مدخل: في الحقيقة كلّمتُه لأدعوه إلى حوار في برنامج “المشهد الأدبي” للإذاعة الثقافية بمناسبة صدور روايته الثانية “مرايا الخوف” عن منشورات الشهاب، وحين التقينا وجدنا الأستوديو محجوزا للشاعرة نصيرة محمدي من أجل حوار مع الروائي إبراهيم سعدي، وبما أنني لم أكن مبرمجا في فترة التسجيل تلك، اضطررنا للانتظار، فاقترحت عليه حوارا ورقَيا ريثما يَخْلُ لنا الأستوديو فكان ما ستقرؤون:
ـ نشأتَ في وسط عائلي مفرنس، وكان محيطك الثقافي في البداية كذلك، لكنك اخترت العربية عندما انخرطت في الكتابة، ولا زلت.
كتاباتي الأولى كانت بالفرنسية إلى غاية الثانوية، هناك تحولات تحصل في حياتنا بسبب أمور بسيطة جدا، فقد اكتشف أستاذي الفلسطينى ضعفي الشديد في اللغة العربية، فأعطاني رواية الفضيلة للمنفلوطي وطلب مني تقديم تلخيص لها بعد العطلة، صدّقني لما قرأت هذه الرواية اكتشفت سحر العربية، مرتبطا بسحر المكان الذي وقعت فيه… جزر السيشل
ـ بل جزيرة موريس
نعم جزيرة موريس… لكن لا بد من الإشارة إلى بقاء تأثيرات الفرنسية خاصة أنني كنت مكثرا من قراءة الرواية البوليسية بها، لقد كنت أتسابق في ذلك مع كثير من الأصدقاء أما في الجامعة/ قسم العلوم السياسية، فقد كنا ندرس أكثر بالعربي والإنجليزي، واكتشفت بعد دخولي إلى عالم الصحافة سنة: 1990 أن الفضاء الإعلامي المفرنس لا يهتم كثيرا بالثقافي، فانسحبت وذهبت إلى جريدة معربة، وفتحت نقاشات في الحداثة، رغم أن الوسط المعرب في غالبيته كان إسلاميا يومها
ـ كيف استقبل وسطك المفرنس هذا التحول؟
العائلة كانت تقدّس أمرين: الثورة واللغة الفرنسية، وكان والدي حنينيا، لذلك فقد كان حساسا جدا لأمور التاريخ
ـ هل هذا ما جعلك تنخرط بالموازاة مع الكتابة الأدبية في الاهتمام بالبحث في تاريخ الثورة؟
دعني أوضح نقطة مهمة: أنا لما أكتب الرواية أهتم بالذاكرة، وحين أبحث في التاريخ، أعتمد على الوثيقة، فالتاريخ علم، بينما العمل الروائي مجرد تذكرات/ إعادة استثمار للمرويات البطولية، فقد سمعت الكثير منها وأنا صغير فكتبت عن الثورة من زاوية الذاكرة
ـ ما رأيك فيما ذهب إليه أحد الكتاب الشباب من أنه لم يعش الثورة وبالتالي فهو ليس ملزما أو مؤهلا للكتابة عنها؟
أنا من مواليد 1967 وبالتالي لم أعايش الثورة كأحداث، لكنني عشتها كأحاديث، ففي السبعينيات، أينما ولّيت وجهك تجد الناس يتحدثون عن الثورة، ويروون بطولاتها، فمثلا أذكر أنني تعرفت وأنا في الخامسة عشر من عمري على ما وقع في أكفادو في إطار ما أصبح يسمى بلا بلويت: اغتيال المثقفين من طرف العقيد عميروش في الولاية الثالثة ما بين عامي 56 و57 عبر ما كان يحكيه حلاق كنت أحلق عنده، وبالتالي ظلت مثل هذه الحوادث راسخة في ذهني… ثم لا أنسى حكايات جدتي المتعلقة بعائلتي التي نزحت من أعالي الصومام إلى أزفّون ثم إلى العاصمة، إذن هذا الارتباط بذاكرة العائلة هو الذي جعلني أهتم بالتاريخ.
ـ هل تعتقد ككاتب من الجيل الجديد أن تاريخ الثورة استثمر إبداعيا كما يجب؟
لست أدري إن كنت توافقني على حقيقة صارخة، وهي أن غالبية الجيل الجديد منفصلة عن الذاكرة، وهذا نتاج المدرسة الجزائرية التي أوجدت جيوشا من الناس لا يعرفون تاريخهم ولا يلتفتون إلى رموزهم وإلى اللحظات المؤسسة للدولة الجزائرية
ـ رغم أن الشرعية التاريخية ظلت ولا زالت هي الخلفية المحركة للدولة الوطنية.
الشرعية التاريخية كما طُبقت أو فُهِمت عندنا روّجت لنظرة رسمية للتاريخ، والمشكل أن الجيل الجديد يرفض إلى حدِّ التهكم هذه النظرة دون أن يجتهد في اكتساب نظرة مغايرة، فأصبح جيلا لقيطا على مستوى الذاكرة، يقرأ إدوارد سعيد ولا يعرف شيئا عن مصطفى الأشرف، يقدس بيروت والقاهرة ودمشق ويمقت المدن الجزائرية التي شكلت وعيه رغم اختلالاتها، وهذا النكران للذات أدّى إلى تشتت ذاكراتي
ـ ماذا تعني بالنظرة المغايرة للتاريخ التي على الجيل الجديد أن يكتسبها؟
شوف يا عبد الرزاق، أعتقد بصراحة لا انبطاح فيها أن خطاب الرئيس بوتفليقة الذي ألقاه في قسنطينة شهورا فقط بعد انتخابه في عهدته الأولى، حرّرني كثيرا من عقدة التاريخ وجعلني أذهب بعيدا في تقديم قراءة مغايرة للتاريخ تقوم على النقد لا على التقديس فأنا ممن يؤمنون بالثورة، لكن من حقي أن أنتقد نقائصها وسلبيات بعض رجالاتها.
ـ لكن التاريخ الوطني ليس هو الثورة فقط، فواسيني مثلا كتب عن الأمير عبد القادر/ اللحظة المؤسسة الأولى في تاريخنا المعاصر.
أنا روائي، وقد سبق لي أن قلت لك إنني أكتب التاريخ من منطلق الذاكرة القريبة مني، لا أكتب إلا ما سمعته من مرويات من أناس قربين مني، وبالتالي أنا أمجّد ذكرى بشر لا يلتفت إليهم التاريخ العام: أمي أبي جدتي جدي جيراني
ـ هل أستطيع أن أفهم أن هوسك بمنطلق الذاكرة هذا هو الذي جعلك تشتغل على لحظة العنف التي عاشتها الجزائر؟
حينما تكتب عن لحظة العنف، فأنت تحاول أن تتجاوزها/ تتخلص منها، لأنك ترفضها أصلا كهاجس يكمن فيك، وأنا من الذين يعتقدون أن الكتابة تداوي الجراح وتخلّص النفس البشرية من الخوف ومختلف المكبوتات.
ـ لكن ألا تلاحظ أن الذاكرة هنا تختلف عنها فيما يتعلّق بالثورة من حيث الزمن على الأقل؟
طبعا… فأنا أكتب عن العنف الذي حصل أمام عيني من منطلق الاستبعاد، و أكتب عن الثورة التي لم أعشها من منطلق الاستحضار.
ـ إلى أيِّ حدٍّ يتوفر الحياد فيما تستبعد وفيما تستحضر؟
لا مجال للحديث عن الحياد في الكتابة
ـ لماذا؟
لأنني وأنا أكتب أكون ذاتيا جدّا، أنظر إلى المجتمع من خلال ما عشته أنا شخصيا، كما يقول غوستاف فلوبير: مدام بوفاري هي أنا، أو كما قال نجيب محفوظ: إن كمال عبد الجواد هو نجيب محفوظ، أليس من حق زينو بطل روايتي “مرايا الخوف” أن تكون فيه أشياء من حميد عبد القادر؟
ـ لم أفهم… مرّةً تقول إن الرواية هي كتابة الذاكرة، ذات الأبعاد العامة، ومرّةً تقول إنه من حقك أن تكون ذاتيا في الكتابة.
لا تناقض في رؤيتي، فالذاكرة هي ذاتية المجتمع، ولحظاته الحميمة وإخفاقاته، بؤسه وشقاؤه كما هي لحظات مجده، الذاكرة هي كل هذا، وأنا جزء من هذه الذاكرة.
ـ كنت سببا في تفجير النقاش الذي دار حول الكتابة الروائية الشبابية التسعينية، والتي تناولت لحظة العنف، حيث دافعت عنها باستماتة، فيما وصفها آخرون ومنهم الطاهر وطار بالأدب الاستعجالي.
خلافي مع وطار خلاف إيديولوجي، وأنا لا أنكر كونه روائيا كبيرا يحسن الصنعة الروائية
ـ كيف؟
هو جعل من الإسلاميين أبطالا، وأنا أرفض ذلك
ـ لكنه لم يكن كذلك قبل “الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي”، بمعنى أنه كان من نفس عائلتك الإيديولوجية
لقد تغيّر كثيرا، بحيث أصبح يرى أن تمجيد البطل الإسلامي من بين مهام الكتابة المنسجمة مع معطيات المجتمع
ـ هذه رؤية على كل حال
أنا أرى غير ذلك تماما، لكني ألتقي معه في فكرة ضرورة المصالحة بين مختلف أطياف المجتمع الجزائري، وروايتي مرايا الخوف، تنتهي بهذه المصالحة لكن ليس على حساب طرف دون الآخر
ـ لكنك فعلت العكس في روايتك الأولى “الانزلاق” التي صدرت في 1998
لقد كتبتها في غمرة الأحداث، وأردتها أن تؤدي مهمة نضالية كان على المثقف أن يؤديَها يومها، في حين أن مرايا الخوف كُتِبت خارج ذلك السياق
ـ ألا ترى بهذا أنك كنت استعجاليا فعلا وأن وطار كان محقا حين سمّاك كبير الاستعجاليين؟
أعتقد أن وطار يملك نظرة عميقة وصائبة وجمالية للرواية، وله الحق في أن يسمي ما كتبناه أدبا استعجاليا، فهو الروائي الأول ومن حقّه أن يقول ما يريد.
ـ ترفض الشرعية التاريخية في السياسة، وتقبلها في الأدب؟
هو يقول ما يريد، وأنا أكتب ما أريد، ويبقى القارئ هو الفاصل بيننا، ودعني أشير هنا إلى أن روايات وطار راجت لأن النقد سايرها، فواسيني مثلا كتب عنه كتابا كاملا، بينما جيلنا بقي محروما من النقد
ـ ولماذا لم يوجِد جيلكم نقادَه، مثلما أوجدوا هم نقادهم؟
هذا راجع إلى الأزمات الثقافية المختلفة التي تعيشها الجزائر، فالجيل الجديد مصاب كما قلت لك سابقا بمرض فقدان الذاكرة، وغير مرتبط بالعلامات المحلية، إنه مصاب بغرور المعرفة، إنه يقرأ هابرماس، ودريدا وبارت، لكنه لا يوظف هذه القراءات لتحليل النص الأدبي الجزائري الجديد
ـ كأنك من بين من تقصد بشير مفتي
لا… أنا أتحدث عن النقاد والباحثين
ـ مثلا
هم جيدون على كل حال، ولهم قراءات ثرية، مثل وحيد بن بوعزيز، وعبد القادر بودومة، لكنني أسألهم عن وظيفية ما يكتبون
ـ في المقابل ألا ترى أن بعض الروائيين من الجيل الجديد بقدر ما يكتبون بعمق، بقدر ما هم زاهدون في تقديم أنفسهم؟
لأنهم متعالون عن واقعهم، الشيء الذي أوقعهم في حالة انفصام عن الحقل الثقافي بصفة عامة، وبالتالي في حالة من العزلة التي قد تذهب بمشاريعهم الإبداعية، وأذكر هنا على سبيل المثال ياسمينة صالح، التي تكتب رواية جيدة لكنها غائبة عن المشهد.
ـ تتحدث عن الجيل الجديد وكأنك لست منه.
أعتبر نفسي مخضرما، أميل إلى الجيل السابق من حيث الارتباط بالواقعية كما كتبها وطار وبن هدوقة وبقطاش، وأميل إلى الجيل الجديد من حيث تناول بعض الجوانب الذاتية… أنا أقف في الوسط
ـ يبدوا أنك أصبحت مسالما ولم تعد تريد إطلاق النار على أحد كما هو معروف عنك
كما تعلم فقد ترأست القسم الثقافي لجريدة الخبر من ماي 92 إلى غاية جوان 2006، وخلال هذه المرحلة اتهمت بكثير من التهم، منها كوني فرونكوفونيا مدسوسا في الوسط المعرب، ومنها كوني إقصائيا، ومنها كوني من أتباع حزب فرنسا وأن والدي كان من الحركى، وكل هذه التهم قابلتها بصبر وأناة، وحين تتاح لي الفرصة سأرد عليها
ـ ألا ترى هذا الحوار فرصة للرد؟
والدي [ يتنهد بعمق ويضغط على نقاله] كاد يصفى من طرف منظمة الجيش الفرنسي السرية الإرهابية، أما الإقصاء فأنا كنت أنفذ تعليمات رئيس التحرير.
ـ هناك تهمة أخرى هي كونك كاتبا “بربريست”
نعم أنا كاتب بربري، وليس بربريست، أي أنني لست من أتباع الأكاديمية البربرية في باريس، ولا أساوي شيئا بدون البعد الأمازيغي للجزائر.
ـ آخر كتاب أدبي جزائري، قرأته ولم يعجبك؟
رفض أن يجيب في البداية مبديا امتعاضا من السؤال، وفجأة التفت إليَّ قائلا: كثير من الكتابات بالفرنسية رديئة
ـ مثلا؟
عبد الرحمن زقاد في مجموعته القصصية: الريح في المتحف.
مخرج: انتهى حوار نصيرة محمدي مع ابراهيم سعدي، في الحقيقة كنت وأنا أحاور حميد في البهو، أسمع بعض أسئلتها وأسمع بعض إجاباته، التقينا فتعانقنا وتبادلنا المجاملات، لأدخل مع حميد إلى الأستوديو حيث دشنا حوارا آخر، كان حوارا مختلفا عن هذا الذي قرأتم، أليس الحوار مجرد أسئلة وأجوبة محتملة؟.
الجزائر العاصمة: 2008
*عبدالرزّاق بوكبة / شاعر وروائي
أشهد بشجاعة الرجل في التسعينيات ، كان يقول بشجاعة تبلغ حد التهور الأشياء الصعبة..
حارب التطرف بجميع أشكاله ، في زمن الفرار ، التكتم ، أو تغيير مناطق الخوف – وطار نموذجا -
كنت في البدء أعتقد أن حميد عبد القادر اسما مستعارا لكني اكتشفت أنه اسمه الحقيقي..
الوحيد – فيما اعتقد – الذي كان يكتب باسمه الحقيقي بكتابات تفضح حقيقة الاسلاميين .
عرفت حميد خلال سنة 1994 كنت حينها على مدرجات الجامعة، بعد ان توقفت جريدة السلام عن الصدور ،و كنت انشر في ملحقها الأدبي ما تيسر من مقالات و ترجمات… إستقبلني حميد بدون سابق معرفة و لا مقدمات و فتح لي الصفحة التي كان يشرف عليها رفقة فريد معطاوي و عزيز ملوك و كان له الفضل في تشجيعي و حثي على الكتابة و المطالعة بصدر رحب و أخلاق عالية – اغتنم هذا الحوار لأشكر الصديق عبد الرزاق الذي اتاح لي فرصة تقديم هذه الشهادة في حق صديق عزيز لم التقي به منذ سنوات.
شكرا عبد الرزاق على هذا الحوار الراقي الذي جعلنا نقترب من صوت اعلامي وأدبي طالما كان حضوره طاغيا في مرحلة سكت فيها الكثير. محبتنا أيها الراقي عبد القادر حميد
عرفت الروائي في التسعينات انسان خلوق و حساس يمر كالطيف قرأت اول قصصه القصيرة التي كان يكتبها في صفحة الخبر و تاثرت بها و قرات القليل من رواية مرايا الخوف للاسف الكتاب ليس بحوزتي لم اجده شكرا حميد