الطريق الى مسارب
الطريق الى مسارب
- المواد المرسلة الى النشر يجب أن تكون جديدة وغير منشورة سابقا.
- يرسل النص منجزا على برنامج word – doc الى العنوان الخاص بمسارب Info.massareb@gmail.com
- يرفق النص المرسل الى النشر بصورة شخصية لصاحب العمل .
- مسارب غير معنية بنشر المقالات والمواد الإبداعية التى تحاول المساس بأشخاص معينين أو تشير اليهم ضمنيا أو إيحاءً أو بصفة مباشرة .
- في حال إرفاق المادة المرسلة للنشر بصورة فنية أو فوتوغرافية يتحمل صاحب المادة مسؤولية الحصول على حق نشرها .
- المواد المنشورة بمسارب لاتعبر بالضرورة عن رأي المجلة ولاعن آراء مؤسسيها .
- لا يتم نشر المقالات والنقاشات الوهمية التى تعنى بالأطر القانونية لتنظيمات سياسية أو مدنية المرتبطة بجهات سياسية أو بدونها .
- تعتذر مسارب عن نشر أو ترويج للمقالات والمواد التى تحاول النيل من الثوابت الوطنية ومقومات الشخصية العربية ومقدساتها .
- ترحب مسارب بكل الآراء والإقتراحات البناءة والملفات والمحاور الأكثر إرتباطا بتحديث مدارات الثقافة العربية المعاصرة في إطار مقتضى الإختلاف والتمايز.
في البداية اريد ان ابارك لكم هذا المولود الثقافي الجديد والذي فعلا سيكون بادرة طيبة نتمنى لها ان تنال ما هو مرجو منها من الفعالية والتغيير البناء والهادف .ولتكونو على ثقة ان اختياركم للنشر الالكتروني لهو خيار موفق لما له من قدرة على التوغل في كل بيئة ماله من قدرة على التنوع والكم الهائل ما يجعل مجلة مسارب اقرب الى المهتمين بالثقافة وفنونها وادابها وخيارا جيدا يمكن تناوله في كل حين ولربما في كل مكان بعد ان حلت هاته المشكلة التكنولوجيا.فطوبى لكم ولنا خاصة لما سيناله العامة والخاصة من حضوة من خلالكم .كما لا انسى ان تنوع اسرة التحرير من تنوع مشاربهم واختصاصاتهم سيضفي على المجلة طابعا خاصا لم ار له مثيلا الا في تجربتي مجلة الواح التي افتقدناها منذ سنين.
موفقون باذن الله
ارفع اليكم ارق التحايا واسمى عبارات التقدير وللقائمين على هذه المجلة القيمة وارجو ان تكون منبرا للنشر الهادف وفضاءا للبوح الابداعي والادبي خاصة واتمنى لكم التوفيق والسداد. ممكن ايمايل المجلة لمراسلتكم والتواصل معكم
السلام عليكم ورحمتالله وبركاته …انا عمر من الجزائر عاشق الفن ..انا ارسم بالكمبيوتر واحب الفن التشكيلي ادا امكن ممكن مساعدة لكي اطور فكرتي في الرسم التشكيلي
مجلة مميزة في مواضيعها وما تتناوله احببت المستوى واشكر طاقم التحرير وأـمنى ان اساهم معهم في اثراء المجلة ….انحناءة احترام للجميع
مولود فرتوني من ولاية تامنغست
جريدة ممتعة وشيقة تستحق القراءة ونتمني لها الأزدهار والتألق والنجاح .
الهجرة المعرفية والإرتكاز الإنساني للنص
عند محمد أركون
عبد الحفيظ بن جلولي.
لا شك وأن محمد أركون يشكل ظاهرة جدلية وذلك نظرا لطروحاته الجريئة، لكن هذا لا يجب أن يكون سببا في إقصائه، لأنه أوجد لنفسه إسما علميا ومعرفيا في الدوائر العلمية العربية والأوروبية وحتى الامريكية، نختلف معه كثيرا ونتفق قليلا، لكن تبقى الأفكار هي المعبر الذي نتداول به الإقتراب والنقد والتحليل لعوالمه الفكرية ولغيره.
الهجرة المعرفية هي هجرة المتلقي في عوالم محمد أركون الفكرية وهجرته هو في عوالم الفكر الإنسانية، وهجرته الواقعية التي انتقلت به إلى فرنسا وإلى باريس على الخصوص وإلى السوربون على الأخص، وتتعالق الهجرة المعرفية بالسيرة الذاتية لذلك سوف أتناولها في كثير من جوانبها رابطا أياها بحركة أركون الذاتية، لأننا كثيرا ما نهمل السيرة الذاتية مركزين فقط على عالم الأفكار الذي هو وليد سيرة الكاتب أو حركته في الوجود، وهي كالماء، فعلى حواف النهر تنبت أعشاب صغيرة وفي عمقه تلمع أحجار ويساوق تدفقه خرير باهر لكننا لا ننتبه إلى هذه التفاصيل الدالة التي يكمن فيها المعنى.
المقدمة المعرفية:
يصاحب العملية المعرفية انطراح العديد من الأسئلة، وفي مستوى من مستويات هذا الإنطراح ترتبط الأسئلة بالهوية أو جهاز الخصوصية الذاتية، وهو ما يجعل سؤال الإختلاف حاضرا وممكنا، فالهدف من الهجرة المعرفية هو البحث عن موطئ قدم داخل الزّحام الإسئالي من منطلق الخصوصية، لبعث مخزون الذات الفلسفي والفكري، والمعرفة لا تتحرّك إلا وفق الرّاهن الإنساني الذي يشتغل عند عتبات العقل والأنا الباحثة عن هوية مشتركة. عند هذا المفصل ينبثق بحدة سؤال أصالية النص، أو النص المؤسّس الذي ينطلق من مرجعيات ترفض التعامل مع أدوات التفكيك وأركيولوجيا الأنسنة، لأنّه نافر بطبيعته صوب المقدس والغيبي، ولا يعلن عن كونيته سوى ضمن المستويات التي تقبل بمرجعيته القبلية ومصدره الغيبي، وعند هذا المنعرج الفكري الحاسم تفتقت الطروحات الفكرية لمحمد أركون والمرتبطة بالأنسنة، المصطلح الذي نحته لمعنى humaisme، وتفريقا له عن مفهوم النزعة الإنسانية، ويريد بالأنسنة ذلك الجذر المعرفي الذي أخذ منه الغربيون وعلماء الإسلام، ويمثل نفس المصدر كما أسّسته فلسفات سقراط وأفلاطون وأرسطو، أو ما تدعوه الفلسفة الغربية باللغوس.
السيرة الذاتية:
ولد محمد أركون سنة 1928 بقرية توريرت ميمون بدوار بني يني بمنطقة القبائل في الجزائر، وهي نفس القرية التي ولد وترعرع فيها الكاتب الجزائري مولود معمري، وكان منزله يقع أسفل القرية ويكشف ذلك عن هرمية ترتبط بالتاريخ ومكانة العائلة كما يقول مصطفى كيحل في كتابه الأنسنة والتأويل في فكر أركون، في السّنة السابعة بدأ يتعلم الفرنسية وهو ما مثل الصدمة الأولى له، ثم انتقلت العائلة إلى وهران بالغرب الجزائري أين التحق بالثانوية وكان عليه أن يتعلم اللغة العربية كما يقول لمعرفة المجتمع الناطق بالعربية وليس البربرية والمجتمع الفرنسي المستعمر، ويقول عن هذه المرحلة أنها كانت تمثل “المثاقفة المزدوجة والمواجهة الثقافية”، ثم انتقل إلى العاصمة ليلتحق بالجامعة في قسم اللغة والأدب العربي، وكانوا حوالي ستة أو سبعة طلاب غير مهتم بهم، وتخرّج من نفس القسم سنة 1952.
ويبدو أنه لم يكن راضيا عن أداء أساتذته في الجامعة، “كانوا في درجة الصفر، لم تكن هناك أية ابنية ثقافية، كانت الصحراء….. هنري بيريز كان مربيا ممتازا، كان معلما قصير القامة ولا يشعر بأي قلق فكري ولا بأية مشكلة أو نظرة فكرية إلى وضعنا”. كان محمد أركون في بدايته المعرفية يهيّئ فضاءه العقلي كي تستقرّ به آليات البحث وتنطلق منه مدارات الإنتاج الرّؤيوي، فعندما يحدّد واقع أساتذته بالدّرجة صفر، فمعنى ذلك أنّه كان يطمح إلى تفعيل مدراجه في ما فوق الصّفر، ومن ثمّ تتحدد معالم الهجرة على مستوى الذّات كفعالية منطقية مقابلة مع ما كان سائدا في الوسط المعرفي، والذي عبّر عنه بالصّحراء، والتي تعتبر طاردة نظرا لقحالة الطبيعة وخلوها من المعطيات الإشارية على الحياة بالمفهوم الخالق للحركة، وليس بالمفهوم العدمي لها، لأنّ التّعمير في الصّحراء يمكن أن يحدثه الفاعل البشري المتمكّن من أدوات التّغيير، فمفهوم الصّحراء الجغرافي يربطه أركون بمفهوم ثقافي _ انثربولوجي يتعلق بغياب الأبنية الثّقافية، وبالتّالي يصبح مفهوم الهجرة المعرفية مرتبطا موضوعيا بالحركة، حيث الغياب يتطلب البحث عن الغائب، وغائب محمد أركون هو الأبنية الثّقافية التي ولّدت فضاء متصحّرا، يدفع إلى الانتقال إلى فضاءات أكثر خصوبة لإنتاج عناصر الفعل التّغييري.
إنّ الفقرة الواصفة السّابقة التي أوردها رون هاليبر، تكشف عن إنسانية المنحى المعرفي في فكر أركون والمتعلق بالبحث عن نص إنساني يتكشّف عن مناطق العجز كما يكشف عن مستويات للتّفكيك والقدرة على الإنجاز، غير محدّد بجهة أو بجغرافيا معيّنة، حيث لإسم الأستاذ الوارد في الفقرة “هنري بيريس” دلالته المنطقية في هدم البنية الهيغلية في تدشين لحظة التّاريخ الفاعلة، حيث حسب هيغل، “ليس الأمر أنّ الأوروبيين حملوا مشعل القدر التّاريخي فحسب، بل إن شعوبا مثل الأقوام الأصلية في أمريكا وأفريقيا هي شعوب افتقرت تماما إلى التّاريخ”، ففكرة “شعوب بلا تاريخ” التي قال بها هيغل، تجعل محور البناء المعرفي وتطوّر التّاريخ ينحصران في جهة جغرافية بعينها، ويبقى التّابع مسجّلا على لائحة الأطراف التي لا تساهم في تشكيل الملمح الإنساني/الكوني للمعرفة، بقدر ما تكون مستهلكة له، ولعلّ دحض الأطروحة الهيغلية المنشئة للمركزية الأوربية التي حاول الفكر الأركوني تجاوزها عبر البحث عن ميكانزمات لترسيخ الهجرة المعرفية التي تتطلب أدواتها وميكانزماتها الخاصة، ونقد الأنساق الدالة سواء في الثّقافة الأوربية أو في مثيلتها الإسلامية، تحقيقا للمزاحمة الإسئالية التي تناهض واحدية المسعى التّفكيكي والبنيوي للمسألة الفلسفية في طروحاتها الهادفة إلى تعميم العقل الإشكالي ذو المنزع المُسائل، ومن هنا كانت مفهوميته دالة للتّفريق بين “العقل المهيمن” و”العقل المنبثق”.
لما تحصل على الليسانس، شعر لأول مرة أنه عوّض عن النقص أمام عائلة مولود معمري، ورأى بأن اللغة العربية تسمح له بفهم المصادر الصحيحة للدين، فألقى محاضرة “بنادي ريفي” حول ظروف المرأة القبائلية، لكن أمين القرية سلام معمري والد الأديب مولود معمري وبّخه لانه لم يأخذ موافقته في مخاطبة عرش بني يني وأن منزلته العائلية لا تسمح له بمثل هذا التصرف، وبذلك يكون قد خرق الهرمية القائمة، وعجّلت هذه الحادثة بهجرته، وحللها فيما بعد سوسيولوجيا وثقافيا وانثربولوجبا، ورأى أنها تكشف عن تجليات لميكانزمات ضبط السلطة والمجتمع في منطقة القبائل وتمثل أساليب تسيير الجماعة لنفسها في غياب الدولة.
الهجرة المعرفية:
يقول هشام شرابي أنّ “النظام الذي يغلق الأبواب في وجه مثقفيه، فهو يدفعهم إلى التناقض معه، فيجد المثقف نفسه أمام أحد أمرين: فهو إما يكيف نفسه مع متطلبات الوضع القائم، أو يرفض الوضع القائم فيعمل ضده أو يهجره”، وقد يمثل هذا التعريف المستوى المباشر لهجرة محمد أركون، من حيث أنه يمثل انتقاله إلى مناطق تستثمر في الحرية كي تستعمل العقل كأداة للإنارة، إلا أن المنحى الفلسفي في فكروية الهجرة لدى أركون يفرض على الدارس لفكره أن يسائل المخيال الأركوني كحلقة وصل بين بنية ذاته كحركة وبنية الهجرة كنظام.
تتحدّد وجهة أركون المعرفية في تأطير مفهوم الهجرة المعرفية بالظّرف السياسي الذي كانت تعيشه الجغرافية الوطنية الرّازحة تحت ضغط الإستعمار، المانع للبحث والتّنقيب المعرفيين، حيث يرتبط وضعه في الجامعة في الجزائر كدارس للغة العربية، بمناخ الهيمنة الإستعمارية المعيقة لحرية البحث والرّأي، حيث يقول: “كان هذا الإستعمار موجودا بقوّة داخل الجامعة. وكنّا خمسة أو ستة طلاب فقط من أصل جزائري يدرسون اللغة العربية والآداب العربية”1، وبقدر ما يكشف أركون عن طبيعة الإستعمار في محاولاته الطامسة لعناصر الهوية الوطنية، ومنها اللغة، بقدر ما يقدّم أيضا عنصرا هاما في ترتيب مصادر نقديته الشّاملة لمتداول الفكر، هذه النّقدية التي سوف تشكل مجمل الرّؤية الأركونية القائمة على أساس توفير الفضاء الحرّ لسريان النص الإنساني النّابع من التّشاركية الإنسانية في فهم جوهر “العقل المنبثق”، الذي يهدف إلى المعرفة الحرة واكتشاف آفاق جديدة للمعنى.
إن مفهوم الهجرة المعرفية يتأسّس طبقا للإعتراف الأركوني الماثل بين وجدانين مختلفين، وجدان يشغله الشّوق الوطني في رأب الصّدع بين الحالة الصّائرة إلى تشرّد عنيف، سببه سيطرة استعمارية عنيفة، وحيرة العقل حين ينفرد برؤية الواقع من خلال التأمّل والتوغّل المستغرَق في الكتابة والقراءة الرّصينة، وهي حالة الجغرافيا باجتماعيتها المتّشردة في مواجهة الذّات المنفردة المتمثلة في أركون، وإلحاح الرّغبة العقلية في التعالق الحذِر مع مكوّنات الذّات الجمعية عبر تاريخيتها وبرنامجها الوجودي العالق بين أمجاد الماضي وضرورات الحاضر والمستقبل، حيث يتّضح من خلال تأمّله في الكينونة التّاريخية، أنّ “التصوّرات التي تشكلها الرّوح عن الواقع تهيمن على المعارف والثّقافات. ولم يتم تفكيكها بعد”.
مرتكزات الهجرة المعرفية:
ترتكز الهجرة المعرفية أساسا على تأكيد حركة العقل من محضنه الأصلي صوب أفق آخر يتجلى فيه ما يعتقده هذا العقل كفيلا بالمساهمة في إعانته على تشكيل ملامح رؤيته المعرفية ـ النّقدية، التي تتجاوز الوصف ومسايرة الطّروحات النّاجزة، ولهذا كان العقل العربي على الدّوام، مستلهما هذه الرّؤية الهجروية وإن لم تتحقّق لدى بعضه، لأنّها تقف عند الحدّ الفاصل بين تجربة التّفكيك والتّحليل وتغطية مناطق الظل والمسكوت عنه في الثّقافة الذّاتية، والمحاولات الدّؤوبة للتّدجين الثقافي الذي تمارسه المؤسّسة الرّسمية، والموسوم بالهدنة الكاملة مع منتج العقل الماضوي وعدم إحراجه بالسّؤال.
ترتسم ملامح الهجرة المعرفية لدى محمد أركون ضمن هذه الدّائرة التي توسّمت في المنجز الفكري والمنهجي الغربي القدرة على محاولة بناء الرّؤية للنص والعالم والذّات على أسس نقدية، وتنقسم هذه المرتكزات إلى قسمين: ذاتي وموضوعي.
المرتكزات الذاتية:
كان أركون معجبا بابن خلدون لكنّه كما يقول لم يتحصل مثله على مكتبة في بداية تحصيله، ويقول عن نفسه: ” لقد درست في ثانوية فرنسية علمانية أثناء الجمهورية الفرنسية الثالثة، وكنت بعيدا عن كل مكتبة عربية”. يحدد محمد أركون ثلاث عوامل ذاتية قد تكون حاسمة في توجهه نحو ممارسة الهجرة المعرفية، فهو درس في ثانوية فرنسية، أي اكتسب أدوات التحليل والتفكير المتعلقة بكيان ثقافي قد فجّر أسس نهضته منذ التنوير، ولمس تجليات ذلك على الواقع، بل دفعته الظّروف إلى التّتلمذ على مبادئ تلك الأدوات المنهجية والفكرية، وبالتّالي تكون اللّغة كحاضنة للفكر، عامل أساس في ترتيب إواليات هجرته المعرفية.
يتمثل العامل الثاني في العلمانية، حيث يعترف قائلا: “أنا عضو كامل في التّعليم العام الفرنسي منذ حوالي الثلاثين عاما، وعلى هذا الصّعيد فانا مدرّس علماني”1، لكن السّؤال الذي يعتبر وجيها، يتأسّس عند نقدية أركون، وهل يتقبّل عقله النقدي العلمانية بمواصفاتها الفرنسية أو الغربية على العموم، لا شك وأنّ الهجرة المعرفية المبنية على أصول العقل النّقدي تميل إلى بناء الهيكل الفكري على اقتراحات البصمة الذّاتية، ومن هذه الزّاوية نجده يقدّم رؤيته لتعريف العلمانية، حيث يقول: “هكذا أفهم العلمنة: أقصد العلمنة المعاشة كتوتّر مستمر من أجل الاندماج في العالم الواقعي، والتي تساعد على نشر ما نعتقد أنّه الحقيقة في الفضاء الاجتماعي (= أي في المجتمع)”2، وبالتّالي تصبح العلمنة بالنّسبة لمحمد أركون هي الواسطة التي بها يستطيع أن يتحرّك في الفضاء الاجتماعي بحرّية بعد أن وفّرت له مقوّمات الحركة في العقل، والتي يراها على أنّها “توتر مستمر”، والتوتر دوما خلاّق من حيث إنّه يدفع الذّات المتوتّرة إلى جلب أسباب استقرارها إيمانا بالوصول إلى ما تبتغيه من فكرة، يَسِمها محمد أركون بكل ما يحقّق “الاندماج في العالم الواقعي”.
أمّا العامل الثالث الذي يمكن إدراجه ضمن مرتكزات الهجرة المعرفية لدى أركون من خلال رؤيته لتكوينه الشّخصي، تتمثل في الغربة المعرفية التي عاشها داخل إطاره الجغرافي، والتي تمثلت في عدم توفّره على مكتبة عربية، وهو ما يجعل الذّات تعيش داخل أسوار عالمها الدّاخلي بكل اغتناءه المخيالي الدّافع للبحث عن سبل تحقيق فضاء المتخيّل وبناء حدوده اللاّنهائية في إطار النّهائي، وهو ما يمهل الفكر والعقل رحابة في وضع التصوّرات والرّؤى الذّاتية التي تحاول إدراك اللاّمحدود في غواياته الإتّساعية، وهو ما تحقّق لدى أركون من خلال غربته المعرفية.
2 ـ كان أركون معجبا أيضا، بشخصية “مولود معمري” الذي ولد وعاش في ذات المكان الذّي ولد فيه، وهو قرية تاوريرت ميمون، حيث يذكر: ” أنّ شباب القرية كانوا معجبين بشخصية مولود معمري، الذي كان ما بين 1945 ـ 1952 المثقّف اللامع والأنيق والمحبوب في القرية، وكان له الحظ أنّه درس في باريس وتحصّل على شهادة ليسانس في الآداب الكلاسيكية”.
من الواضح أن العناصر الذّاتية، تشكل الإطار الأبرز في هجرة محمد أركون المعرفية، فأناقة مولود معمري، لا تمثّل فقط ذلك العامل الشكلي الذي يساهم في الظهور الملفت للشّخصية بقدر ما يمثل نحت العلامة الأيقونة بالنّسبة للذّات المفكّرة مستقبلا، فأيقونية مولود معمري، تنبيهية من حيث كونها تتعلق بشخصية عارفة أوّلا، وأنيقة، كون المعرفية تتطلب الفرادة والتميّز والعرض الفارق للشّخصية، وهو ما نجده في أناقة محمد أركون كشخصية تتمثل الواقع في نظامه الشكلي الذي ينطبع من خلال جوهره، ويكثّف مفهوم الأيقونة تكوين مولود معمري الثقافي بباريس، وهو العامل الحاسم حسب توجّه محمد أركون إلى الدّراسات الأدبية، وليس فقط التّكوين بباريس بل التّدريس في جامعتها الأرقي، “السّربون”، مما يعني أنّ العوامل الذّاتية أحيانا تشكل المفاصل الحيوية في عملية إلهام الذّات أشواقها العلمية والمعرفية، فأيضا باريس لم تكن ذلك العامل الإغوائي في حياة أركون من خلال عملية الإلتفات إلى شخصية مولود معمري، بقدر ما كانت أيقونة تكثّف الرّغبة في الإلتحاق بباريس التي تشكل العقل والنّباهة المعرفية في شخص مولود معمري تماما، كما كانت الأناقة دالا وجدانيا ومعرفيا على مستوى الفهم وسلوك “المثقّف اللاّمع”.
المرتكزات الموضوعية:
تتمثل هذه المرتكزات في الأسباب الكامنة في طبيعة الطّروحات البحثية والتي يؤمن الباحث أو الممارس للهجرة المعرفية بقصدياتها القويّة وقدرتها على المزاحمة الرّؤيوية ضمن بانوراما الفكر الإنساني في تفجّراته التّواصلية:
1 ـ تأكيد الإختلاف في ما تقدّمه الذّات العارفة، بل لعل هذا العنصر يكون من المعتقدات التي تقترب من درجة الجزم واليقين بوجوب حضورها الدّائم في مرآة الفكر والتّفكير.
يرى محمد أركون في ما يدعوه المنهجية التّراجعية، ضرورة العودة “إلى الماضي ليس من أجل إسقاط المجتمعات الإسلامية المعاصرة ومشاكلها على النّصوص الأساسية السّابقة كما يفعل علماء الدّين الإصلاحيون، وإنّما من أجل أن نتوصّل إلى الآليات التّاريخية العميقة والعوامل التاريخية التي أنتجت هذه النّصوص وحدّدت لها وظائف معيّنة”1.
إن أهمّية هذه الفكرة تنبع من كونها توجّه العقل نحو الاهتمام بالنص التّراثي، الذي يشكل قاعدة ماضية للرّؤية نحو مشكلات تختلف اختلافا جذريا عن مشكلاتنا المعاصرة، لكن الآليات التي تحكّمت في إنتاجها، هي ما يبدو إنّه الأجدى في عملية بعث فعالية العقل الإسلامي من جديد، وتحدّد على وجه الخصوص قراءة محمد أركون لمحدّدات أدواته الحفرية المستقبلية، والتي تنبع من عمق التّراث، والذي وإن كان حسب “المنهجية التّراجعية” لدى محمد أركون، لا يشكل سوى قاعدة للبحث والدّراسة بعيدا عن أي استدعاء جدلي للبناء حسب معطيات تتوافق وبنيته الحركية في التّاريخ وفاعليته في لحظته وإمكانية الفاعلية في الرّاهن، لكن مجرّد التّذكير بالسّياق التّراثي، يكشف عن مدى التّرتيب الأركوني لأدواته الممعنة في الإختلاف، فاللحظة التّراثية شكّلت في بعض مناحيها اغتناء فكريا ومنهجيا ولغويا وعلميا، ما يؤهلها لأن تلتحم بعملية المزاحمة الإسئالية على منبر الفكر الكوني، وما يجعل الاعتقاد قائما في هذا المنحى لدى محمّد أركون، هو استبعاده للحظة الرّاهنة التّي تفتقر لمثل تلك الأدوات المنهجية، ونلمس ذلك جليّا عندما “يستدعي أركون من التّراث التّفسيري نموذج فخر الدّين الرّازي الذي استعان بجميع علوم عصره كعلوم اللسان وعلوم التّاريخ والطب والفلسفة”1، واستبيان محمد أركون هذه الجوانب التّراثية الرّصينة في مقاربتها للمعرفة العلمية، يدحض الرّؤية القائلة باعتقاد محمد أركون في القطيعة مع كل التّراث، لأنّ قوله بـ “المنهجية التقدّمية” التي “تنصّ على أنّه ينبغي أن لا نهمل في الوقت ذاته مسألة أنّ هذه النّصوص القديمة لا تزال حيّة ناشطة في مجتمعاتنا حتى اليوم بصفتها نظاما إيديولوجيا خاصا من الإعتقاد والمعرفة يصوغ المستقبل أو يساهم في تشكيله. لهذا السّبب ينبغي علينا أن ندرس عملية التحوّل الطارئة على مضامين هذه النّصوص ووظائفها السّابقة ثم تولد مضامين ووظائف جديدة”2، فـ”المنهجية التقدمية” تجعل الإقبال على التّراث كعنصر تتجلى بعض ترسّباته في الوعي الرّاهن، كحالة تنبئ عن كينونة حيوية تتحرّك في التاريخ ليس كوقائعية باردة ومجرّدة وإنّما كفعالية تمتثل فقط لما يمكن أن تنجزه كصيرورة تفاصل التّاريخ وتحاوره نقديا لتصل معه إلى التّفاهمات الممكنة والقادرة على استيعاب الرّاهن في أدقّ تفاصيله الجدلية.
2 ـ التّأسيس الكياني للمعرفة العابرة للهويّات والنّقاء الفكري، حيث عندما ينغلق الفكر على ذاته محاولا تشكيل أطر للسّريان داخل أنظمته الحمائية، تنبثق من داخله مفهومية النّقاء، تماما كما المذهبية الإجتماعية التي ظهرت في أوروبا داعية إلى أفضلية العرق الآري أو الأبيض، فتحوّلت إلى عنصرية تضرب عرض الوجود كل من لم يثبت انتماءه العرقي إلى ذاك النّقاء الوجودي للذّات الأوربية، وهو ما أوجد تمركزا أوربيا حول الذّات السّائدة والأولى في العالم.
يقول: ” أنا شخصيا أرفض أن أستخدم مصطلح ما بعد الحداثة. لماذا؟ لأنّه يسجننا داخل المسار الكرونولوجي (أو الخطي المستقيم) لتجربة واحدة هي: تجربة الحداثة الأوربية”2، فالسّياق الذي يتكلم فيه أركون يشير إلى احتفاظه بهامش للخصوصية الفكرية، يتيح له إعمال أدواته المنهجية للإدلاء برؤيته في مسار الفكر الإنساني، فبرفضه لمصطلح ما بعد الحداثة ـ إنّما هو يرفض سياقا تاريخيا أنشأ منظومة مفاهيمية تتعلق بسيرورة مجتمعية وتاريخية لها سماتهاوأدواتها التي تنطلق من فلسفة ورؤية خاصّة للكون والحياة والإنسان.
3 ـ تشكيل الرّؤية الكونية للنص، وترتيب فعاليات الزّحام الإسئالي:
يؤمن محمد أركون بأن العقل الإسلامي عليه أن يواكب حركة العقل الأوربي الذي أحدث ثورة على العقل المطلق واليقيني الذي يمكن أن يصل إلى حقائق يقينية أو مطلقة كما كان يؤمن سبينوزا وديكارت، فالعقل النّسبي أو النّقدي ينتج النص الذي تُنسج حول معطياته الأسئلة وتتزاحم عند عتباته الرّؤى، حيث يتفجّر عبر عمليات حفرية في أنساقه ومستوياته الدّلالية عن رؤية كونية ترسم منحنيات جديدة لإعمال العقل وتجريب أدواته الإجرائية، رغم أنّ هذين الفيلسوفين استطاعا في القرن السّابع عشر أن يحرّرا “العقل الفلسفي من هيمنة العقل اللاهوتي المسيحي. بدءً من تلك اللحظة أخذت أوربا تتفوق على العالم الإسلامي بشكل لا مرجوع عنه.”1.
لا بد أن لا نغفل جانبا مُهمّا عند أركون، وهو العلاقة التّنافرية التي تحكم روابط الغرب بالمسلمين، لاختلاف العقيدة، وتوصّل الغرب إلى إمكانية الإطاحة بسلطة النص الدّيني في إدارة الشأن الزّمني، حيث كان العقل الغربي خاضعا لمتواليات العقل الكنسي، وهو ما يجعل السّياقات التّاريخية تختلف من حيث انبثاقات العقل النّاظم للعلاقات الفكرية والفلسفية، حيث اللحظة التي تَمكَّن فيها الكهنوت من التحكم في مفاصل الحياة العقلية الغربية، لم تكن هي ذاتها التي أنتجت اللحظة الإسلامية، ولعل البرهة الرّشدية الفاصلة في تاريخ العقلين العربي والأوربي تفتح الأفق حول معيارية تختلف عن المعيارية الأركونية في التّمكين للعلاقات الفكرية البينية، نظرا لاختلاف الشّرط التاريخي، فالعقل النّقدي كان متوفّرا في اللحظة الوجودية العربية مع ابن رشد وابن سينا وحتى الغزالي ذاته، لأنّه قام بعملية نقدية استطاع بها أن يفكّك البنيات الفكرية للمتصوّفة والباطنية والمتكلمين والفلاسفة وصولا إلى المحطّة التي كان يؤمن فيها بأنّ الأقيسة العقلية وحدها كانت عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة، لهذا اشتغل على ما يسمّيه بـ “الإحساس الباطني أو الذّوق الباطني”، وهو ما نستطيع أن نفهمه عندما يتحدّث أركون على أهمية الأديان، حيث يقول: “ينبغي أن نعلم بأنّ الأديان الكبرى كالمسيحية والإسلام واليهودية.. الخ، تغنينا كثيرا من النّاحية الرّوحية والثّقافية إذا ما عرفنا كيف نستمع إليها أو كيف نصغي إلى عمق تجربتها التّاريخية.. ولا ينبغي رفض كل ما هو ديني بحجّة أنّه قديم ، بال، عفا عنه الزّمن. لا. هذا لا يجوز. لأنّنا عندئذ نبتر أنفسنا ونبتر التّاريخ الرّوحي والثّقافي للبشرية. لذلك فإنّي ألح كما تعلم على البعد الرّوحي في الإسلام وكذلك على البعد الثّقافي والفلسفي”.
إن التّجربة الفكرية لمحمد أركون تتأرجح بين هذا الاعتراف بالجذر الذّاتي المغمور في التّراث والوجدان العقدي، والإنهمام بقضايا الفكر العالمي وفتوحاته النّقدية، ولا شك إنّه يتمثّل تجربة أبي حامد الغزالي رغم نقده لمساره الفكري كعنصر إعاقة لاكتمال الرّشد العقلي في التّفكير الإسلامي، حيث شكّل سدّا أمام حركة العقل التي كان يمثّلها ابن رشد، لكن رغم ذاك فإنّه يمتلئ بالشّوق الفلسفي لعرفانية عميقة في النّسق الدّيني، أشار إليها بمنطقة الإغتناء الرّوحي، والتي في إقصاءها بتر للهوية التّاريخية الرّوحية، بل بتر للذات أيضا، وفي هذا المجال تنبثق هويّة المزاحمة الإسئالية التي تُعولم النص وتضمن كونيته، لأنّه يستند على قاعدة واضحة من الخصوصية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للبحث مراجع، ويجب ذكر “الأنسنة والتأويل للاستاذ كيحل مصطفى.