لا صوت، لا حركة تَـشي بالحياة… الشّمس تتكبّدُ السّماء… أجمل ما يمكن رؤيتُـه لوحةُ حامية الألوان؛ سَراب من إبداع الوهج… ذات جولة بحث عن امتداد النّسب بسيّارته الرّباعيّة الدّفع متّجها جنوبا في عُمق الصّحراء مختصرا الطّريق بطريق ثانوي يستمتع بالبرودة، يُـؤنسه ما يُفضّلُ من النّغم والشّمس ترسل شواظها في جسد الصّمت والسّكون خارجا… تَوقّف المحرّك فجأة وهو يعبُر إحدى صحارى الرِقّ الجزائري؛ أرض لا شجر فيها، ولا بشر غير الحصى والحصباء، قضى ما بقي من النّهار مقوّس الظّهر على محرّكها، أو تحتها ولم يتبيّن العَطب، يحاول بين الحين والآخر الإمساك بإشارة… سار لأكثر من نصف ساعة لبلوغ ربوة يرجو الْـتِـقاط إشارة من على أعلاها لإجراء مكالمة دون جدوى، ثمّ عاد أدراجه خائبا كأنّ البقعة لا تنتمي إلى العالم… خيّم اللّيل على المكان… تناول بعضا من زاده… بقدْر شدّة حرّ النّهار كان قَــرَسَ برد اللّيل، والـمُبَــرِّد معطّل. دخل سيّارته يحتمي من البرد وربما من هوّام المنطقة، فلا خير في طارق اللّيل، و شرع يترصّد لعلّ بريق ضوء المارة يلتمع هنا أو هناك من خلف الزّجاج، و ما انتبه إلاّ بأشعّة الصّبح الأولى تزعج جفنيه… انتفض يفركُ عينيه، رمى ببصره عبر الأنحاء… يفكّر في السّير إلى أقرب مدينة تركها خلفه على بعد ساعتين؛ لإحضار “سيّارة الإصلاح” ، أو المضيّ إلى الأمام باتّجاه الطّريق جاهلا كمّ المسافة الفاصل بينه و بين أول مدينة على الطّريق، و لا خارطة للمنطقة بحوزته، جلس ساعة يقدّر و يقرأ الاحتمالات ثمّ قرر العودة، ألقى نظرة أخيرة على المحرّك … وهو يتفحّصها من جديد، سَرّه أن رآى سِلكا كهربائيا يبدو حديث القطع ولا علم له بكهرباء السّيّارات إلاّ اجتهادا: كيف لم أنتبه له بالأمس؟ لكُنتُ الآن بعيدا عن هذا المكان المقفر!… مدّ يده ترتعش فرحا، جَهِد كثيرا في الوصول إليه. وَصَلَه بآخَرٍ بجانبه، و فزِع إلى المفتاح يُـديره… دار المحرّك… تهلّل وجهه، تراقص قلبه فرحا، راح يقفز و يصيح سعادة … انطلق كالسّهم يلتفتُ لا يصدّق أنّ ذلك المكان الأجدب خلفه، و ماهي إلاّ لحظات وتصاعد دخان كثيف من مقدّمة السّيّارة… توقّـفَت… رفع الغطاء في هلِع، هاجمته سحابة كثيفة سوداء… خنقته… راح يسعل و يسعل… عاد إلى المحرّك يديره فأبى عليه، عاد يحني ظهره عليها حينا ويغيب تحتها حينا آخر وجبينه يتفصّد…خلع ملابسه كلّها إلاّ القميص التحتيّ و التّبّان حتّى توارت الشّمس وراء الأفق… عزم السير إلى الأمام إلى أقرب مدينة سيصادفها، والانطلاق إليها مع أشعّة الشّمس الأولى، حتّى يضمن عدم حلول الليل عليه قبل العثور على مكان آهل… رغم عزمه قضى مُعظم اللّيل يترصّد الْـتِماع ضوء في الأنحاء… أحكم غلق السّيّارة، انطلق لا يحمل غير قارورة ماء مرتديا بدلته السّوداء… يسير وبصره يمسح كلّ الاتّجاهات أملاً في رؤية معالم مدينة ما… ساعات و ساعات تحت أشعّة شمس الصّحراء على طريق مُهترى، متصدّع، مساحات الحفر عليه أكبر من مساحات ما سَلِم منه، مطموس الحوّاف كأنّه لم يستعمل منذ عقود… لا سيّارة تمرّ، لا سائحَ مُغْرم بتضاريس هذا الـمَفاز، لا أثر لبشر ، لا أكياس تتقاذفها الريح، لا نفايات تصنع الاستثناء على وجه المكان… يُـبلّل حلقه بشربة ماء، يصبُّ بعض الماء على رأسه و الحرّ يزداد ضراوة عليه، و أمل الْـتِقاط إشارة يرافقه، لا يغفل عن تفقُّد هاتفه… تراءت له هامة بيت تَـنْتَـصب من بعيد، بقربه شجرة تؤنسه، سارع الخُطى إليه يبتلع ريقه… بَلغَـهُ غير مصدّق عينيه… بيتٌ خرِب لا أهل له غير الصّمتِ و الوحشة، و طير وحيد على شجرة تُصارع الموت فرّ باقترابه منه… نفذت بطّارية هاتفه. التفتَ يريد طريق العودة من حيث جاء؛ لا أثر للطريق خلفه و لا أمامه، و لا على يمينه و لا على يساره… ضَـــــلّ طريق العودة إلى الطّريق لا يذكر أيّ اتّجاه قذف به إلى تلك الأطلال!… جلس يستظلّ تحت الشّجرة يلتقط أنفاسه، و ربَما انتعشتْ ذاكرته بالراّحة و نعيم الظّل، غفا تحتها فاغر الفيه، ذابل الهامة، و ما انتبه لنفسه إلاّ و قرص الشّمس يتوارى خلف خط الأفق… شرب ما بقي له من ماء، حَـمَل ثقل جسده ولا حيلة له و رأسه الأثقل إلى داخل البيت ليحتمي بما تَـبَـقَّى منه… تراودُهُ إغفاءة… يُحاول البقاء مستيقظا مُشرعاً جفنيه الـمُتعبَـين؛ لكنّ سلطان النّوم أقوى من رُهاب الحيّات الذي يلازمه منذ الصّبا…
أشرقتِ الشّمس تُـنْبؤه بيوم جديد… استفاق وألَـم فضيع ينخر رأسه، جوع غاشم يعتصره، نظر يمنة و يسرة يحاول تذكّر أيّ اتّجاه سيُعيده إلى ذات الطّريق… لَـفّ رأسه بسترته، سار على غير هدى يرجو صحّة مَسلكه، سار يسحبُ قدميه، و لا أثر للطّريق! جفّتْ شفاتاه، و تشقّقتا، رأسه يزداد صداعا، أفقده الجوع وضوح الرّؤية… و لَـكَم تراءت له صُور من صُـنْـع الوهم، فيهرع إليها… مشى، و مشى… تعثّـرَ، غاب عن الوعي، جنّ عليه اللّيل، و لم يشعر به… شعر بوخزة على أنفه، أفاق مع انبلاج الصّبح، و الشّمس شرعت في إرسال أوّل حرّها، بعد ليل بارد، حَكّ أنفه، التصقتْ رائحة النّمل على أصابعه، هبّ فزعا تهاجم ذاكرته صور العظام المتناثرة في الفيافي تَوَلّى النّملُ تنصيعها و تبييضها، بعد فتْك العطش، و الجوع بأصحابها تائهون مِن الأفلام، و الأشرطة الوثائقية، و حتّى الرّسوم المتحرّكة… اقتنصتْ عيناه سوادا يقف بعيدا بعيدا على يمينه، سار إليه يتعثّر بالحصى، يمشي تارة و يحبو أخرى، يجرّ جثّته المكدودة، و لم تشفع لها ضخامتها، و لا فراعة طولها، بالصمود أمام لفح الشّمس و وصب المشْي… على بعد عشرات الأمتار منه تَـبَيّنَـه؛ لَـم تكن سوى سيّارته، رغم الخيبةِ، والنُّــصْـبِ سعد جدا بالعودة إليها و لولا الخَوَر لقفز احتفالا بها… ارتمى في حضنها الرّحيم،وهو يعلم أنّه ربّما هو مُصاب بضربة شمس؛ شرب القليل من الماء، بلّل جسمه، خلد للنّوم. انقضتْ ليلة أخرى له في التّــيه أسيرٌ و السّجنُ مُطلَقُ االحدود، يحاصره الفراغ… استيقظ تناول القليل من الطّعام، عالج شقوق شفتيه، و كدمات ركَبتيه و كفّيه من أثر العثرات، و ندوب، بدّل ملابسه، تتقاذفه عديد التّساؤلات… ربّما السّيارة المكان الأكثر أمانا للحصول على النّجدة!… ربّما هذه هي نهايتي!… الطريق الذي ساقني إلى هذا المكان سيسوق غيري إليه، و ما عليّ إلاّ بالصّبر!… زادي لن يكفي لليلة أخرى!… هل أنا على الأرض أو خارجها؟… هل سأموت هنا؟… جُبتُ أجمل الأماكن و نهايتي وسط هذا القفار؟… هل ستعلم عائلتي؟… ترقرقتْ عيناه بالدّمع، مَــرَّ بخاطره صورة ابنه ذي الثّلاثة أعوام يناديه بابا! و زوجته تفتح له الباب باسمة، تمسك عنه حقيبته، و تخلغ عنه معطفه… قال بصوت أجشّ: يا حبيبي يا ولدي!، يا حبيبتي يا أمّ ولدي!، أحبّكما!… رحمك الله يا أبي! و رحمك الله يا أمّي! أُقِـــرّ أنّي لم أكن كما اشتهيتها إلاّ قليلا، و لم أرضكما بالقدر المطلوب، فهل من دعوة ادَخَـرْتُـماها لي لمثل هذه السّاعة؟… و راح يذكر أهله الواحد تلو الآخر، ثمّ أصدقاءه واحدا واحدا… بكى بحُرقة… تذكّر هؤلاء الذين يدينون له بالمال، و تماطلَ في ردّه إليهم، تذكّر من له خصومة معهم… سامحتكم جميعا! فسامحوني!… رفع رأسه يُـناوِشُه نَدمٌ… نَظر إلى ذلك الوجه المقابل له في المرآة بعبوس و عدم الرّضا، تحسّس تراجُعَ شعرٍه، تأمّل لهيبَ الشّيب الذي الْـتَهم سواد نوظريه، آلـمَه تذكّر هَجرِه لصديقه الذي قطع صلته به منذ أكثر من خمس سنوات رغم محاولات هذا الأخير المتكرّرة في مختلف المناسبات بالوصل مجدّدا… بادرّهُ صوتُ اعتراض: صهٍ! هو من سعى إلى خُصومتك!…انتفضَ: أمازلتِ تتحجّجين و تًكابرين يا مُهلكتي؟ انظري حولك فماذا ترين!؟… بل أنا من صنع للخصام أسبابا لفكّ الشّراكة التي بيننا حين ارتفعت مداخيل المصنع!… لو أنّ الله يكتب لي في العمر بقيّة لأُقَــبِّلنَّ رأسه، و لأهدِيّنَّــه هديّــة بحجم سعادتي بالعودة إلى الدِّيار!… عاد الصّوتُ يعترض: و هل سيُقدِّر هو ، و يَــــــ.. ـ صاح مُـمْسكا برأسه بين كفّيه: اصمتيِ مُهلكتي! لو لم أتّبعكِ، لكنتُ الآن بين أهلي؛ لو لم أتّبعكِ و راهنتُ على شرف نَسَبِـي، و عدم صدق ما أخبرني به ذلك الحقير عن جدّي… فأثناء جلسة عمليّة جمعته بشريكه في مشروع جديد، أخبره عن أبيه عن جدّه أنّ أصله من منطقة كذا، و ينحدر من أولاد فلان، و هؤلاء في عَيْن أمثاله دُوَنٌ، ما عمِلوا غير خُدّام على مَـرّ الزّمان؛ حَــدَّ أن صاروا مرادفا للهَمج، و السّمج، و الغِلظة، و أنّ شجرة العائلة ما زالت محفوظة في بيت فلان يسكنُ ذات المنطقة… تذكَر والده الذي قضى حياته ساقيا في مقهى الحيّ، و والدته قابلة نساء الحي ما جعله يقضى حياته يستحي بنسبه إليهما، فاستشاط غضبا، أخذته العزّة بمكانتـه، فتحدّاه لإثبات براءة نسبه ممّا إدّعاه عليه شريكه… عاد يحادث المرآة بلا صوت: فلا أنا عرفت مِن أين أنا؟ و لا أين أنا الآن؟، و أشعر بنهايتي قد دنتْ في هذا المكان الذي أظنّه إلاّ قطعة من كوكب الـزُّهرة؛ لا شيء غير الـحَصى على مدّ البصر… مَـنفيٌّ أنا بـِجُـرْم عِنادي! وحيد هنا يترصّدني الموت… لا فرق بين القبر و هذا المكان! ميّتٌ أنا هنا لا محالة!… ربّي إنّي سامحتُ كلّ من آذاني، و أدعوك لتُلقيَ في قلوب من آذيتُهم مُسامحتي!… ربّي إنّ في قلبي كلاما حارّا مَــكِّــنِّي مِن إيصاله لمن أنتَ بهم أعلم… و انخرط في بكاء مُرّ عريض… تناول حجرا، تيمّم و حمد الله أنّه مازال يحفظ درس التّيمّم، و بعضا مِن قِصار السّور، صلّى ركعتين يُـعلن توبته، يُـقرّ بتقصيره، أطال السّجود و الرّكوع، جلس يدعو زمنا، حتّى تزحزحت صخرة كانت على صدره تحجبُ انشراحَه… تناول آخر الزّاد، شرب آخر جرعة من الماء، تشهّد، و استسلم للنّوم و أمل مرور سيّارة على ذات الطّريق ماضٍ في الخفوت.
استيقظ بحال أحسن؛ صُوفيا مُـوَّحِـدا نأى بنفسه عن النّاس، يمارس طقوسه، و ثقتُـه باللّه أكبر بتدبير أمره… ترجل من السّيارة ليقضي حاجته، دار حول السّارة يُلقى نظرة بائسة يائسة على المكان لعلّه يبصر جديدا على وجهه المبسوط أينما مُدَّ البصر… ركب السّيارة، تَكوّر في الخلف، لا شيء يهيمن على أفكاره غير شريط حياته منذ طفولته إلى الساعة التي عزم فيها السّفر… لـمّا اشتدّ به الجوع راح يفتّش أدراج السّيارة، و تجاويفها، فوجد علبة شوكولا “رُوش” انزلقتْ إلى تحت المقعد كان قد اشتراها لابنه و نسي إعطاءها له منذ أكثر من أسبوع، اقتات عليها ليومين آخرين… و هو ممدّد في آخر السّيارة كخرقة بالية آيس من قُدوم الدّعم لا يقوى على تحريك أطرافه فتك به الجوع، و العطش، و وقفَ على باب الهلاك، و عاد يسمع أصواتا من وهمه، يهذي، يرى صورا من هلوسته… سمع هدير شاحنة يقترب شيئا فشيئا، لم يكترث له، و لـمّا دنا منه؛ انتصب قاعدا، نظر إلى خلف السّيارة، خرج منها مسرعا يلوّح بكلتا يديه، كأن لم يصبه أذى قط، فَـرْحتُـه أكبر من قدرة تعبيره… توقّفتِ الشّاحنة… تعاظمت فرحته! ما أجمل شعوره بالعودة إلى الحياة! ما أعظم ذلك الاحساس بوجود بشر بقربه!… روى على الرّجلين صاحِــبَـيْها قصّته طالبا منهما مرافقتهما للحصول على “سيّارة إصلاح” و هما يصغيان إليه في صمت، و نظراتهما إلى بعضهما التّي تخلّلت حديثه جعلته يتوجّس منهم خيفة، رابه عدم اكتراثهما لمأساته، عبر جسده موجة برد، تسارع نبضه، كأنّ الحظّ الذي مَدّ له أذرعَه، عدَل عن قراره، ويُـبْدي تراجعا… قال أحدهما: لا!، بل عليك ملازمة سيّارتك، و سنرسل إليك بالعون، على أن تُعطينا أجرة العون مُسبقا، فلن يقبل بالـمجيئي؛ و هذه منطقة نُسِجت حولها أساطير كثيرة مُرعبة، منها أنّـها أرض الجن، و منهم من يقول أنّـها أرض ملعونة، و أقرب مدينة تقع على بعد أربعة ساعات بأقصى سرعة لسيارتك هذه… أمّا مرورنا نحن على هذه الطّريق، فمرّة كل أسبوعين اختصارا للوقت، و المسافة لأنّنا من أهلها و أدرى بشعابها… أطرقَ متسائلا: و ما الثّراء مقابل الحياة؟ و إن بلغ احتمال صِدقهما واحد من مليون سأقبل بعرضهما… ثمّ قال بعد أن سحب نفسا عميقا، ثم زفر: و كم تريدان؟ ردّا في آن واحد: و كم تملك أنتَ؟ اعطنا ما عندكَ ، و سنرى إن كان كافيا!… أعطاهما ما يكفي لقضاء أسبوع في فندق فخم. أضافا: زِدْ! ستنفعك الزيّادة و لن تضرّك… أخرج الهاتف من جيبه، خلع ساعته، و خاتمه الذّهبيين، ثمّ أضاف قلما فِضيّا و قال: و هل هذا يكفي؟… قالا و قد تناغم صوتاهما: ربّما!… زوّداه بقليل من الماء و الطّعام، و انطلقا، و هو خلفهما يغطّي معظم وجهه شعر لحيته، ينظر بعين واحدة، و الأخرى تورّمت من قذى أصابَـها، منكسر النّفس، حزين الأسارير، أشعث أغبر، حتّى توارت الشّاحنة… تمدّد على المقعد الخلفي كأنّ ما دار بينه و بين الرّجلين محض حلم لا يعرف أشرّ هو ؟ أم عليه أن يتفاءل خيرا… مكرها فعل، و لا خيار له، فلو طلبوا منه السّيارة مقابل أخذه إلى المدينة لأعطاهما إيّاها، و ما كان له أن يرفض… تاهَ عبْر الزّمن كما عبْر المكان… لا ساعة تُحدّد له الوقت!، لا معلم يهتدي به… ينظر إلى الشّمس يحاول استقراء الوقت حتى خيم الظّلام على المكان… خابتْ ذرّة الأمل تلك التي حمل نفسه على تصديقها، و نفسه تحدّثه: مجردّ محتالين تعوّدا اصطياد طرائدهما على هذا الطّريق… تناول طعامه، شرب ماءه، نام يرجو انسياب صوت يقاطع صفير الصّمت في أذنيه، و مضت ليال ثلاث أخرى في العراء… أيقظه طرق أحدهم على زجاج النّافذة و الوقت فجر لم تتضح معالم المكان تماما بعد… أمسك برأسه بين يديه، مسح بكفيه على وجهه، لا يعرف إن كان الأمر حقيقة أم هلوسة! نظر إلى الرّجل الذي مازال يطرق عليه الزّجاج، و نور البدر يُـجلي التفاصيل إلاّ قليلا… مدّ يده في بطء شديد، فتح الباب بصعوبة، بادَره الرّجل هل أنت من أرسل في طلب “سيارة الإصلاح”؟… ردّ متقطّع الحروف بصوت خفيض لا يكاد يُـبين: بَــــ لَـــــــ ى! و هزّ رأسه قليلا. أسعفه بأولى الإسعافات، قَطَر السّيّارة… انطلق به يقود بجنون يخشى فقدانه، طُوِيّت طريق الرّحلة سريعا، و ما استغرق غير ساعة عبر طريق مختصر آخر مباشرة نحو بيته. في صباح اليوم الموالي راح يُـحدّثه كيف تَلقّى مكالمة في ساعة متأخّرة من الليل عن وجود شخص يحتاج إلى نجدة على ذلك الطّريق الذي لَم يعد مستعملا منذ أمد، فقرّر إلاّ أن يُلبي رغم كثرة البلاغات الكاذبة التي ترِدُه يوميا، و خطورة السّياقة على ذلك الطّريق ليلا، و أنّه ذو حظّ عظيم أن صادفتْ رحلته فصل الرّبيع، و إلاّ لكان إمّا أهلكه البرد، أو أفناه الحرّ، فيما كان يومئ له برأسه إماءات فاترة بين الحين و الآخر، لا يصدّق أنّه نجى من الموت، و ليس غير صورته يحتضن إبنه و زوجه تحتكر خياله… أصلحَ له العطب الذي أصاب السّيارة، و رفض أن يتقاضى أجرا مقابل صنيعه، أكرمه بالطّعام و المبيت، عالجه، و لم يسمح له بالمغادرة حتى تعافى تماما، و زالت آثار ما لحق به… و بينما الرّجل يُطوّقه بذراعيه الحانيتين، و يصافحه بكثير من الودّ، تذكّر السّبب الذي خرج من أجله، فسأله ما الذي يعرفه عن “أولاد فلان”، و مدى صحّة ما يتناقل النّاس عنهم من قصص؟ قال: صحيح! و أنا منهم، و فخر لي أن أكون خادما لأهل الخدمة، و قاضيا لحوائج الضّعفاء! هزّ رأسه و ابتسم ابتسامة مُواربة، و شَـقَّ الرّيـح متّجها شمالا إلى بيته ، و قد أقسم أن لن يسْلكَ طريقا مختصرا ما حَـيِـيَ!. وصل عصرا إلى أهله؛ ابنه، و زوجُه؛ُ آخر زوجاته بعد أربعة زيجات انتهتْ بالطّلاق لعدم انجابهن، فما رُزق من إحداهن بولد إلاّ مِن هذه الأخيرة بعد علاج ضُعفهِ خارج الوطن. فتحتِ الباب في لهفة، نظرت إليه باستغراب لا يمكنها الجزم أنّه هو؛ فَقَدَ وزنه الزائد، زالتْ كِرشه، سَـــمُــرَ أديـمُه، و ازداد وَسامة… روى عليها ما مرّ به خلال فترة غيابه، تسعة أيّام على أرض التّيه، و خمسة في بيت مُــنقذه، و كيف كان يشتهي شربة ماء باردة بالنّهار، و حساء ساخنا باللّيل، و هي التي كانت تظنّها إحدى أسفاره المفاجئة التي تعوّدتها في البداية، إلاّ أن انقطاع هاتفه عنها أثار قلقها و حيرتها، فاعتزمت إبلاغ الشرطة عن اختفائه اليومَ الموالي لعودته لو لم يظهر.
تريّث يومين يستمتع بنعمة عودته إلى عائلته، ثمّ توجّهَ صباحا إلى مصنعه و هو يشعر بجمال الأشياء حوله، و بروعة الميلاد من جديد، لا يذكر كيف كانت لحظة ميلاده، لكن ما هو مؤكّد عنده أن هذه اللّحظات أجمل!. في زحمة الطّريق ارتمى طفل على سيّارته يمسحها و يلمّعها… بسط له الولد يده، فقال له: ليس معي قِطَعا!… دخل المصنع و أخذ يراقب وصول العمّال حتّى آخرهم إلاّ واحدا وصل متأخّرا ساعةً، دخل يلهث شاحبا يتصبّب عرقا حُجّته صعوبة المواصلات و زحمتها، ممّا اضطرّه إلى النّزول من الحافلة و مواصلة طريقه نحو المصنع عَدْواً، فَــرَدَّ يَبْـرُدُ ظُفْرَ سبّابته بالـمِبْـرَد: كان عليك أن تُبْكِـرَ أكثر!، مَـخصوم نصف يوم من راتبكِ!…
دخل مكتبه الباذخ الرّفاه و التّرف، وقف وسطه، دار حول نفسه دورة يرفع رأسه يبتسم لديكوره الفاخر… ألقى نظرة فاحصة عبر نافذته على المساحة الخلفيّة للمصنع يتفقّد البُستانيَّ حيث ساحة استقبال الزّبائن على الهواء الطّلق بين النّباتات النّادرة، و الأزهار البديعة الألوان و الأشكال… فتح الزِرَّين العُلويين لقميصه، تحسّس بِـيده أثر كرشه التي كانت تُسبّب له الحرج، مسح على ذقنه الحليق، اتّكأ على طرف المكتب طلب حضور أمينته العامّة التّى كان لها الفضل الأكبر في إنجاح مشروعاته، و الـمُضيِّ به قُدُما، أخبروه أنَّـها غائبة منذ أسبوع تلازم والدتها في المستشفى بعد إصابتها بشلل نصفي بارتفاع ضغطها المفاجئ إثر تلقّي خَبر اغتيال ابنها في أرض الغربة… ابتسم في وجه تلك التي أتته بالخبر، دنا منها حتى كاد يلتصق بها، فيما انسابت يده على ذِراعها في رفق… همس في أذنها: أخبري الغائبة أنّها مفصولة!.
* قاصة من الجزائر
َ