أحلم بوزير ثقافة يجعل من مهمة تبديد مخاوف مواطنه الباحث عن أمن غير مطعون في الظهر، مسألة بحجم يوم استقلال.. الاستقلال من الطمأنينة المشبوهة..
يأتي هذا المقال كلملمة لذلك “النقاش” الذي دار في الجزائر مؤخرا حول ما وضعه البعض، تحت عنوان؛ “حرب البيانات”.. والأمر هنا يتعلق بكتابات صدرت عن مثقفين جزائريين واستهدفت (نقدا أو إشادة أو ما بين هذا وذاك) سياسة وزير الثقافة الجزائري «عز الدين ميهوبي».
لاقتناعي بأن ما جرى كان أبسط من أن يصل إلى مستوى هذا التعبير المجازي (حرب)؛ فأنا أضعه تحت عنوان “نقاش ساخن”. لكن بالمقابل فقد يبدو هذا النقاش أعقد قليلا (كما يقول البعض) من مجرد إرهاصات لفكرة تأسيسية آخذة في التشكل، تتجاذبها جماعات ثقافية محيطة برأس مال رمزي ثابت المعنى في ذهن كل طرف، فإن كان أحد هذه الأطراف (وهذا ما أقوله أنا) يريد أن يستأثر باستعمال هذا الرمز المفترض من أجل شرعيات يراها مكسبا سياسيا أو ثقافيا له، ساعتها يمكن القول أن التجاذب بلغ حدا “لا يُسكت عنه”؛ هنا يمكن الاستنجاد بأي تعبير غير هذا المتوفر حاليا؛ “حرب” بـ(المعنى المجازي دائما).
ومادامت الأمور (عمليا) أقل خطورة مما يرى المتحمسون وأكثر تعقيدا مما يرى ذوو الأعصاب المبالغ في برودتها؛ فلنتفقْ أن هذا الـ(نقاش الساخن)، جرى على مائدة زاخرة بالأطروحات المختلفة جذريا، والعاكسة للقدرة على الوعي براهنية وأصالة(Originality) كل طرح.
وحتى لا أنساق في مقدمة لا نهاية لها، اسمحوا لي أن أضع عنوانا شيقا للقضية التي أنوي الخوض فيها، وليكن:
“مواطن، شاعر ووزير …”
الشبهة تكمن في صفة الشاعر..
بالعودة إلى أرشيف يوم 07 ماي 2016، نجد في الأدراج بيانا صدر عن الشاعر «علي مغازي» – كـ”مواطن”، وهي الصفة التي لا يليق القفز عليها (باعتبارها عماد وجود الدولة والنظام؛ أي نظام كان وفي كل وقت)- .. افتتح به هذا الأخير (المواطن) فكرة تستهدف وزير الثقافة، جاءت كطرح يلخص مخاوفه بشأن “الأمن الثقافي الوطني”. وأنهى (المواطن) بيانه بنقاط رأى أنها تبرر مطالبته برحيل الوزير واستبداله بآخر قادر على خوض رهانات البلاد (من وجهة نظره طبعا). ومهما بدت هذه الفكرة جريئة إلا أن صاحبها رفع اللبس عنها من البداية بتوقيعها استنادا لمادة في الدستور الجزائري تعطي للمواطن الحق في التعبير عن آرائه النقدية حتى وإن تقصّدت هذه الآراء وزيرا.. بل حتى وإن كان هذا الوزير نفسه شاعرا.
من الواضح أن العلاقة بين طرفي هذه الثنائية (مواطن – وزير)، هي من التجريد بحيث تضمن لكل نقاش أن يكون متوازنا وعادلا. لكن إقحام صفة (الشاعر) التي يشترك فيها كل من الوزير «عز الدين ميهوبي» والموطن «علي مغازي»، هي ما أضفى طابع الضبابية والعاطفية.. وفتح المجال لخلط أوراق اللعب.
وحدث فيما بعد أن صدر رد على بيان المواطن؛ وقبل أن نتناول هذا الرد، علينا أن نفرز الأوراق مرة أخرى، متحاشين ما يخلق الشبهة دائما، أي صفة (الشاعر). لنقول بكل تجريد؛ إن كلا من الصحفي «عادل صياد» وكذا الموظف السابق بوزارة الثقافة السيد «بوزيد حرز الله»، قد وقعا بيانا بعنوان: “كلام في غير محله”.. حاولا من خلاله جعل بيان (المواطن) هامشيا ولا قيمة له.. ومع توالي التعليقات على صفحتي «حرز الله» و«صياد»، بموقع الفيس بوك تم تعويم النقاش وتحويل وجهته.
لكن رغم ذلك، سأعتبر هذا البيان (الثاني) مجرد “وجهة نظر” تستظل بقناعات معينة أو تريد أن تبدو كذلك”.
وفي سياق فرز الأوراق نلاحظ أن الإرباك الذي أوجده بيان “المواطن” بطرح مسألة سياسة الوزير وعلاقتها بالأمن الثقافي الوطني، دفع الوزير «ميهوبي» إلى إعلان سياسة وزارته بشأن ضبط “قائمة المهرجانات الثقافية المعتمدة في الجزائر”. لقد جاء رده بعد أسبوع من بيان صاحبنا “المواطن”، مما يدفع للاعتقاد بأنها حركة لا تبدو إلا جوابا مرتبكا عن البيان المتسائل عن سياسة الدولة الجزائرية في مسألة “أمنها الثقافي الوطني” المطلوب الإفصاح عنها عبر وزيرها الحالي السيد «ميهوبي» بعد عام من توليه منصب وزير الثقافة.
البيان الثالث وقعه الروائي والصحفي السيد مفتي بشير، وجاء كدعوة للمثقف الجزائري لصياغة مشاريع ثقافية تستوضح (مكامن الخلل) على حد قول «مفتي»، في السياسة الثقافية الجزائرية، ودعا «مفتي» إلى روح التعقل والنقد البناء والابتعاد عن الشخصنة والجهوية وكل ما من شأنه أن يشين لتأسيس حياة ثقافية جزائرية لها تقاليد ومراجع.
ومن محصلة ما تابعت في هذه القضية؛ أوجه رسالتي بالدرجة الأولى إلى كل المثقفين والسياسيين على اختلاف مشاربهم ورؤاهم حول مسألة أصبح السكوت عنها موقفا سلبيا من التاريخ والجغرافيا الوطنية، بكل ما تحمل هاتين الكلمتين من ثقل، محاولا فتح نقاش حول غياب سياسة ثقافية في الجزائر والتي باتت مسألة حارقة في الوقت الراهن، ولم أقل جديدا إذا اعتبرت أن الانزلاق السياسي في العشرية السوداء كان بشكل صريح ومباشر بسبب كف “المؤسسة” عن ضخ خطاب “السلطة” مما أنتج عنه فترة فراغ سياسي مهول في الثمانينات، أو لنسمي الأشياء بمصطلحات النقاش الدائر حول “الأمن الثقافي الوطني”، فنقول لم يكن فراغا سياسيا في الحقيقة بل كان اختراقا ثقافيا شاملا، بدأ بالخطاب الديني مؤديا إلى صدام فعلي تجلى في سنوات من الدم. ورغم الجهد الأسطوري الذي بدأ في شكل مشروع وئام مدني ومصالحة وطنية ما فتئت ثماره أن تظهر للعيان بعد سنوات.. إلا أن هناك جبهات أخرى كان على “المؤسسة” أن تضخ فيها خطابها التصويبي بتغليب “النمط الثقافي الوطني” أولا وأخيرا، لكنها لم تفعل. وهكذا بات من غير الممكن صناعة وتسويق “النماذج الثقافية” عبر كل وسائل توصيل الخطاب من المدرسة إلى القراءة العمومية إلى العمل الثقافي المثمر.
مهمة الوزير..
، ليس للانتقاد ولكن لتوضيح بعض النقاط المفصلية التي لا يمكن القفز عليها من الآن فصاعدا كمطلب تفرضه المرحلة العالمية، أستعير عبارة من البيان الثقافي الثاني للشاعرين (صاد وحرز الله) منقولة حرفيا: “كما لو كانت مهمّةُ وزير الثقافة، دعمَ جمعية «الكلمة»، وتبديدَ مخاوف الشاعر «علي مغازي» على مصير الثقافة الوطنية”.
حقا ماذا يمكن أن تكون مهمة وزير ثقافة في التاريخ وفي أي دولة وفي كل وقت إن لم تكن طمأنة “المواطن” تحديدا وليس شيئا آخر، ودعم المجتمع الثقافي في شكل الجمعية أو المؤسسة الثقافية.
إن التخبط والمماحكات اليومية عبر شبكات التواصل الاجتماعي حول المرجعيات الدينية وعمودية الخليل وتحرير النصوص والدعوة إلى «الحايك» الجزائري ما هو إلا نتيجة حتمية لهزات التعنيف المستمر عبر “خطاب تشويشي” يخترق “الخطاب الثقافي الوطني” على جميع الأصعدة، وكذا تغييب خطاب “النمط الجزائري” لصالح “نمط تشويشي” يهدف إلى التشويه وخلق فوضى في الدال السوسيوثقافي، شاملا كل أبعاد الإنسان الجزائري.
إذن فمهمة وزير الثقافة أجابتنا كل يوم وكل لحظة عن الحالة الصحية لـ(الزمري الجزائري) على كل المستويات، ويبين لنا خططه التي ترعى الدال السوسيوثقافي بدءا من عودة الفرن بـ”الكسرة” الجزائرية في المحلات على حساب خبز الجنود السائد بعد 1856 في صفته الحالية، وانتهاء بقدرة “الرمزي الجزائري” على العالمية ومشاركة الآخر في إنتاج التاريخ.
إن “الأمن الثقافي الوطني” هو حالة إنجاز ونقد وتداول دائم “للنمط المحلي” بجعله ميزة الحوار الدائمة مع الآخر؛ كافيا وواضح المعالم في ذهن كل ممارس للمواطنة.
لهذا.. ولأسباب أخرى لم تستطع الجزائر أن تجعل من تراثها الثقافي مادة استهلاك مصاغة في شتى الفنون لتسهيل استهلاكه من قبل الجماعات الثقافية.
ولهذا أيضا بودي أن أقدم مجموعة من الأسئلة لا أريد إجابة عنها (في شكل رد فعل)، ولكن ليعلم وزير الثقافة الحالي والقادم مقياس انجاز سياسة ثقافية.
الأسئلة العشر..
- كم هي عدد المؤتمرات المبرمجة سنويا بين وزارة الثقافة، ووزارة التعليم العالي العاملة على جزأرة الدرس الجامعي..؟
2. كم هي عدد المؤتمرات والبرامج السنوية بين وزارة الثقافة، وكذا وزارة التربية الوطنية المدافعة عن مشروع مدرسة جزائرية حديثة والمشتغلة على مشاكل القطاع بغض النظر عن كل الحيثيات الأخرى ومواقف هذه الجهة أو تلك..
3. كم عدد الوثائق التراثية الخاصة بالمراجع الكبرى للمذهب الديني السائد في الجزائر التي تقترحها وزارة الثقافة على وزارة الشؤون الدينية في جهدها ومشروع وزيرها التاريخي المتمثل في تصحيح المرجعية الدينية ببلادنا وتنظيفها من اختراقات مذهبية غريبة عن المجتمع..؟
4. كم هو عدد المؤتمرات والرسائل الموجهة للبرلمان من وزارة الثقافة لصياغة قانون يحول المخطوط الجزائري إلى ثروة وطنية تجعل الجرم في حقه تعديا مباشرا على السيادة الوطنية..؟
5. ما هي استراتيجية وزارة الثقافة لإنعاش المكتبة الوطنية الجزائرية؛ تلك المؤسسة التي كنتم على رأسها.. وما هي استراتيجيتكم لإحياء ذلك المشروع التاريخي المسمى “مكتبة لكل بلدية”..؟
- هل تم تقييم التظاهرات الثقافية الكبرى “قسنطينة عاصمة الثقافة نموذجا”، تقييما علميا لعرضه أمام الرأي العام..؟
7. ما هي الأسس والمقاييس والضوابط الموضوعية التي اعتمدتموها في تنفيذ مشاريع وزارتكم في ظل تطبيق ما أسميتموه “سياسة ترشيد النفقات”، وهي السياسة التي من حق أي فاعل ثقافي الاطلاع عليها..؟
8. أين مشروع “رقمنة الرصيد الثقافي الوطني” الذي سبق وأن شُكلت من أجله لجنة مركزية على مستوى الوزارة (ضمن مجموعة لجان أخرى للمشاريع الكبرى).
- 9. ما هي استراتيجية الوزارة في إطلاق سراح مئات المسرحيات المنتجة من طرف المسرح الوطني والتي كان التلفزيون الجزائري قد صورها، وصُرفت من أجلها مئات الملايير ومئات من ساعات العمل..؟
- أين وصل مشروع “المرصد الوطني للكتاب” وماذا عن “المعهد العربي للترجمة”..؟
كل هذه الأسئلة وأخرى تغيب عني – والتي أضم فيها خوفي إلى خوف “المواطن” في بيانه – أعتبرها فاتحة لنقاش يراكم لوضع لبنة سياسة ثقافية في الجزائر.. وهكذا فليس لي إلا أن أحلم..
وسأظل أحلم..
أحلم أن تطلع شمس صباح ما – مهما كان بعيدا فلن يكون أقوى من صبري على انتظاري له – صباح يصدر فيه “مواطنا بيانا” يبدي فيه مخاوفه عن “أمنه الثقافي الوطني”، وأحلم أن وزير الثقافة يعلن في ذلك الصباح عن طلب لقاء موسع بجيش من المستشارين في كل اختصاصات العلوم الإنسانية، مستدعيا المواطن أمام الجميع أو ربما في البرلمان لتبديد تلك المخاوف، جاعلا من طمأنة مواطنه الخائف مسألة وطنية بحجم يوم استقلال، استقلال مواطن من الطمأنينة المشبوهة والبحث عن أمن غير مطعون في الظهر.
لأجل هذا وأكثر ستظل هذه الأسئلة وأخرى توضح بدقة بعد معاليه عن طرح سياسة ثقافية في الجزائر.
* شاعر وناقد من الجزائر