رسالة إلى سارة / سميرة بولمية
بواسطة admin بتاريخ 2 فبراير, 2022 في 03:02 مساء | مصنفة في متعة النص | لا تعليقات عدد المشاهدات : 609.

لا أعرف من أين سأبدأ .. كأنني ابتلعت كل ما ادخرته بطون بحار الكلام من أصداف وأعشاب ومرجان ودلافين و صوان الحكايا، ولم يبق في جعاب صدري سوى رمل الصمت يضغط بأصابعه الخشنة على زجاج شبابيك أنفاسي .. تدحرجت من أعالي جبل الضياع كحبة فستق فتعثرت بكل ما قلته لك قرب حافة سكين الوداع ..أخرجت وجهي من قفص هواجسي، وأغلقت باب السرداب المؤدي إلى مدافن جنية وساوسي فخجلت من مراكبي الهاجعة في موانئ الأطلال، و من ريشي الذي تطاير مع أهباء أهوال النوائب والأسقام.. لكن حين لمحتك خلف أسوار تلك الغيمة البيضاء .. تعزفين بمدقة زهرة الفوشيا على أوتار كمنجة الشمس معزوفة الفراشة التي تحررت من قبضة خيوط الشرنقة الغامقة .. أدركت أنني لم أضيع الطريق إلى ساحة الخيل والكبرياء والنخيل !!..

         استيقظت روحي على صوت قرع طبول الحرية .. لم أعد أذكر كيف أخذت قراري.. ولا كيف حزمت متاعي .. ولا كيف ودعت ” أريناس” و ” غيلاس ” ..  ولا كيف أوصيت صديقتي المقدسية ” ريتان ” على إصيص ورد  الجبسوفليليا  الأبيض، و زهرة  الفاوانيا  الصينية الزرقاء ، وعلى سمكة ” دامسل ” ..   ولا كيف أقنعت نفسي أن قطي الشيرازي ” راديمينس ” ، فانوسي في العشيات المسيجة بعواسج الظلام ، لن يتحمل سماع صفير رياح غيابي ..

         امتطيت صهوة فرس ذلك المساء البارد، ورحت أجوب شوارع الذكريات .. وقع بصري على ” دزاير” كنخلة جليلة جالسة على مقعد المطر، تتزين بحلي البرد وفي حقول ضفيرتها الطويلة زرعت لآليء البرق ويشب الرعد ، وقد خبأت سنونوات شجيرة أصابعها في جيوب معطفها البني وما إن مالت برأسها على كتف الشتاء حتى رحت أتأملها كما يتأمل العاشق العائد من جحيم الفراق وجه حبيبته الأولى، وقد كانت منشغلة بالنظر إلى فرو السماء الملفوف حول رقبة فبراير ..استنشقت رحيق سوسنات الحياة المتفتحة في خمائل جبينها .. وتضايقت من رائحة رماد الخيبة المنبعثة من مدخنة آهاتي ..

         كم أشبه أمي .. تلسعنا نيران الشوق ولا نشتكي .. نتقلب ذات اليمين وذات الشمال .. و لا نتفوه ببنت شفة .. تجلدنا سياط الحوائن ، يخوننا الحظ الماكر ويتنكر لنا الكفل ولا نبرح أراضي الجلادة .. نرى في أحلامنا مدنا عارية برؤوس خاوية تسرق منا كنانير بهجتنا ومفاتيح جواسق أفراحنا، ولا نبوح بعضات أنياب الكلالة .. يعبث الخور بمحاصيل مسراتنا و تزج بنا الأقدار في دهاليز الفجائع وفي زنازين الحرق، ولا نفضي بأسرار غصتنا لأحد ..يعبس الطريق في وجه عربة أيامنا، ولا نتذمر من انتظار بزوغ فجر الفرج .. لكن ما إن ينكسر تاج الصبر في سلطنة رويتنا وصولجان سلوانا حتى ندفن تآليل وهننا في تربة الليل العاقرة ونجبر كسورنا ببلاسم وترياقات البكاء      المقدس !!..

         أما أبي فلا وقت لديه لقراءة رسائل مرآتي المكسورة، وأنين أزهار ساكورا آمالي المبعثرة في حدائق الذكريات المهجورة .. 

         مازال أبي ينهض مع صياح ديكة التأمل، يشرب فنجان قهوته في شرفة الصباح مع صديقه ” بيكاسو ” و مع عبق الطباشير الأحمر المنبعث من خدود السيدة  ” جوستين ” .. يعصر ليمونة خياله في غيمة الوقت فتنزل حمائم النهار لترتوي من ريقه المعطر بقصائد حبيبته ” فيسوافا شيمبورسكا ” المترجمة إلى كل لغات الماء، و يقيم في المدينة التي رسمها بفرشاة عرابه ” ألان بوسكيه ” كي يقول إنها تقع في مكان آخر.. كم صرت أعرف السبب الذي جعله يفكر مثله ” أنه لم يعد أحدا ” ، وينحت سؤاله بأزاميل الضياع التي نحت بها خاتمته ” اسألوا عني الرمل وشجرة المر ” ، و يهوي في الجرف السحيق كلما سنحت له الفرصة ” ليكتشف كم أن ” ذاكرته  ظلت تصر مثل باب لم يغلق جيدا “، ويتصورني بعيدا عن رحى أزمنة الحرمان التي طحنت أضلاع خيمة مسراته، وعن ألسنة اللهب التي تقض مضجعه، وعن موشحات الأنين المنبعثة من مزامير حنجرته المثقوبة، بعد كومة هشيمي عن فراقد أحلامي، وأنني لا أرى الشمس التي تشرق في رؤاه، ولا أسمع الأغاني التي تصدح بها حجرات سنين عمره .. ولست أنا من سيقوى على قولها له ” حياتك جد قصيرة وموتك مديد .. ” !!.

         لنا نفس الطلعة و الهدأة  والرائحة، ونشترك في الاسم نفسه  والغمة و التنهيدة، وعلى تقاسيمنا آثار سنابك خيول حرب شرسة .. ولم أفضح يوما ضجر روحي من هيمنة الكلارينيت و جبروت الهورن  على مزاج سهراتنا القاحلة وعلى تعاليقنا الجاهزة .. وصولة أصابعه على أوتار كمنجة أنفاسي اليابسة .. عانقته وأنا أعلم أنه مثل حبيبته ” فيسوافا “.. لا يجد أي مشقة في التنفس تحت الماء .. لا يشكو شيئا فهو من اكتشف الأتلانتيد .. ويعرف أنه بعد أن يموت سيستفيق سعيدا .. !!

         أما أنا فلم أجد أي تفسير لذلك اللون الباهت الذي راح ينحت على ملامحي مسحة من التعقيد و الغموض .. رحت أبحث عني وعنه .. أي عن الخيط الرقيق الذي يربطني بأحجياته الغريبة .. وبطقوس معابده العجيبة .. هرعت كالمجنون إلى غرفتي ..فعثرت عليه في إحدى زواياها الموحشة .. ملتصقا بجدار الذكريات المتجعدة.. لا يريد أن ينسى وجه قاتل حلمه.. أو يغفر ذنب من جعله يتحول من شاعر يأكل من خبز ” لوركا ” و ” فرانز كافكا و” إدواردو    غاليانو ” و ” دولسي ماريا لونياس ” ، ومن رسام يشرب من ساقية ألوان ” جان ليوت جيروم ” و ” يوهانس فيرمير ” و ” كلود موتيه أوسكا ” و ” رفاييل سانزيو ” إلى أخصائي في طب الغدد الصماء .. !!

         كل هذه السنين لم أتخلص من هدير أنهار دموعه .. ومن أزيز رياح عتابه .. ومن صليل أجراس ثيران ثورته .. ومازالت سهامه الحادة المتناثرة من كنائن حقده توجع هضبة صدري ..

         لن نتصافح .. ولن نتصالح .. ولن نتسامح ..

         ولا يمكنه أن يشرب من كأس النسيان لينسى ضربتي التي قصمت جسر ظهره ..

         لن يتنازل عن موقفه القديم مني .. ولن يفتح صفحة جديدة معي ..

         أنا عدوه اللدود، الذي حرمه من متعة الاستمتاع بشذى شدو أشرعة سفينة الحياة المسافرة في بحار لجية من عوالم الإصرار .. و التحليق مع عصافير الضوء، وبلوغ قمم سماء العزم   و الإلحاح المزبرجة بفيروزج الحرية وبيواقيت الإنعتاق ..

         بلغنا قاع منحدر السواد، ونحن مكفنين في بردة من أشواك تكبلنا أغلال صدئة غليظة     و أقمطة غربة عدوانية تقبض على أوداجنا بقبضة الغليل والضغينة .. 

         كم أسئنا لأجنة أحلامنا . وكم بالغنا في تكسير جسور مودتنا ..

غريبان أنا وهو..

         حشرنا في خندق السلوان مع حقائب حكايتنا البائسة ..

         لم تعد الغرفة غرفتي .. ولا سرير الأبنوس سريري .. ولا رفوف إيكيا الحمراء رفوفي .. ولا الصورة المعلقة داخل الإطار النحاسي صوتي .. ولا تلك الابتسامة العريضة المطرزة على محيا شرفة الفرح تشبه ابتسامتي..

         اقتربت من مكتبتي الصغيرة فسمعت ” دولسي ” تقول لي : (( أخذت معك المصباح .. لكن الضوء بقي معـه  !! )) ..

         و انفجرت بالبكاء المر ..

         لم يبق أمامي إلا أن أمسك برقبة الشارع لأتسلق سلم الحرية، فأحرر روحي من لعنة المتاهة التي دوخت أحصنة فراستي وكواكب نبوءاتي، و أرهقت نياق صبري و أوتاد آخر   قلاعي ..  وسـأهتف مع نسائم السلمية هتافات الأحرار الذين عرفوا كيف يغرزون حراب رفضهم في نياط صحاري اللاجدوى و عنادل قلوبهم تغرد مع قياثير الورد وكمنجات الود  و رباب الابتسامات ..

         من حقي أن أحلم بولادة جديدة أكفر فيها عن خطيئتي الكبيرة، ومن حقك علي أن تذكريني بظلال صفصافة الصفاء .. و بهسيس فراشات الأشواق .. وبشهقة المطرة الأولى .. وبرحيق عطرك الخرافي ..

         كم سنة وأنا مثل سمكة ” التانج ” الزرقاء الشفافة أتدثر بشرشف الماء كي لا يراني الضوء المتلألئ في سرج الصباح ..

         لقد عدت كي : ” تقطعي ظلي ..  

         وتخلصيني من العذاب..

         و من رؤية نفسي دون ثمر ” ..

” سارة ” ..

ذبحت ذئاب مخاوفي أمام أعين الريح التي كانت تعصف بسنابل وجهي، ومزقت اللجام الذي كان يكتم صليل لساني ، و شحذت سيف صرختي في ساحة الحراك، وبايعت عمامة    فبراير .. وصرت على يقين أننا نشق طريقنا وسط عباب عات وأن وطننا لم يعد يقع بعيدا ..

اقتربي ياااااا سارة لأريك قمر قلبي .. وساعة دقاقة كون الحلم  .. و ما تبقى في بئر الحنين من ماء الوله و كرز الشعر، وتلك الزنبقة التي ظلت عالقة بين سلطان الوعد وقسوة الغياب..

لم يكن من السهل تمزيق أقنعة مواخير الأكذوبة، وتعرية آثام الوثن المقعد ، ومكائد شياطين المعبد.. أنظري إلى ساحة الحرية بنور الله .. نوره يغمر القلوب و العقول و العيون ، تقيأت الألسنة أعشاب دياجي الصمت فتعالت أهازيج الأحرار .. سلمية وسلمية وسلمية … وأنا من سيرسم ببلسم الجلنار ابتسامة على شفاه وطننا الجريح ..

سارة ..

أعتقد أن صرختي مازلت على قيد الأمل .. و عروق مهجتي متشبثة بأجنحة عنقاء  الحياة ..

وأنني عدت إلى حضن وطني الكليم كما يعود الطفل الضال إلى بيته القديم..  

أخيرا ياسارة عدت إلي و إليــــ ..ـ…….ـك !!.            

اترك تعليقا