إن معالجتنا لموضوع النقد الأسطوري، يأتي في باب الانفتاح على المناهج النقدية الحديثة، لذلك ارتأينا رصد المعالم الأساس لهذا المنهج كما تبلورت عند الناقد الكندي نورتروب فراي، وما دام المنهج هو مجموع المفاهيم والآليات الإجرائية التي تضبط العلاقة بين الناقد والنص الأدبي سنشرع أولا في توضيح بعض المفاهيم التي نرى على أنها تمثل جوهر هذا الخطاب، كما نرى أنه لابد من أن نعرج على العوامل التي ساهمت في نشأة هذا الخطاب في النقد الغربي وتطوره، لنتوقف بعد ذلك على تقديم هذا الخطاب كما هو متجسد من خلال دراسة نورتروب فراي “تشريح النقد”، الذي يضم مقدمة جدلية، وأربعة مقالات، أولها تم تخصصها للنقد التاريخي: نظرية الأنماط، والثانية للنقد الأخلاقي: نظرية الرموز، أما الثالثة فهي حول النقد البدئي: نظرية الأساطير، في حين تم تخصيص المقالة الرابعة للنقد البلاغي: نظرية الأنواع. وقد اقتصرنا هنا على بيان تجليات النقد الأسطوري من خلال المقالتين الثالثة والرابعة باعتبارهما الأكثر تركيزا على فحوى هذا المنهج
1– تحديد المفاهيم.
مفهوم النقد: لقد أثار مفهوم النقد خلافا كبيرا بين الدارسين في تحديده، كل حسب خلفيته المعرفية التي انطلق منها.
- “هو فن الحكم على الأساليب الأدبية المختلفة، والفنون الأدبية المتنوعة، ببيان مناحي القوة فيها والضعف، ومواطن الجمال والقبح والصحة والخطأ[1]“.
- “هو تفسير العمل الأدبي للقارئ، ومساعدته على فهمه وتذوقه، وذلك عن طريق فحص طبيعته وعرض ما فيه من قيم”.
- “هو الكشف عن جوانب النضج الفني في الإنتاج الأدبي وتمييزها عن سواها عن طريق الشرح والتحليل ثم الحكم”[2].
مفهوم الأسطورة: إذا كان مفهوم النقد قد شكل محطة خلاف بين الدارسين كل حسب منطلقه الفكري، فإن مفهوم الأسطورة، لم يشد عن هذه القاعدة المطردة في العلوم الإنسانية، فهي بدورها تتجاذبها تيارات متعددة، وكل يعرفها حسب وجهة نظره الخاصة، حيث نجد هناك من يعرفها “بأنها مجموع الحكايات الطرفية المتوارثة مند أقدم العهود الإنسانية، الحافلبة بضروب من الخوارق والمعجزات، التي يختلط فيها الخيال بالواقع، ويمتزج عالم الظواهر بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وظواهر طبيعية بعالم ما فوق الطبيعة، ومن قوى غيبية اعتقد الإنسان الأول بألوهيتها فتعددت في نظره الآلهة تبعا لتعدد مظاهرها المختلفة”
وهناك من يعتبرها “قصة تقليدية مجهولة المؤلف، تقنن فيها ثقافة معينة أعرافها الاجتماعية، أو تفسر أصول الظواهر الإنسانية والطبيعية على أسس فائقة للطبيعة أو مغرقة في الخيال”[3].
في حين نجد هناك من اتجه بهذا المفهوم وجهة أخرى، حيث لم تعد هي ذلك المعتقد الزائف المناقض للواقع، بل أصبحت نمطا حدسيا رفيعا للفهم الكوني يشتمل على حقائق عميقة، ويعبر عن مواقف جمعية من مسائل جوهرية، مثل الحياة والموت والألوهية والوجود، وقد تعد تلك المواقف كلية عالمية. وبالإضافة إلى ذلك أصبحت مجموعة من المفاهيم مثل الحقيقة والواقع… إشكالية ولم تعد كنقيض للأسطورة.
ويؤيد هذا الاتجاه وليك ووارين في كتابهما نظرية الأدب، حيث يقفان عند هذا المصطلح فيعتبرانه «يحوم على حقل هام من المعاني، تشترك فيه الديانة والفلكلور وعلم الإنسان وعلم الاجتماع والتحليل النفسي والفنون الجميلة. وفي بعض المتناقضات المعتادة، فالأسطورة نقيض للتاريخ أو للعلم أو للفلسفة أو للحقيقة أو للحكاية التمثيلية».
لكن في نظرهما، «إذا كان لمصطلح الأسطورة في القرنيين السابع عشر و والثامن عشر معنى سلبيا، أي أنها تخيل غير صحيح علميا أو فلسفيا، فإنها في العصر الحديث، أصبح شأنها شأن مفهوم الشعر، فهي نوع من الحقيقة أو معادل للحقيقة، ليس منافسا للحقيقة العلمية أو التاريخية بل رافدا لها»[4]
مفهوم النقد الأسطوري: هو ما يسمى بالمدخل النموذجي أو الطوطمي أو النقد القائم على الموروث الشعبي أو الأسطوري أو الشعائري، وهو بذلك يفسر الأعمال الأدبية باعتبارها تجسيدات لأنماط وبنى أسطورية، أو لنماذج أصلية، لا زمنية، تعاود الوقوع، ولا يكون الإهتمام في هذا النقد بالخصائص النوعية للعمل الأدبي بقدر ما يكون بسمات البنية السردية أو الرمزية التي تربطه بأساطير قديمة[5].
وعلى هذا، فالنقد الأسطوري يتطلب قراءة دقيقة للنص، وهو قريب إلى علم النفس لتحليله استهواء العمل الأدبي للجمهور، وهو ليس منقطع الصلة مع المناهج الأخرى، بل يمكن القول أن من الصعوبة بما كان أن يعتمد عليه الناقد لوحده.[6]
2 – نشأة وتطور النقد الأسطوري:
لاشك أن العوامل التي تحكمت في ظهور النقد الأسطوري، شأنها شأن باقي العوامل المتحكمة في اتجاهات نقدية أخرى، وهو سعيها إلى إكساب النقد الأدبي الطابع العلمي، ولعل كذلك من العوامل التي ساهمت بشكل كبير في بروز هذا النوع من النقد، هو أن «نقاد الأسطورة المحدثين قد تأثروا أكثر من ذلك بما تبين من أن الإنسان البدائي مازال كامنا في كل منا، وأن مواطن القرن العشرين الذي يذهب طائعا إلى عمله في سيارته كل صباح (…) ثم يهيئ نفسه للنوم بمشاهدة التسليات التي تنقلها إلى غرفته، الصناعة الإلكترونية، يعيد في أحلامه كل ليلة خلق الرموز الأولية للأسطورة القديمة»[7].
وقد تفرع هذا الاتجاه النقدي عن التحليل النفسي من جهة[8]، حيث يعتبر فرويد من الأوائل الذين اهتموا بالتفسير الأسطوري، وأعطى لذلك بعدا يكمن في أن الأسطورة تعود جذورها إلى اللاشعور أو العقل الباطن عند الإنسان، وهي في صراع دائم مع ضغوط المجتمع وتقاليده وقوانينه التي تكبت رغبات الإنسان وتقهر تطلعاته الدفينة بلا رحمة، ولذلك فإن تيار الشعور أو اللاشعور، الذي أغرم الروائيون بتصويره حتى يرى القراء شخصياتهم من الداخل عندما تتعرى رغباتهم الدفينة، كان أسلوبا دراميا سيكولوجيا لبلوغ منابع البدائية في النفس البشرية، وهي المنابع أو العوامل التي تأثر في فكر الشخصيات وتشكل سلوكها اتجاه الآخرين بأسلوب لا يقلب عن التأثير الذي تمارسه ضغوط المجتمع عليها، وبالتالي فهي تؤثر على صياغة الشكل الفني لهذه الروايات، وليس على مضمونها فحسب[9]
وقد ارتبط اسم فرويد باسم كارل يونغ، وكانت جهوده فيما يتعلق بالنقد الأسطوري في نظرية الذاكرة الجماعية، وعن تصوره عن النماذج العليا أو النماذج البدائية المتجسدة في الأساطير والخرافات التي ترسخت في البنية العميقة اللاشعورية للإنسانية، وتوارثت منذ حقب سحيقة، باعتبار أن الأسطورة تمثل نمطا من المعرفة البدائية التي ابتدعها الإنسان لفهم ذاته والكون من حوله، وبفعل تقدم المعرفة العلمية توارت هذه الأساطير في أعماق الإنسانية وأصبحت تعبر عن نفسها في صيغ حكايات خرافات وإبداعات تخييلية وضمنها الأدب والشعر[10].
وبالإضافة إلى التحليل النفسي، فقد ساهمت الأنتروبولوجيا، بدورها، في بلورة هذا الاتجاه النقدي، وذلك من خلال جهود العالم الأنتروبولوجي الاسكتلندي جيمس جورج فريزر من خلال كتابه “الغصن الذهبي”، الذي تتبع فيه الأساطير إلى بدايتها، فيما قبل التاريخ، حيث يفترض دورة موت وإعادة ميلاد ماثلة في طقوس الخصب من زاوية أساسية في متون أسطورية متعددة.
ومن جانب آخر، نجد لكلود لفي استراوش مجهودا كبيرا، في تطور هذا الاتجاه النقدي، مع العلم أن نظريته وثيقة الصلة بالنظريات البنيوية والطبيعية والسوسيولوجية والتاريخية والرومانسية والمثالية والتحليل البنيوي للأسطورة[11]
وتجدر الإشارة، إلى أن من أعلام هذا الاتجاه كذلك، هناك جاستون باشلار وريتشارد تشيس وليزلي فيدلر.
3 – ترجمة نورتروب فراي
ولد فراي بشير بروك كوبيك، في كندا عام 1912 ونشأ وتربى في منكتون بريكزوبيك الجديدة، ونهايات العشرينيات ترك المناطق البحرية الكندية متوجها إلى ترونتو، كي يشترك في مسابقة وطنية للضرب على الآلة الكاتبة وخلال وجوده هناك التحق بكلية فيكتوريا التابعة لجامعة تورنتو، حيث حصل على درجة علمية في الفلسفة والإنجليزية عام 1933. وفي عام 1936 رسم فراي كاهنا في كنيسة كندا المتحدة، لكنه حصل فيما بعد على منحة دراسية إلى جامعة أكسفورد، وفي سنة 1940 حصل على لقب علمي في الإنجليزية من كلية ميرتون إكسفورد تحث إشراف إدموند بلندون. ومنذ ذلك التاريخ وهو يعمل أستاذا بجامعة تورنتو إلى أن توفي سنة 1991. ومن أعماله نذكر[12]
ü التناسق المخيف، دراسة عن وليام بليك طبع سنة 1947.
ü تشريح النقد 1957.
ü خرافات الهوية، دراسة في الميتولوجيا الشعرية 1963.
ü الخيال المدرب 1963.
ü القرن الحديث 1967.
ü البنية العنيدة ، مقالة في النقد والمجتمع 1970.
ü الخلق والتجديد.
ü السنة العظيمة: الكتاب المقدس والأدب 1982.
ü الماهية والخرافة.
ü في النقد والأدب والأسطورة، ترجمة إبراهيم شيحة 1989.
تجليات النقد الأسطوري عند نور تروب فراي
المقالة الثالثة: النقد البدئي: نظرية الأساطير
تضم هذه المقالة مقدمة وأربعة محاور أساسية، بالنسبة المقدمة، نجد فراي ينطلق من المبادئ البنيوية لفن الرسم، ويرتب عليها بعد ذلك المبادئ البنيوية للأدب، حيث ينبغي على حد تعبيره «أن نستمدها من النقد البدئي والشمولي فهما النوعان الوحيدان الذين يستوعبان سياقا أوسع من الأدب ككل (…) لأنه هو النمط الأكثر تجديدا أو تقليدية من كل الأنماط الأدبية الأخرى تماما مثلما أن الأنماط المطابقة في الفنون الأخرى – كالرسم الديني البيزنطي على سبيل المثال- تظهر أعلى درجة من التأسلب في بنيتها ، ومن تم فإن المبادئ البنيوية للأدب وثيقة الصلة بالأساطير والديانة المقارنة مثلما الرسم وثيق الصلة بالهندسة»[13].
وللإشارة فإن فراي ركز في هذا المقال على استخدام رموز التوراة وإلى مدى أقل للأساطير الكلاسيكية على أنها قواعد للنماذج الأدبية البدئية.
وبناء على ذلك، سيشرع في دراسته للنماذج البدئية، بعالم الأسطورة، وهو عالم تجريدي أدبي محض، مؤِلف من خطاطة تخييلية وموضوعية غير متأثرة بشرائع التكيف القابل التصديق مع التجربة المألوفة. وتكون الأسطورة محاكاة لأفعال قريبة من الرغبة أو على تخوم يمكن تصورها من الرغبة؛ فالآلهة تتمتع بالنساء الجميلات، ويقاتل أحدها الآخر بقوة ضارية وتهدئ من روع الإنسان، وتعينه أو ترقب تعاسته من عياء حريتها الخالدة. وحقيقة أن الأسطورة تشتغل على أعلى مستويات الرغبة البشرية، لا يعني ضرورة أنها تقدم عالمها وكأنه عالم يملكه الإنسان أو بإمكانه أن يحصل عليه، ففي حدود المعنى: الأسطورة هي العالم ذاته، منظورا إليه على أنه حقل أو منطقة للفعالية، واضعين في الذهن مبدأنا بأن معنى الشعر أو نمطه بنية خالية بتضمينات فكرية فيها، ويكون عالم المخيلة الأسطورية في العادة ممثل بتصور للسماء أو الفردوس في الدين، وهو عالم الكشف والآخرة عالم استعارة شاملة، يتماها فيه كل شيء مع كل شيء آخر بالقوة إن لم يكن بالفعل، وكأنها كلها داخل جسد فردي لا نهائي.
وعلى هذا، فالأسطورة عند فراي إذن، هي «تصميم أدبي يقع في طرف أقصى وفي الطرف الآخر يقع المذهب الطبيعي وفيما بينهما تقوم منطقة الرومانس، ولهذا يتضح أن الأسطورة تنزاح نحو الاتجاه الإنساني وأيضا تتعارض مع الواقعية بغية إخضاع المضمون للعرف في اتجاه متأمثل»[14].
المبدأ المركزي للانزياح هو أن ما يمكن مماهاته مجازيا في الأسطورة لا يمكن ربطه في الرومانس إلا بصيغة من التشبيه والمماثلة والتداعي ذو مغزى وتخيلات عرضية مرافقة، وما أشبه في أسطورة قد يكون لدينا شخص مرتبط بالشمس أو بالشجرة على نحو ذي مغزى، في الأنماط الأكثر واقعية يغدو الترابط أقل مغزى وأكثر عرضية، بل يغدو مسألة تخيلات تتوافق بالصدفة.
وتوضيح ذلك، حيث يضرب لنا فراي عدة أمثلة، من بينها خرافة قتل الدراغون (التنين)، المتعلقة بالقديس جورج وأسرة برييوس، حيث نجد بلدا تحث حكم ملك عجوز ضعيف، يروعه تنين يطلب في نهاية الأمر بنت الملك، لكن البطل يذبح التنين، وبالنسبة لفراي، فهذه الخرافة تعد مثيل رومانسي(ولعلها سليلة) لأسطورة أرض يباب يعيدها إلى الحياة إله الخصب، ففي الأسطورة إذن يتماهى التنين والملك العجوز، وإذا ركزت الأسطورة أكثر من ذلك في توهم أوديبي، لا يكون فيه البطل أمة، ولو كانت القصة حلما خاصا، لكانت مثل هذه التماهيات أمرا متوقعا ولكن لجعلها قصة مقبولة من الناحية الخلقية وقابلة للتصديق من الناحية المناقضة للحلم، لابد من مقدار كبير من الانزياح.
هذه الوشائج بين الأسطوري والأدبي المجرد، تضيء عدة جوانب من التخييل وبخاصة التخييل الأكثر شعبية، وهو على درجة من الواقعية تجعله قابلا لتصديق في حوادثه ومع ذلك فإنه رومانسي، إلى حد يجعل منه “قصة جيدة”، مما يعني أنه رواية حسنة التصميم، والمثال على ذلك إدخال نذير شؤم أو أعجوبة أو حيلة تجعل قصة وفاء لنبوءة يدلى بها في أول الرواية.
مما سبق، يخلص فراي إلى أن الأدب، لدينا فيه ثلاث تنظيمات للأساطير ورموز النماذج البدئية، الأول هو الأسطورة غير المزاحة، وتعنى بشكل عام بالآلهة والشياطين، وتأخذ شكل عالمين متعارضين يتطابقان تطابق مجازيا شاملا أحدهما مرغوب والآخر غير مرغوب، هذان العالمان يتماهيان في الغالب مع وجود الجنة والنار في الديانات المعاصرة، ويسمي فراي أحد هذين العالمين بالكشفي والآخر بالشيطاني، والتنظيم الثاني في الأدب هو الاتجاه الرومانسي الذي ينحو إلى الإيحاء بأنماط أسطورية متضمنة في عالم وثيق الصلة بالتجربة الإنسانية، أما التنظيم الثالث، فهو “الاتجاه الواقعي”، الذي يشدد على المضمون والتمثيل في القصة، بدلا من التشدد على شكلها.
يبدأ الأدب الساخر بالواقعية، ثم يميل إلى الأسطورة، والقاعدة في أنماطه الأسطورية، أنها توحي بالشيطاني أكثر من الكشفي.
بعد هذه المقدمة، التي بسط من خلالها فراي، الخطوط العريضة لأهم ملامح النقد البدئي: نظرية الأساطير، سيشرع في شرح بنية الخيال لعالمين غير مزاحين كشفي وشيطاني، بالاعتماد على التوراة، باعتباره مصدرا أساسيا للأسطورة غير المزاحة، ليمضي إلى بنية الخيال المتداخلتين، وأخيرا إلى السرد النوعي حيث يطغى الطابع الحركي على بنيتا الخيال.
1- نظرية المعنى البدئي : الخيال الكشفي
يقدم عالم الكشف، حسب فراي، وهو الجنة في الدين، أول ما يقدم مقولة الواقع في أشكال رغبة إنسانية، كما تبينها الأشكال التي تتخذها في ظل شغل المدينة الإنسانية ومن تم يستشف فراي أن عالم الكشف في التوراة يقدم النمط التالي:
العالم الإلهي: مجتمع الآلهة = إله واحد.
العالم الإنساني: مجتمع البشر = إنسان واحد.
العالم الحيواني: قطيع الغنم = حمل واحد.
العالم النباتي: حديقة أو منتزه = شجرة واحدة (شجرة الحياة).
العالم المعدني: مدينة = بناء واحد ، معبد واحد ، حجر واحد.
ويوحد مفهوم “المسيح” كل هذه المقولات في هوية المسيح «هو إله واحد ورجل واحد كلاهما وهو حمل الرب ، شجرة الحياة أو الكرمة التي نحن أغصانها، والحجر الذي أهمله البناءون، والمعبد الذي أعيد بناءه متماهيا مع الجسد الذي عاد إلى الحياة»[15].
وفي نظر فراي فالتماهيات الدينية تفترق عن التماهيات الشعرية في القصد فقط، فالدينية وجودية والشعرية مجازية.
2 – نظرية المعنى البدئي: الخيال الشيطاني.
هذا العالم، أي الشيطاني، يعارض رمزية الكشف حيث يقدم عالما ترفض فيه الرغبة رفضا قاطعا، عالم الكابوس وكبش الفداء، عالم العبودية والألم. العالم كما هو قبل أن تبدأ مخيلة الإنسان بالشغل عليه، وقبل أي تأسيس لتصور رغبة بشرية على نحو المدينة أو الحديقة، وهو عالم العمل الضائع والمنحرف، عالم الأطلال والسراديب ووسائل التعذيب، وعالم الحمق والخسران، كما أن الخيال الكشفي في الشعر وثيق الصلة بالجنة في الدين، كذلك فإن نقيضه الديالكتي وثيق الصلة بجهنم وجودية مثل جهنم دانتي، أو جحيم يخترعه الإنسان على الأرض.
وهكذا فعالم الألوهية، الشيطاني يتجسد إلى حد كبير في قوى الطبيعة المدمرة كما تظهر للمجتمعات المتخلفة تكنولوجيا، والفكرة المركزية المتبلورة في هذا العالم، هي فكرة الجبر الذي لا محيد عنه.
أما العالم الشيطاني للإنسان، فهو مجتمع تتماسك أجزاؤه بنوع من توتر ذوات منفردة، وبالولاء للجماعة أو لقائد يحجم الفرد، أو في أحسن الأحوال، يعارض لذته بواجبه أو شرفه.
أما العالم الحيواني فيصور بحدود الهولات، أو الوحوش المفترسة والشائع منها الذئب، العدو التقليدي للغنم، ثم النمر والنسر والتنين (الوحش الذي سمي في سفر الرؤيا، بالوحش الذي كان ولم يكن ومع ذلك فهو كائن.
أما العلم النباتي، فهو غابة مشؤمة أو أرض خلاء ارتبطت في الأدب، منذ شكسبير إلى هرودي، بمصير مأساوي أو أرض يباب، كالتي نراها عند إليوت في قصيدته the west land، كما قد يكون العالم النباتي عبارة عن حديقة مسحورة مشؤمة. وتظهر الأرض اليباب، في التوراة في صورتها الكونية المحسوسة على شكل شجرة الموت، شجرة المعرفة المحرمة في سفر التكوين، وشجرة التين العقيمة في الإنجيل.
أما العالم غير العضوي، فيبقى على هيئته التي يشتغل عليها الإنسان، من صحاري وصخور وبراري، وتنتمي إلى هذا الصنف خرائب المدن، والليالي الموحشة والأطلال العظمى ذات الكبرياء…
3 – نظرية المعنى البدئي: الخيال التماثلي
لقد ركز فراي هنا، على خيال المحاكاة العليا، وذلك لحفظ أبسط أنماط الاتجاهات الرومانسية والواقعية، ضمن البنيتين غير المنزاحتين، حيث يقدم طراز الرومانس عالما مؤمثلا يكون فيه الأبطال شجعانا والبطلات جميلات، والأنذال حقيرين، أما إحباطات الحياة العادية وإشكالاتها وإجراءاتها، فقل أن تعالج، ويطلق فراي على هذا الاتجاه، اسم مماثلة البراءة ، حيث تكون الشخصيات الالهية أو الروحية في العادة رجالا حكماء، طاعنين في السن، دوي سلوك أبوي وطقات سحرية، أما بين الشخصيات البشرية، فللأطفال دور بارز لذلك كانت أعظم فضائل مماثلة البراءة وثيقة الصلة بالطفولة، وحالة البراءة، وهي العفة؛ وفي وسط الحيوانات تبرز الحيوانات الريفية وفي مقدمتها الغنم والخيل والكلاب الرومانس في أرقى مظاهر الوفاء والإخلاص، وتكون الحديقة الفردوسية وشجرة الحياة أفضل معبر عن خيال هذا الاتجاه، كما أن المدينة تمثل غربة عن هذا العلم الرعوي، وروحه الريفية، والصور الرئيسة للسكن هي، البرج – القلعة – الصومعة.
4 – نظرية السرد والحبكات.
يرى فراي، أن البنية الأساس في الأدب هي الحبكة (الميتة)، والحبكة هي الأسطورة في حالها الأول، أي قبل أن تصل حال الأسطورة المكتملة، والحبكة أيضا معتقد يستدعي طقوسا، والطقوس أيضا ليست عبثية، إن لها معنى دلاليا وهي ذات وظيفة اجتماعية، وعندما تتسع وظيفة الطقوس وتتوطد تظهر الأسطورة، بعد أن يكون قد علق بها شيء من إضافات، وهكذا يكشف فراي العلاقة بين الطبيعة والأسطورة، باعتبار الأولى مرجعية طقسية أساسية، فبما أن الطبيعة تقوم بدورة كاملة خلال العام الشمسي، فنحن أمام أربعة فصول، لكل فصل حبكة وظيفة طقوسية، تجعلنا نحصل خلال السنة على:
1 – حبكة الربيع: الكوميديا (الملهاة).
2 – حبكة الصيف: الرومانس.
3 – حبكة الخريف: المأساة.
4 – حبكة الشتاء: السخرية والهجاء.
هذه الحبكات الأساسية، التي انحدر منها الأدب، حسب فراي، هي التي تمثل الدورة الطبيعية وفق تصور ميتولوجي وكل حبكة من هذه الحبكات تتخذ وجوها متعددة، لكل وجه شخصياته وأبطاله وموضوعه، ومنذ أيام سوفوكليس وقبله بزمن بعيد حتى أيامنا هذه، لم تتغير الحبكات في رأي فراي.
المقالة الرابعة: النقد البلاغي نظرية الأنواع
لقد استهل فراي هذه المقالة، بمقدمة أشار من خلالها إلى ضرورة التمييز بين اتجاهين متمايزين، مما تهتم به البلاغة، منذ بدايتها وهما؛ زخرف القول ( أي البديع) والخطاب الإقناعي. وهذان الأمران، في نظر فراي، من الناحية النفسانية، متعارضان، وذلك لأن الرغبة في التنسيق في جوهرها ليس لها غاية، في حين أن الرغبة في الإقناع هي في جوهرها على العكس، لأن البلاغة الزخرفية تؤثر في سامعيها تأثيرا سكونيا يفضي بهم إلى الإعجاب بجمالها أو بداهتها، أما البلاغة الإقناعية فتحاول أن تقودهم حركيا نحو دورة للفعل.
وقد أشار فراي كذلك في هذه المقدمة إلى أهمية علم نفس الإبداع؛ لأنه من الناذر ما يحدث أن يجلس كاتب ليكتب دون أي تصور لما يعتزم إنتاجه، وإذن ففي عقل الشاعر قوة من نوع ما للتحكم والتنسيق أو ما أسماه كولردج “المبارة”، تؤسس نفسها بصورة مبكرة جدا، وبالتدرج تتمثل كل شيء في ذاتها، وأخيرا تكشف نفسها بأنها الشكل المحتوي للعمل، وهي دون شك مركبة من العوامل تتحكم في اختيار الموضوعة، وكذلك اختيار الصورة، كما سبق أن تحدث عن ذلك فيما تقدم، ثم اختيار النوع والإيقاع وهو الأمر الذي سيطرقه في هذه المقالة.
وهكذا، فبعدما انقد فراي، التقسيم الثلاثي الكلاسيكي للأدب المتوارث منذ اليونان وهو (المسرحية والملحمة والغنائية)، والذي يتم فيه الاعتماد على مسألة الحجم كأساس للتمييز، يقترح عنصرا جديدا للتمييز بين الأنواع الأدبية، وهو “مبدأ التقديم”، لأن الكلمات قد تمثل أمام مشاهد، وقد تلفظ أمام مستمع، وقد تشاهد أو تغنى، وقد تكتب لقارئ. كما أن فراي يركز على أهمية الجمهور في تحديد النوع لأنه يظل مرتبط بالإنشاد بين شاعر منشد وجمهور مستمع وفي المسرحية تواجه الشخصيات المفترضة أو الداخلية في القصة جمهورها مباشرة مع اختفاء المؤلف عن الجمهور، في حين يختفي الجمهور عن الشاعر في القصيدة الغنائية، أما بخصوص علاقة النوع بالإيقاع، باعتباره العنصر المركزي والأساسي في هذه المقالة، فنجد:
1 – إيقاع المعاودة؛ الإنشاد
الإيقاع الناظم في الإنشاد أو الأشكال الشفهية المحددة، هو الوزن، باعتباره مظهر المعاودة، التي هي مبدأ بنيوي لكل فن يقوم على الوزن وتكون الكمية والنبرة عنصرين أساسيين في تحديده.
2 – إيقاع الاستمرار: النثر
بعدما استعرض فراي أراء مختلفة لنقاد مختلفين بخصوص هذه المسألة، يقرر أن من علامات الجرس النثري، الميل إلى جمل طويلة، مؤلف من عبارات قصيرة وأشباه الجمل ملحقة ومتضامة، وإلى تكرار توكيدي مرفق بإيقاع دافع مستقيم، وإلى تقديم بيانات تفصيلية وافية، وإلى التعبير عن عملية التفكير أو حركة الفكر بدلا من الترتيب المنطقي للكلمات في أفكار منجزة.
3– إيقاع التداعي: القصيدة الغنائية.
يؤكد فراي على «أن الشاعر يطور مهارة لا واعية تمنحه عادة التفكير ضمن الوزن، وبالتالي يغدو حرا للقيام بأمور أخرى، كسرد قصص أو شرح أفكار أو إدخال التعديلات التي تقتضيها اللياقة، وأية واحدة من الأشياء المذكورة لا ترقى إلى مرتبة ما نتصور أنه إبداع شعري في شكله النموذجي لأن الإبداع عملية بلاغية تقوم على التداعي تجري معظمها تحت عتبة الوعي مركب ن الأصول المتجانسة والروابط الصوتية والروابط الحسية الغامضة وتداعي الذكريات بما يشبه كثيرا ما يحدث في الحلم ينبجس من هذه الضوضاء صوت ومعنى موحدان بوحدة غنائية متميزة، وكما في الحلم، يخضع التداعي اللفظي لرقيب يمكن أن نسميه “مبدأ المصداقية” أي ضرورة أن يصاغ هذا التداعي في شكل يتقبله الوعي اليقظ عند الشاعر وقراءه وأن يكيف نفسه بحسب المعاني الإشارة للغة التقريرية تكيفا يصبح معه قابلا للتوصيل إلى ذلك الوعي غير أن إيقاع التداعي يبدوا أنه يحتفظ بصلة مع الحلم تطابق صلة المسرحية مع الشجرة»[16] وإيقاع التداعي كذلك شأن بقية التداعيات الأخرى يمكن أن نجده في كل كتابة أخرى.
4 – إيقاع اللياقة: المسرحية
فبعدما حدد فراي المقصود بمفهوم اللياقة، باعتبارها، بشكل عام، هي صوت الشاعر “الأخلاقي”؛ أي تعديل صوت الشاعر حسب صوت الشخصية أو النغمة الصوتية التي يتطلبها الموضوع أو المزاج، والمسرحية باعتبارها محاكاة للحوار، فإن الإيقاع المميز لها هو اللياقة، حيث لا يظهر الشاعر بشخصه.
5 – أشكال نوعية من المسرحية
ينتقد فراي التصنيف التقليدي لأنواع المسرحية إلى مآس وملاه، لكونه يقوم كليا على المسرح اللفظي، ولا يعيرا اهتماما لنماذج مسرحية أخرى مثل الأبرا ومسرحية البواعث التي تحتل فيها الموسيقى والمشهد مكانة أكثر عضوية.
وبعد ذلك يلفت انتباهنا إلى تمثيلية الكتاب المقدس، باعتبارها شكل من النوع المسرحي المشهدي، والتي يسميها “التمثيلية الأسطورة”، وهي في نظره ذات شكل سلبي وتتلبس مزاج الأسطورة التي تمثلها.
6 – أشكال نوعية موضوعية (المغناة والإنشاد)
سعى فراي هنا إلى تقديم عرض للموضوعات التقليدية الرئيسية في المغناة والإنشاد، كما سعى إلى إظهار كيف تتحكم النماذج البدئية التقليدية في أنواع تقليدية، فركز على الشعر الديني مع إبرازه لما يميز أسلوبه وإيقاعه وعلاقته بالشكل الإنشادي السردي وبأنماط شعرية أخرى، كالمديح والمراثي، وعن علاقة الإنشاد بأشكال شعرية، كالشكوى وقصيدة المنفى والاحتجاج على القسوة.
7– أشكال نوعية متصلة : النثر التخييلي
راح فراي يبرهن على أن الرواية شكل من أشكال التخييل، لا على أنها تخييل كما ذهب إلى ذلك البعض، وذلك بمقارنتها بالرومانس باعتبارها شكلا نثريا تخيليا، وبالسيرة الذاتية.
8 – بلاغة النثر غير الأدبي
إن بلاغة النثر غير الأدبي، تتجه إلى التشديد على الانتقال والدعوة إلى الفعل عبر الأذن، في المجال الاجتماعي، وعلى الذكاء والدعوة إلى التأمل القائمين بشكل رئيسي على الاستعارات البصرية في المجال الثاني، وأكثر أمثلة النوع الأول حسب فراي يمكن أن نستمدها من الخطبة.
تركيب
وهكذا فإن النظرية الأسطورية في النقد، التي تمتد جذورها المعاصرة إلى كارل يونغ، ومرجعية اللاشعور الجمعي، واشتهر بها في النقد الحديث، الناقد الكندي نور تروب فراي، ولاسيما في كتابه (تشريح النقد)، الذي قدمنا عن مقالتيه الثالثة والرابعة هذا الموجز، ولعل هذه الوقفة مع هذا النوع من النقد، تعطي لمحة بسيطة عن نظرية الأسطورة في النقد الأدبي، التي يكثر فراي من إثرائها بالنماذج والتطبيقات.
[4] - رنيه ويليك و أوستين وارين، نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، مراجعة حسام الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981، ص 197
[8] - عبد العزيز جسوس، إشكالية الخطاب العلمي في النقد الأدبي العربي المعاصر، المطبعة والوراقة الوطنية، ط1، مراكش، 2007، ص 52.
[9]- نبيل راغب، موسوعة النظريات الأدبية،مكتبة لبنان ناشرون، الشرقة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، ط1، 2003.ص 95
1. عبد العزيز جسوس، إشكالية الخطاب العلمي في النقد الأدبي العربي المعاصر، المطبعة والوراقة الوطنية، ط1، مراكش، 2007.
2. خليل أحمد خليل، معجم المصطلحات الأسطورية، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1996.
3. نبيل راغب، موسوعة النظريات الأدبية،مكتبة لبنان ناشرون، الشرقة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، ط1، 2003.
4 أحمد الشايب، أصول النقد الأدبي، مكتبة النهضة المصرية، ط6، 1960.
5 محي الدين صبحي، النقد الأدبي بين الأسطورة والعلم، الدار العربية للكتاب، 1996.
6. نور الدين عثر، معجم المصطلحات الحديثة.
7. نورتروب فراي ، تشريح النقد، ترجمة وتقديم محي الدين صبحي،الدار العربية للكتاب 1991.
8. النقد والمجتمع حوار مع مجموعة من المؤلفين، ترجمة وتحرير، فوزي صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، د ت.
9 محمد مندور ، في الأدب والنقد، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الفضالة، القاهرة. د ت .
10 د صبري مسلم، الأسطورة في دراسة الفن، مجلة الأقلام العراقية، 11 – 12 – 1992.
11 رنيه ويليك و أوستين وارين، نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، مراجعة حسام الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981.
*عبد الحكيم المرابط ( باحث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش )
.