في حكاية طريفة يرويها الراحل عبد الحميد بن هدوقة(1925-1996) مُنتزَعَة من دفاتر الطفولة الأولى زَمَنَ الصبا، يقول فيها “..كنتُ مُكلَّفًا بإيصال خالي الأعمى من قرية “المنصورة” إلى سوق القرية المركزية-حيث كنتُ أدْرسُ-ولذا كنتُ مُلْزَماً بقطع نحو الكيلومترين لمرافقة هذا الخال الضرير، الذي كان لَجُوجاً في طرح الأسئلة ويُلِحُّ كثيرًا في طَلبي لمُصاحبتِه في المشي على النَّحْوِ الذي يرتضيه، هكذا كان يقول لي في لهجة لا تخلو من قساوة وشِدّة ” ارفع هذِه الرِجل وخَفِّض الأُخرى ، امشِ كَما أمشي ، وكنتُ -على مَضَضٍ- مُضطراً لِمُجَاراته ، لدرجة كِدْتُ أن أنْسى طريقتي المُعتادة في المشي، ومن هنا كان يتعيَّن عليّ العمل على استردَادِ خُطواتي الطبيعية الأُولى، انسجاماً مع النفس والذات.”
-02-
تبدو هذه الحادثة على طرافتِها مؤشرا دالاً على تبلُور وعي “الطفل وتَشكُّلِ الملامح الأولى لشخصية عبد الحميد بن هدوقة في بيئة قاسية ، لم تزِده إلاّ استقلالاً في الرأي واتزاناً في التصوُّر والرؤية ، حدث ذلك في أزمنة صعبة ،حيث شاءت المُصادفات أن يُولَد “بن هدوقة” في تلك المُنحدرات الصخْريَّة الشديدة الوُعورة ، في سفح قرية جبلية نائية-قرية الحَمْرَا- في مرحلة استعمارية كالِحةٍ اتسمت بالبؤس والضياع والجهل .
سُقتُ هذه الحادثة للوقوف على جانب كبير يَكادُ يكونُ منسياً من حياة و سيرة صاحب رائعة ” ريح الجنوب” فسيرته-لحدّ الآن- لم تُكتَب ولم تحظَ بالتدوين، خاصة بعد ُمُرورأكثر من رُبعٍ قرن على الرحيل، وهي فترة –فيما أعتقد-كافية للمُقربين إليه من الكُتّاب والأصدقاء ليتسنّى لهم الشُروع في كتابة سيرة هذا “الرائد” الحافلة بالنضال والكتابة والخِبْرات العديدة ،وإذا كان صديقه الراحل “الطاهروطار”- وبإلحَاحٍ من الأصدقاء- كَتَبَ جزءًا بسيطاً من سيرته الذاتية في كتابه “آراه” وهو على قيد الحياة، فإنّ الأمر يختلف بالنسبة لبن هدوقة،لِدَوَاعٍ وانشغالاتٍ إدارية كثيرة، وقد تساءلتُ كثيرا عن سِرّ إِحْجَام بن هدوقة عن كتابة سيرته، تُرى لماذا هذا الإرْجَاءُ المُستمر عن خوض هذه التجربة وإفادة الأجيال اللاحقة بعُصارة تجاربه العديدة؟
أَمَّا وقد حصل “الموت” الذي كُنَّا نخشاه والتحق صاحب رائعة “الجازية والدراويش” بمدار الغياب الأبدي، فإنَّ أمْرَ تدوينَ هذه السيرة المؤجَّلة، يقعُ عِبْءُ كتابتِها على كَتَبَة السِّيرِ “البيوغرافية” ،كما هو شائع في الغرب،ويمكن الإشارة في هذا السياق الى العمل البيُوغرافي المُهم الذي كتبه “أولفيي تود” عن “ألبير كامو” في نَحْوِ أكثرَ من ألف صفحة، أو تلك السيرة المُوثّقة الرائعة ل”مارتن جيرالد” عن ماركيز،..الخ ، وبما أنّه ليس لدينا ُمُختصُّون في كتابة سِيِّرِ هؤلاء الأعلام الكبار، فإني أعتقد أنّ أَقْدَر الناس على كتابة سيرة الراحل بن هدوقة، هو صديقه الروائي “واسيني الأعرج”(1954)، لكفاءته ورصانته العلمية من ناحية ، ولِقُربه من الراحل من ناحية أخرى ، وقد أجرى معه،في باريس ، حواراً مُطوّلاً مع مطلع سنة 1996 ، لم يَرَ النور في كتاب مُستقل-لحدّ كتابة هذه السطور.
-03-
لو أُتيحَ لهذا الحوار أن يظهر، ولسيرة بن هدوقة أن تُكتَبَ بالشكل اللازم، فإنّها ستجْلُو الكثير من الأمور والمحطات المُهملة في تاريخ الرجل وستعيد تلك الحلقات الضائعة من مسار كاتب مُقتدِرٍ وًهبَ حياته وقلمة للنضال بالكلمة مُتحسِّسًا آلامَ شعبه ومنغرسًا بعمق في حركة التقدم الذي اتَّخذَه الراحل بوصلةً هاديةً له في كُلِّ مَاكًتَب . .