” صامد غصن الزيتون…” / فضيلة بهيليل
بواسطة admin بتاريخ 13 أغسطس, 2025 في 09:24 مساء | مصنفة في متعة النص | لا تعليقات عدد المشاهدات : 84.

إنبعث بعد مطر غزير كان هطل فجأة على المخيمات.. وعلى المدن التي لم يبق لها من هيكلها سوى الاسم، وبين تلك المستشفيات التي قصفت مرات ومرات…لم يكن المكان المكتظ بالجرحى يكفي لأن يحتضن الزوار المفجوعين في أطفالهم ونسائهم، رائحة الموت تطلع من أنابيب مصل تعطلت بعد قصف طالها الشهر الماضي، أغطية بيضاء برقعتها الدماء الحديثة والقديمة، وحدها قارورات الأوكسيجين الشحيحة ظلت مركونة بجانب الأسِرّة التي لم يهدأ أزيزها منذ أكتوبر 2023، جلس غسان منهكا قرب سرير الطفل المبتورة قدمه، لم يكن الطفل الأول الذي تبتر قدمه فكم أجرى غسان من عمليات بتر لأطراف أطفال في سن البراءة، وكم تدرب كثيرا على لحظة تسريب النبأ إلى قلوبهم الصغيرة وقلوب أوليائهم إن حدث وكانوا على قيد الحياة، لكنه هذه المرة جلس مرتبكا أمام هذا الجسد الصغير الذي يتنفس بهدوء كأنما يتحدى الحياة، تشد رأسه ضمادة بيضاء رصعها بجريمته كلب الصهيوني وقد وقع يمينها بختم في لون الموت. انبجس شعاع أمل من عينيه اللتين انفتحتا مرة أخرى على خراب الأجساد، ابتسامة باهتة لا علاقة لها بوجع الإبادة رسمها الطبيب ياسين بعد أن قهر بها دمعة كادت أن تفشل عزيمته في نقل الخبر لغسان، لم ينظر الطفل كثيرا إلى الطبيب ولا سأل عن أهله الذين أبيدوا في القصف الذي كاد يودي بحياته هو أيضا، كان كل شغله هو ذلك الفراغ الذي صار يملأ أسفله، لماذا يشعر أن لا شيء يحوطها.

حاول النهوض ببطء لكن الطبيب نهره. منظر الضمادات الملفوفة بسمك مختلف حددت مقدار ما تبقى له من رجله، عاد يتذكر آخر مرة وقف فيها على قدميه الاثنتين حين كان بالشارع رفقة والده، يرتدي حذاء رياضيا أبيض، وسروالا أخضر، ولم يعلم أن تلك المحطة كانت آخر عهد له برجله. ما فاجأ غسان هو شجاعة هذا الطفل الذي لم يصرخ أو يبكي لفقدانه أحد أعضائه ولا سأل عن أهله، بل ظل صامتا يتلفت يمينا وشمالا كأنه يطمئن على المرضى الذين توزعوا بشكل فوضوي في تلك القاعة التي يفترض أنها لا تحتمل أكثر من مريضين أو يبحث عن قريب بينهم. لحظات الوعي ظلت تكبر شيئا فشيئا وفجائع الموت المستمر تملأ القاعات كل دقيقة حتى لكأنها تتقيؤها. سأل غسان ببراءة طفل لازال يحلم أن ترمي قدمه الكرة:”عمو، هل ستنبت رجل أخرى مكان رجلي المبتورة؟” توقف الكلام وقد علق بحنجرته، ماذا سيرد على هذا الطفل الذي لا ذنب له في هاته الحرب؟ كيف سيخبره أن قدمه لن تعود وأنه سيكمل باقي أيام عمره دون أن يرمي لأصدقائه الكرة. ظل صامتا والطفل يهزه قابضا بيده الصغيرة جيب المئزر الأبيض: “قل لي عمو، هل ستنبت؟”. استدار ياسين مهربا حزنه خارج الغرفة، دون وجهة محددة، يكفي أن يهرب من تلك اللحظة التي سترسخ للأبد في ذهن غسان. لكنه لم يكد يكمل هروبه حتى استوقفه أطفال صغار بالرواق يلعبون بالأكفان ظنا منهم أنها معاطف تقيهم برد الشتاء، كل واحد منهم يفتش عن مقاسه، كانت وصلت من الدول التي بدل أن ترسل الطعام و الدواء أرسلت لهم موتا بالتقسيط وخذلانا.

عاد ياسين إلى الغرفة متعثرا بأطراف المرضى الذين ارتمت أجسادهم المثخنة جراحا على الأرض بحثا عما يسكن أوجاعهم، عاد ينظر إلى غسان بشجاعة ووجهه لوجه البراءة: ” اصبر أيها البطل، نحن شعب يمشي على أكفان الخذلان، لكنه لا يخون، شعب إذا فقد رجلا أو ذراعا نبتت بقلبه أخرى…إننا باقون يا غسان حتى ولو فقدنا في كل يوم رجلا وذراعا..”

اترك تعليقا