديمي، مع نشاطه ونضاله في صفوف اليسار التونسي -دون أن ينتسِب إلى حزب مُعيّن- من خلال إنشائه مجلة “التجديد”، رفقة صديقيه توفيق بكار والمُنجي الشَّملي، بحيث ظهر أوّل عدد لَها في فيفري عام 1961، كانت شعلة متوهجة من الروح الوثَّابة نحو التغيير، ونقد الذهنيات البالية، اتَّسمت كتابات القرمادي في تلك المرحلة، بالجرأة وعدم المُهادنة، والتَّخلي عن مبدأ الحرية، الذي اتذَخذه أرضية للانطلاق.

فلا غَرْوَ أن يأتي أوَّل ديوان شعري له عام 1970 “اللُّحْمَة الحَيَّة” مُكرِّساً لهذه النزعة الإقتحامية التي لاَ تأبَهُ بالحواجز والمُثبِطات، ضمّ الديوان مجموعة من الأشعار بالعربية والفرنسية من توطئة للناقد توفيق بكار، الذي أشاد بالنبْرة الحادَّة التي تنطوي عليه قصائد المجموعة الشبيهة بالأنصال المَسْنونة المُنغرزة في أجسادٍ معطوبة لا تعرف الحَراك، ثمَّة تداخل واستيعاب ذكي بين مُستوى اللغات – العربية والفرنسية والمحْكيات العامية التونسية، في توليفة إبداعية نادرة، قلَمَا نعثرُ عليها الآن في قصائد الأجيال الَّلاحقة.

-05-

تضُم المجموعة قصيدةَ جريئة، بمثابةِ الوصية الأخيرة لموت صالح القرمادي كتبها في السِّتينيات مع بداية مساره الشعري موسومة بنصائح إلى أهلي بعد موتي، و فيها إختزال لفلسفته ونظرته للوجود وما يكتنفُها من حيرة وتذمُّر، يقول فيها:

إذا مُتُ مرَّة بينكم…وهل أموت أبدَا!؟

فلا تقرؤوا عليَّ” الفاتِحة “و”ياسين”

أُتركُوهما لِمَن يرتزِق بهما!؟

لا تذرُوا على قبري حُبوب التِّين المُجفَّفة،لتأكُلَها طيور السَّماء

فالأحياء بها أوْلى…

ماَ يُستغربُ له –حقًا- أنَّ الشاعرة والإعلامية اللبنانية جمانة حداد(1970)، قد أدرجت نفس القصيدة، في عِدَاد مَا كتبته الشاعرة الجزائرية الراحلة صافية كتو، كوصية أخيرة لها قبل رحيلها الدامي عام 1989، ونشرَته في كتابها الموسوعي عن الشعراء المُنتحرين في العالم، الذي يحمل عنوان “سيجئ الموت وستكُون له عيناك”. وقد صدر الكتاب في طبعة أولى عام 2007 عن الدار العربية للعلوم ببيروت، ولسناَ ندري عن إنفلاتِها هذا؟

هل هوعدَم التَّمحيص والتدقيق للمصادر والمعلومات،أم أّنَّه التَّسَرُع وكفى!؟، خاصة وأنَّ الأمر يتعلَّق بشاعرة معروفة وبمترجم مِلْءَ الأسماع!؟.

نشيرُ في نهاية هذه الإلمَامة السَّريعة بالجهود التي قام بها صالح القرمادي لترجمة بعض روائع الأدب الجزائري إلى العربية، كرواية “سأهبك غزالة” للشاعر والروائي مالك حداد(1927-1978)، كما تصدّى باقتدار لترجمة التطليق لرشيد بوجدرة(1941)، أَبَاَن من خلالها عن مَقدِرة فائقةٍ لتطويع النص بالعربية، مع الحفاظ قدْرَ الإمكان على أجواء بوجدرة، ذات المُناخات النفسية المُركَّبة.

-06-

في الأخير أضمُّ صوتي إلى صرخة الكاتبة التونسية رجاء بن سلَّامة(1962)، في معرِضِ حدِيثها عن خصال الكاتب في مناسبة خاصة لإحياء ذِكراه ، قائلةً: “ينبغي أن نُسارِع جميعا إلى إنقاذ ميراث صالح القرمادي، قبل أن يتحوّل إلى مجرد صنم، سرعان ما تبدِّدُه رياح النُكْران والنِسيان “

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقا