ضمن التَّقييمات المنهجية التي يتبنَّاها فريق من النقَّاد والمهتمين بتشريح النصوص،فيما يتعلق بالحكم على ثراء نصٍّ معين أو بؤسه، رصد مستويات حضور الهوامش والحواشي والاستطرادات والتوضيحات الجانبية والتعريفات والسِّير، أسفل كل صفحة من صفحاته، بحيث يشكِّل مجموعها في نهاية المطاف، نصَّا مُبَطَّنا خلف واجهة النصِّ الأساسي وكذا مفتاحا لفهم جوانب كبيرة انطوت عليها حمولته الظاهرة.
حقيقة قد توحي الإشكالية، بملاحظات أخرى يستدعيها المقام،بخصوص طبيعة النصِّ،
وهويته الجديرة به، انطلاقا من علاقته بصاحبه أولا ثم القارئ الواحد والمفترض :
ليس مُهِمّا، أن يكون النص طويلا كمِّيا، مديد القامة حتى يؤكِّد وجوده، بل الجوهري نوعية حمولته المعرفية، وما انطوى عليه من إشكاليات وأسئلة جديدة قياسا للأطروحات القائمة.
ليس مُهِمّا، معطيات السطح الخارجي للنص، لكن تضميناته العميقة ثم مجمل الإشارات المتوارية في الهامش.
ليس مُهِمّا، تفاعل القارئ بكيفية فورية، خلال ذات الزمان والمكان، وأن يحظى النص بترحيب مبهج، فالأساسي مدى قدرته على تبيان أبدية الحقائق الإنسانية الأصيلة، وسعيه المستمر قصد تبليغها، بكيفية أو أخرى؛ حسب السياقات وطبيعة القول.
في إطار استرسال متواليات خطاب من هذا النوع، يندرج سؤال الترجمة والحواشي: كيف يهتمُّ المترجِم بالحواشي؟ما القيمة المعرفية للحواشي في بناء النصِّ و إثرائه؟
من بين المقوِّمات المرجعية، بخصوص معايير تأويل الترجمات وتحديد مستويات نجاح التعامل الجدِّيّ للمترجِمِ مع النصِّ، تندرج مسألة الاهتمام بالحواشي والهوامش ومختلف بيانات الترقيم التطريزية التي تؤسِّسُ مبدئيا نصّا داخل النصِّ، وليست مجرد بناء شكلي؛ غيابه كحضوره.
بمعنى ثان، قصد تبلور النصِّ وفق أفضل حالاته، وبغضِّ النظر على طريقة كتابة النصِّ الأصلي، يلزم على المترجِمِ حسب أفضل التقديرات الاهتمام بتخصيب الهوامش وتعزيزها بأشياء كثيرة، بهدف تحقيق أقصى مستويات الإبانة والتوضيح، وجعله النص الجديد قطعة قريبة جدا من قلب وأحاسيس القارئ.
طبعا، يبقى هذا السعي متحرِّرا من أيِّ ضرورة سواء أكاديمية أو غيرها، ويتوقَّف بالدرجة الأولى الاشتغال عليه من عدمه على رغبة حرَّة للمترجِمِ، يقتضي منه حتما مجهودا مضاعفا، يضاف في الآن ذاته إلى مجهود ترجمة ماورد ضمن إطار النص بحذافيره مثلما استودعه المؤلِّف حتى يؤدي المترجِمُ أمانته الملقاة على عاتقه،ويكسِّر التهمة الجاهزة مثل مسلَّمة بكون الترجمة ماهيتها الخيانة.
لكنه مجهود محمود جدا،إن استطاع المترجِمُ وضعه هيكليا ضمن خطَّة الترجمة، كي يظهر براعته واجتهاده أكثر فأكثر،ويقدِّم أقصى مايمكنه بخصوص إظهار قدراته المعرفية على القراءة والتأويل، ومدى استيعابه النصّ الماثل للترجمة وفق أبعاد ومستويات تتجاوز كثيرا، الاكتفاء المعوز بحصيلة ترجمة ديداكتيكية، غالبا ماتكون عقيمة وجافَّة، وتغدو المسألة ملحَّة بامتياز، إذا كان النصّ الأول زاخرا بالمفاهيم والمعطيات التاريخية أو الجغرافية، يطرحها الكاتب بكيفية عامة دون تدقيقها، كما لو هي معلومة عند الجميع، مما يعكس إجحافا في حقِّ مختلف مكونات عملية الكتابة.
إذن، تمثِّل تزاويق، ترصيعات، الهوامش خلال عملية الترجمة تطويرا بنيويا للنصِّ واستطرادا بنَّاء،يفتح آفاقا جديدة لمكوِّنات الترجمة، ربما لم تكن قابلة للتَّبلور والتجلِّي لولا سجالات الهامش واجتهادات المترجِم في خضمِّها، بالتالي لاتعتبر”تدخُّلا غير شرعي”أو تصرُّفا يتضمَّن تطاولا على حدود التعامل مع النصِّ المنطلَقِ،من شأنه الانعراج بالمعاني،مثلما تصوَّر دلالتها المؤلّفُ، عن سياقها المفترض والجدير بسياقها الدلالي والتداولي.
تؤمن الترجمة المبدعة،أولا وأخيرا، بأنَّها كتابة موازية تتوخى إعادة تقديم النص الأول، بكتابته مرتين وأكثر بالانغماس في شغف القراءة. هكذا، تقف في جهة مغايرة تماما، لباقي أنماط الترجمات الجافّة والفاترة نتيجة دواعي أخرى مبتذلة، غير القراءة المرحة؛ مادامت هي متحلِّية دائما بترياق الشغف.
حتما، ينتمي الاحتفال بأدبيات الحواشي ضمن عوالم الترجمة، إلى نفس دعوات مابعد الحداثة التي كسَّرت جذريا مختلف المنظومة الكلاسيكية وثوابتها، وقلبت رأسا على عقب، جلّ التصورات القائمة بحيث أضحى الهامش أهمّ من المركز، القارئ أكثر حضورا من الكاتب، اللاحقيقة كنه النصوص، التعدُّد يمحو كل ذاكرة للامتلاء، الترجمة كتابة ثانية ضمن كتابات لانهائية للنص،وأخيرا توظيف الهوامش يعتبر أبرز مؤشِّرات وسمات إعادة الكتابة تلك.
النتيجة، يحدث الانتقال من ترجمة خَطِّية، محايدة، عقيمة، أقرب إلى درس إملائي، صوب ترجمة حيوية، تحاورية، خصبة، خلاَّقة، ترشد الكاتب والمترجم والقارئ، إلى رحابة عوالم جديدة، غير أبدية متوقَّعة بتاتا.