كثيرة هي المفاهيم والتصورات، التي تحولت عبر الممارسة اليومية، إلى قواعد اعتقد البعض أنها من المسلمات القائمة، والبديهيات الثابتة، كوننا مازلنا ننتمي إلى المجتمعات الساكنة، إلا أن النتيجة جاءت عكس ما يريده الراغبون، ومما تجسد في ساحتنا الإعلامية، ذلك الخلط في مفهوم الخبر الصحفي، وبالذات الثقافي منه.
لقد درجت الممارسة الإعلامية عندنا، على الوقوع في حصار مجموعة من الألفاظ والعبارات القاتلة، والاعتماد عليها في بناء الخبر الثقافي، مثل انطلق وتتواصل واختتم، وما يلحق بها مما جعل العملية الإعلامية فاقدة في النهاية، لهدفها الأساسي، والمتمثل في انجاز رسالة إعلامية، تتناسب مع الحدث نفسه، ومع ظروفه المحيطة به.
في أغلب الأحيان نجد أنفسنا في مقابل مشهد إعلامي متعدد ومعقد في الوقت نفسه، يستمد تقاليد ممارسته الصحفية من الواقع نفسه، وحسب إمكانيات أعضائه، وما توصلهم إليه اجتهاداتهم الفردية وأمزجتهم الشخصية، وخلاصة معارفهم النظرية، كون التجربة القائمة في الواقع لا تخضع إلى معالم مؤسسة من قبل، ولا يوجد أنموذج يمكن الاتكاء عليه في إنتاج العملية الإعلامية، لأن هذه الأخيرة لم تتمكن من جلب الاهتمام المناسب لها، بالرغم من اقترابها من نهاية ربع قرن على انطلاق المرحلة الجديدة من مسيرتها التاريخية، التي انطلقت في بداية القرن العشرين، والملفت للانتباه أن هذه المسيرة الطويلة لا توجد من الجهود العلمية والأكاديمية ما يناسبها من البحث والدراسة، خاصة الجامعية منها.
إن العملية الثقافية، هي تلك المنظومة المتكاملة والمقعدة، التي تصوغ في النهاية شخصية الفرد أو الجماعة، وتعطي لهذه الشخصية مبرراتها التاريخية، وتلامس في النهاية (الفعل)، مما يعني أنها تبتعد كلية على السلوكات (التنشيط) ، كون الأمر متعلق بالصيرورة التاريخية للتجربة الإنسانية، لأن الأمر لا يحتاج اليوم لمنح الشرعية المجانية، لمن لا يملك من القدرات الإبداعية، والمستويات الفنية، ما يجعله قادرا على منحها للآخرين.
في الوقت نفسه، فإن العملية الإعلامية، ليست كما يتصور البعض (سلوكات) ، جهود عضلية محصورة في التحرير الكلاسيكي لـ(التنشيط) ، بقدر ما هي اقتراب عقلاني من (الفعل) ، باعتبارها منتوج فكري، ينتج مجموعة من القيم، التي تجعل العملية الإعلامية، تصل إلى مستوى تعديل المزاج، وإعادة النظر في الرؤية، وتحقق الاستحواذ والهيمنة، التي تجعل الخبر الثقافي المحرك الأساسي، الذي يمكن التعويل عليه في صناعة المستقبل.
إن التجربة الإعلامية الجزائرية، بحاجة اليوم إلى جهود نوعية، من اجل تحقيق تلك الوثبة التي تجعلها تتجاوز مرحلة التأسيس، والانطلاق نحو الاحترافية، التي لن تتحقق، إلا إذا وجدت الإرادة الكافية من التواضع، والاعتراف بالحقائق العلمية، التي تمكن العملية الإعلامية من الانخراط في التاريخ، وتبتعد عن السطحية والمزاجية، والقيام بما يناسب من الأعمال، التي تمكن من الحصول على الاحترام.
إن المرحلة الجديدة من مسيرة العملية الإعلامية الجزائرية، التي ارتقت فيها الممارسة الإعلامية الجديدة إلى مستوى التحول إلى الاحترافية، وبروز العديد من الأسماء الإعلامية التي كونت وجهة نظر مهمة، جراء التراكم المعرفي والمهني في مختلف وسائل الإعلام الجزائرية، وهي الأسماء التي جاءت دعوة الكاتب لدعوتها إلى الانطلاق في تأسيس فضاءات وتقاليد جديدة للنقاش والحوار، من أجل تجاوز العثرات السابقة والارتقاء إلى مستويات أكثر فعالية وجودة، بمقاييس إعلامية ومعرفية ومهنية.
إننا عندما نتناول هذا الملف، ليس من قبيل ملئ الفراغ، أو غياب المواضيع، ولا تهميش الإشكاليات، ولكننا نعتقد أن ملف الإعلام الثقافي، يعتبر من الملفات الإستراتيجية التي يفترض أن تكون الهاجس الأساسي، لقادة الإعلام وصناع القرار ومختلف النخب، كون الأمر يتعلق بمصير المجموعة البشرية، التي نسميها المجتمع، الذي يتعرض إلى الكثير من عوامل التهديد، واغلبها تلك التهديدات، راغبة في السعي إلى تحقيق هدف كبير، هو إخراج المجتمع من التاريخ.
وعند هذا المستوى، ستكون التكاليف اكبر بكثير من تلك التي يتصورها البعض، وتكون أكبر مما يمكن أن نبذله جميعا، إذا عرفنا كيف نتجاوز التخلف الذي نمارس طقوسه يوميا، في مختلف المواقع والفضاءات، لأن الأمم المحترمة تلك التي تسعي إلى بناء منظومات قيمية تاريخية، تساعدها على الرقي والتحضر، وأهم عوامل بناء هذه المنظومات هو الإعلام الثقافي، لقد حان الوقت لكي نؤسس لتلك التقاليد الذكية، ونضع حجر الأساس، لأرضية وطنية شاملة وعقلانية، تكون قادرة على استيعاب الجميع، ممارسين ومهتمين، والاستفادة من قيم الحوار وتراكم التجربة، حتى يمكن الخروج في النهاية، بما يمكن أن يكون مشروع وطني، يحدد معالم الممارسة الإعلامية، عبر قاعدة الإعلام الثقافي. .
———————————————————————-
* محمد بغداد (كاتب واعلامي من الجزائر)