(حفنة وجع) ل د.فضيلة بهيليل / مقاربة شمولية / علي درويش
بواسطة admin بتاريخ 25 نوفمبر, 2024 في 01:16 صباح | مصنفة في حفريات | لا تعليقات عدد المشاهدات : 465.

لاحظت يوما أن الروائي الفرنسي  الصديق Guillaume musso يتقاسم كعادته لوحة دعائية  بصفحته حول روايته المليئة بالتشويق:

La vie est un roman

فعلقت على صفحته بالقول :

Le roman  aussi doit être une vie complexe Mr Guillaume !

نعم، لا يمكن لكاتب الرواية إلا أن ينسج حياة مكبلة بالتعقيد من خلال إتقان حبكتها، وتفاعل شخصياتها وأشكال الصراع الدرامي الذي يحتدم بينها، ومن خلال أحداثها (متتابعة كانت أو متشابكة)، و من خلال تعدد الأصوات في ثناياها  وتنوع الخطابات إذ ما إن  يخفت خطاب القلب حتى يطفو خطاب العقل وهكذا…دواليك.

 باختصار ، فالرواية يُفترض  أن تكون الجنس الأدبي الأكثر قابلية لأن يحمل في رحمه  أعمق  الرؤى وأبلغ الرسائل المتوارية التي تثير شهية القارئ  النشط فيلاحظ ويتأمل ويحلل ويتساءل ويركب ويقوِّم…

وفي هذا السياق، كثيرا ما تساءلت:

لماذا نكتفي بقراءة المشاهير الذين غالبا ما استفاد بعضهم من الدعاية الإعلامية، أكثر مما نقرأ للكتاب المغمورين؟

 مع أنه قد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر،  كما يقال.

  وعندي ضمن لائحة الأصدقاء من لا تقل أعمالهم الروائية جودةً عن مشاهير الإعلام والإشهار….

ويكفيكم أن تتصفحوا معي رواية أنهيت قراءتها منذ يومين عنوانها ( حفنة وجع) للأديبة الجزائرية الأخت د.بهيليل فضيلة .

رواية مثيرة للاهتمام، تستحق الوقوف عندها بتمعن لفهم أبعادها الفنية والدلالية والجمالية.

بدءا من عنوان لا يشكل مجرد مدخل لمضون الرواية، بل هو عمودها الفقري الذي يتردد على امتداد المتن الروائي، بصيغ مختلفة و بمرادفات تصب في المعنى ذاته.

عنوان في شكل مركب إضافي يحيل المضاف فيه (حفنة، وهو خبر لمبتدإ محذوف) على ما يُقبض ويجمع بكف أو بين الكفين، والشائع أنه دلالة على القلة مقابل صاع أو قنطار أو غيره، بينما يحيل المضاف إليه على كل ألم جسديا كان أو نفسيا يطول أمده.

وبالنظر إلى  استحالة القبض على الوجع، ففي العنوان – سيميائيا- دلالة على أن كل ما تقدمه الرواية إن هو إلا غيض من فيض، أي مجرد عينة صغيرة من وجع يمتد أفقيا وعموديا، منه أوجاع الذات في ذاتها وأوجاع الذات في تفاعلها مع محيطها الصغير ومع أحوال الوطن وهكذا، فإن تعذرت إذن الإحاطة بوجع لا حدود له، فإن الرواية تحمل عينة دالة عليه.

وقد ترددت كلمة الوجع مفردا أو جمعا عشرات المرات في النص كما ترددت في العناوين الفرعية (حفنة وجع تدروها الرياح ص9- للغرباء أيضا أوجاع ص70..)، وبذلك ظل (وجع) الخيط الرابط بين مختلف أطوار الحدث المركزي لذلك يمكن  يمكن اختصار  خطاطة السرد عبر مسارين أولهما مسار الرحلة التي نصادفها في المنطلق والتي نختتم بها الرواية، أي أنها اعتمدت تقنيا على الشكل الدائري، بحيث ينتهي الحدث من حيث بدأ.

أما المسار الثاني فهو هندسة الرواية التي تقوم على تجزيئ الحدث المركزي إلى فصول فرعية خصت كل واحد منها بعنوان:

-كل طرق المحبة تؤدي إليك.

-حفنة وجع تدروها الرياح

-قلب على مجمر الحنين يتلظى ..يحترق

-الهزات العنيفة لا تسقط، إنها فقط تشبثنا بمن نحب.

-الفراشات برغم ضعفها لا تنحني..إنها فقط تحلق.تطير

-لاحاجة لمزيد من النور فقد انكسر ظلك بمرآتي.

-للغرباء أيضا أوجاع

-ملح الشوق يفتح الجراح

-وفي أرض توات..موعد الفرح.

-وما العمر غير زفرات ألوانها حكايات.

وهي عناوين تمتح دلالتها من العنوان المركزي ولكنها تتلون بلون اللحظة النفسية والعاطفية التي تطرأ مع تغير الزمن والمكان و مع  تفاعل زينب ، الشخصية الرئيسية مع مستجدات الحدث متأثرة بعوامل الزمن والمكان وبمختلف القوى الفاعلة في تفاعل لا يفتر، خاصة  مع بقية الشخصيات وهي كثيرة تعج بها الرواية إما نصادفها عبر مسار الحدث أو تسترجعها الذاكرة في لحظات شرود كثيرة.

ويمكن تصنيف هاته الشخصيات إلى شخصيات رئيسة ( زينب ، زوجة العم، صالح، الجدة، العم، الأم الحاضرة في الذاكرة) رسمت الساردة ملامحها ببراعة مركزة على السمات الجوهرية في بعديها  النفسي والاجتماعي.

 ثم شخصيات ثانوية (أم الخير، مسعود،عيسى، زاهية، أم الخير…الخ) ونعرفها غالبا عبر الذاكرة ومن خلال ملامحها العرضية.

أما الشخصيات العابرة التي قلما يتكرر حضورها فهي كثيرة (ربيحة ابنة عبد المولى ،موسى، لخضر، محمد….إلخ).

والملاحظ أنها جميعها تمثل شرائح وأطياف المجتمع وفئاته فمنهم الفلاح الوفي (صالح) ومنهم الزوج العنيف المتسلط (العم) ومنهم الدجال المشعوذ والمتدين المتطرف والحركي الخائن والمرأة الخادم ( أم الخير) ، و قليل من هذه الشخصيات نامية متطورة باستثناء زينب التي ينمو وعيها ويتغير مزاجها وفق الظروف التي تستجد في حياتها، فهي بعد قرار الرحيل غير ما كانت عليه قبله، أما بقية الشخصيات التي تشكل العامل المعاكس أي الذي يعرقل رغبات البطل ويقسو عليها، فيتجمد وعيها بل يعود القهقرى وخاصة ( الغول، مصاص الدماء)، كما أن الساردة تولي بعضها على حساب البعض اهتماما فترسم ملامحه الداخلية مثل صالح (صوت أبح/ لحية خفيفة/ قامة/ طول) 

عالم الشخصيات  إذن صورة لمجتمع تقليدي متمسك بجملة من الأعراف بعضها حميد يتم توارثه ( الألبسة، الغناء، الأعراس) وبعضها وليد جهل وتفسير خرافي لظواهر الطبيعة وقضايا المجتمع ( الشعوذة، إحراق الحرمل في الصمايم).

ينمو الصراع الدرامي بين كل تلك القوى الفاعلة آدمية كانت أو اجتماعية أو طبيعية  ويحتدم، كلما تطورت الأحداث وتشابكت العلاقات، وقد أبانت المبدعة عن مهارة فائقة في إذكاء الصراع الدرامي بنوعيه الداخلي ( صراع زينب مع نفسها بين الرغبة في تحقيق حلمها والخوف من التعرض لأشد العقاب وأقوال الناس) والخارجي وهو الطاغي بينها وبين محيطها الصغير والكبير وبين القوى الفاعلة المساعدة لها وقوى الشر المعاكسة لحريتها وتطلعها.

و اللافت أن الكاتبة تجيد تأثيث الفضاء الزماني والمكاني الذي يؤطر مختلف الأحداث، بحيث تحضر بعض المدن ( توات،  تيميمون، العقبان، عين لحجر ..الخ) بخصوصياتها الاجتماعية والطبيعية، فتنسج الساردة لوحات أخاذة تتضمن تشخيصا للطبيعة وكأنها كائن حي ناطق يتفاعل مع أحوال زينب النفسية ( رائحة المطر تذكرها بأمطار تروي عطش الصحراء/ أثر فقدها لأمها   يتحول إلى غربة مكانية ونفسية : كل الأماكن بغيابك غربة ص: 43)

أما الزمان فيحضر بشقيه الفلكي ( الصيف/ الخريف) والنفسي بالليل خاصة) وقد نوعت الساردة تقنيا في توظيف الزمن الخطي تارة ( زمن الرحلة) والاسترجاعي ( مرحلة الطفولة مع صالح) وخاصة في الفصول الأخيرة ( الاستعمار/ الخيانة/ الحركة/ بعيد الاستقلال).

وكما ورد في مستهل المقال، فقد وفقت الكاتبة د.فضيلة إلى أبعد الحدود في ابتكار عالم روائي يعج بالصراع وبالحركة وبالمتناقضات ، موظفة خطابا سرديا تهيمن فيه نكهة شعرية ولكنه أقرب إلى السهل الممتنع  من خلال المزج بين الحكي والوصف والحوار بأنواعه من حوار ثنائي ومونولوج  ومناجاة (قليل منه بالعامية المحلية).

كما يلاحظ أنها أسندت مهمة الراوي تارة إلى راو من الخلف ( ضمير الغائب) وأخرى  الى الشخصية نفسها ( ضمير المتكلم) كما تألقت في ابتكار صور بيانية مادتها المجاز بنوعيه الاستعارة خاصة( لاشيء صار مميزا بأيامها، ولاصدف تبدد هالة الحزن ، وحده الحنين يحاصر تفاصيل عمرها.)، كما تستوقفنا على المستوى المعجمي كلمات من العامية المحلية قد تحيل الكاتبة على شرح بعضها في الهامش ( الغول/ الحايك/ الخلالة/ البوعوينة/ الهيدورة… ).

باختصار شديد نحن أمام إبداع روائي هو أقرب إلى الرواية السير-ذاتية منه إلى الرواية السيكولوجية، إبداع ذو أبعاد اجتماعية ونفسية تكتوي بلوعة الاغتراب النفسي، ولكنه أيضا حافل بالاشارات الدالة اجتماعيا وثقافيا.

لكل ذلك فهي رواية جديرة بالتقدير دلاليا وفنيا وجماليا.

                 •••

اترك تعليقا