متعـبة بثقـل الهمـوم و الأحـزان . . مسكـونة بنـزيـف
الجراحات . . محاصـرة بأوجاع الزمن المروهمجية العـدوان . .
منتضـية من ملامح الفرح ، تقف أم السعـد هذا الصباح بين تضاريس
القلـق و جبال الحـيرة تسـتعـيـد ملامح قريتها بعد ليال من قصـف
المدافع والصـواريخ الشارونية ، لم تبصرغـير سحب من الدخان
باسطـة قـتامتها على الكون و الشمس غارقـة في ظلمة حالكة . .
لا أثـر لنـورها الذي كانت تستحم في دفئه و أبنـاء جلدتها . . فتكت الوحـوش بكل ما كان ينبض بالحياة .. كل أخضر و يابس .. يعـظم
الإثخان بأعماقها . . يتـنزى قـلبها دما تـشـعــر به يندلـق شلالا عبر
شراييـنها . . يـشـف عليها يأس عميـق يـرسـم تجاعـيد الآسى على
ملامحها . . تنهمـر عـيناها الذابلتـان هـيمانا زلالا. . يطـوقها الخـوف
على طفلها الوحـيـد الذي نجا من قذائـف ليلـة أمس التي سرقت أحلام
أصدقائه الأطفال ( درر الأقصى) : محمد ، إيـمان ، سلطان ، حـيدر
و جهاد و . . و. . والبقية ستأتي، قد يكـون – سعـد إبنها- ضمن قوافـل
الأطفال الشهداء للأيام القادمة. . تـشـتـد حـيرتها على فلذة كـبدها . .
دلفت إلى غرفـته وتقـدمت نحو سـريره تـوقظه بقبلاتها كالعادة . .
أفـزعها مكانه الفارغ ، فانطلـق صدى صراخها يـشـق سكـون هذه
الهنيهات . . يا ويلي ، أين إبني . . ؟ كيـف غادرالبيت دون علمي . .؟
ستسرق الوحـوش إبتسامـته . . ستـوقـف نبض بـراءتـه . . ساعـدني
يا رب في العثـور عليه ، راحت تنتحـب . . تـوزع نظرها هنا وهناك
- 12 -
تتلهف بشـوق لتجـده . . لتحضـنـه بين ذراعـيها . . لتخـفيه عن الآلـة
المدمرة للأحلام . .
إهدئي ماما . . لا تصرخي . . أنا هنا . . أنا هنا منشغـل بعـملي . .
هرعـت مسرعة باتجاه صوت إبنها . . وجدته مخـتفـيا بإحدى أركان
ساحة البـيت قرب شجـرة غـرسها والده منذ سـنـوات قليلـة قبل
إستشهاده في معـبر “إيـرز ” يتمعـن الشجـرة حـينا وينكب على ورقة
كبيـرة موضـوعـة فوق ركـبتيه الصغـيرتين حـينا آخـر . . حاملة
أصابع يـده ريشـة وكأنه يـريـد نسخ شجـرة والـده على هذه الورقـة
و بجانبه بعض الأقلام و الأصباغ و قصاصات أوراق . .
ما الذي تفعله في هذا المكان يا ولـدي . .؟
دون أن يرفع رأسه عـن الورقـة يخاطبها : إنني منشغـل بالرسم . .
أهذا الظرف تـراه يسمح بممارسـة مثل هذه الفنـون . .؟
لا تخافي ماما إنني أرسم حلم البراءة الفلسطـينية . .
حلم . .؟ أي حلم يراودنا وسط عـدو غاشـم لا يفـقـه إلا لغـات الموت
والنار والدمار. . ؟
وحدها الحدائـق المزروعـة ببصمات الدماء تشكل طريقا إلى حدائـق
أمل كل المعـذبـين فوق أرضـنا ، وحدق في الرسم الذي أوشك على
نهايته . . أنظري ماما . . ما رأيك . . ؟
تطلعـت إليه بنظـرات سادرة : أعـرف أنك كنت تهـوى الرسم
بالمدرسـة ، لكن منذ متى تعلمت ممارسـة فنـونـه بهذا الشكل . .؟
منذ وعـيت قضية وطني و أدركت رسالة أبنائه بما فيهم أصدقائي
- 13 -
الأطفال الذين فقـدتهم الواحد تلـوى الآخـر دون أن يبلغـوا رسالتهم ،
فأردت أن أنـوب عنهم في عرض أحلامنا و آمالنا بهذه الطريقة التي
تـريـن . .
شعـرت بنسمة فـرح تنساب إلى أعماقها الثكلى بالآلام . . إغـرورقـت
عـيناها دمـوعا . . تنهدت آه ، ما أعظمك يا إبني .. و تحضنـه إلى
صدرها ثم تلتفـت إلى الرسم . . تتمعـن صورة حمامة بيضاء فـوق
تلك الشجـرة و أطفـال يحيطـون بها ماسكـين بأيدي بعضهم البعض
يـمـرحـون . . يتطلعـون ببـراءتهم الحالمة إلى حدائـق بعـيدة عنهم
ولهيب نيـران تمتد ألسنتها إليهم و تحتها إطار كبير يريـد أن يضع
داخله عـنـوان رسالته المرسـومة . .
تغـوص أم السعـد في عمـق الصورة . . تـنـد عنها تنهـيدة أخـرى
لاهـبة . . قـل لي بربك يا إبني : أين ستخـفي هذه الرسالة و نحن
مهـددون بالموت في أي لحظة . .؟
بل هو أملي . . أمل كل الفلسطيـنييـن لا أريد إخفـاءه . . سأبعـثه عـبر
برقية مستعجلة إلى الحكام العـرب . .
الحكام . .؟ العـرب . .؟
آه ، يا إبني كم أرهـقـنا أنفـسـنا بمناجاتهم . . من أمـد طويل و أهل
الضفـة والقطاع ينادون . . يصرخـون . . أينكم يا عـرب . .؟ أينكم يا
مسلمين . . ؟ فلم نسمع إلا عـويـل صمتهم يختـرق الأجـواء . . يشكل
مساحات واسعـة لأصوات القذائف و الرشاشات و يشـيد الطريق أمام
المدافع و الجرافات . . ستصلهم برقيتك . . سـيتأملـون رسمك . .
- 14 -
سيفكـون ألغاز صورها ، لكنهم سـينـددون في صمت . . سـيتحاورون
في صمت . .
هذه الرسـالـة يا أمي هي وصـيـة أصدقائي الأطفال لا أتـراجع في
عرضها أمام العـرب و المـسلمـين و إن ظلـوا ساكـتين . .
تهم أم السعـد إلى الصمت ثم تنظر إلى الرسم رافعة يداها تدعـو رب
العـزة أن ينقـذ شعـب فلسطين و تـزهـر أحلام البراءة بمسرى
الرسول الأمـين . .
فـرنـدة في أفـريـل 2002
التعليقات مغلقة.