ليس الحزن ما يجعلك إستثنائيا
بل دفاعك الرائع عن معنى الحياة.
الشاعر الصديق زاهي وهبي
كانت عشية ممطرة و مكفهرة من أواخر شهر أفريل(1992) و بالتحديد في ثالث يوم بعد وفاة نادية قندوز، كان الكل حاضر و لا ترى غير حبات الدموع التي تتقاسمها عيونهم الحزنى و ترى ظلال تتماوج، تروح و تأتي في حركة دءوب تتراءى في كل مكان من الطابق الأرضي الى سلالم العمارة و في داخل شقة المرحومة،لرجال و نساء، لكبار و صغار إمتلئت بهم تلك الشقة الكائنة بحي ميسوني العتيق الذي إستيقظ للتو على صباح مزدحم من غير العادة.
“أنظري،لم يسبق لي أن رأيتها من قبل عند “طاطا نادية”. من تراها تكون؟أومأت إحدى الجارات الى الأخرى. على ما يبدو أنهن يعرفن كل أصدقاء و زوّار المرحومة.لا شيء يخفى عنهن كما يبدو من ترحابهن قالت إحداهما موجهة لي الكلام :”تعالي يا ابنتي من هنا سأنادي أمال”.”إنها في غاية الحزن، أظن أن باستطاعتها استقبالك.” أردفت الأخرى.
لم يكن في إستطاعتنا أن نتحدث الى أمال إلا في حجرة الحمام فقد كان المكان الوحيد المتاح لكي يسمع الواحد منا الآخر أما عداه فكل الغرف كانت مملوءة عن آخرها بالمعزين.في هذا الحيز الصغير عرفنا و استمعنا الى أقرب و أحب الناس الى نادية قندوز و أكثرهم تأثرا برحيلها: أولادها أمال و كريم.كنتها نصيرة. ربيعة و عبد الكريم من الأصدقاء القدامى للمرحومة.السيدة بوزوينة ابنة خالها.كلهم بذلوا كل ما في وسعهم لإستذكار خصال المرحومة بكل حميمية و الكل إسترجع،آمالها، أفراحها في نوستاجيا ممزوجة بألم الفراق.
كانت أمال في الثلاثين.بدت جد مـتأثرة برحيل والدتها،مسحة من الحزن و الذهول إعتراها ضياع لا تزال مرتسمة على محياها في أعقاب الأحداث المتسارعة التي ألمت بالعائلة.و برغم هول ما حدث قالت لنا:”أتعرفون أن والدتي أطلقت إسم “أمال” على أول ديوان شعري لها صدر تزامنا مع ولادتي و رأت في ذلك فرحة ما بعدها فرحة،فهكذا مضت حياتي في عجقة فرح لا يوصف فقد ترعرعت بين تلك الفرحتين… لا أستطيع أن أصف لكم ما تمثله تلك المرأة بالنسبة لي،كل ما أستطيع قوله،أنها كانت امرأة استثنائية،كانت نبع يفيض عطاء لكل مريد للصداقة أو طالبا للعون.كانت ثابتة حتى خلال الـ 25 سنة التي عاشتها وحيدة بحكم طلاقها فهي لم تترك و لا اثر على محياها.كانت والدتي جميلة و تعشق الجمال.تصوروا أن في ذلك اليوم الذي توفيت فيه- كان يوم السبت- تزينت بزينة عروس ،كأنها أحست بدنو أجلها في الحياة.”
فجأة سكتت أمال عن الكلام المباح وامتلئت عيناها بالدموع لتترك المجال لتعبير حزين رأيناه و أحسسنا به مخطوط بين تلافيف الذكريات المخطوفة بصدمة الغياب المرير.
من جهته بدا كريم إبنها البكر،متماسكا و متحكما في زمام أحزانه،فخور بوالدته و هو يحدثنا عنها بحماسة و صبر قائلا:”بعيدا عن حرفتها ككاتبة ،عن كتاباتها و قراءتها الكثيرة.كانت والدتي ربة بيت ممتازة.مثل كل نساء القصبة كانت مليئة بالحياة و محبة للغير.كانت صريحة و مباشرة.لا تترد لحظة في توجيهنا،ناضلت من اجل التقدم و التثقف.كانت تحلم بجزائر مزدهرة،غير جزائر اليوم.و أظن أن صحتها أخذت في التدهور منذ أن تدهور حال الجزائر. لم تكن والدتي معارضة للنظام في حياتها بل كانت امرأة ثائرة،ضد اللاعدل و البؤس.في أعقاب أحداث أكتوبر 1988 تم حبسها لثلاثة أيام، دخولها السجن في تلك المرحلة دمرها و أقعدها. أتذكر اليوم الذي جاوؤا فيه لأخذها، كنا بصدد الاحتفال بخطوبة شقيقتي أمال،أتذكر أيضا ما قالته لأولئك الرجال الذين قرعوا باب بيتنا لأخذها.قالت لهم:” كان بإمكانكم أيها السادة الدخول و احتساء كأس شاي معنا” لكنهم لم يفعلوا و احتجزوها.لم تكن والدتي امرأة مؤذية لكنها لا تتردد في الدفاع عن مبادئها و أخلاقها،كانت امرأة سخية و مثابرة إلى آخر رمق من حياتها.”
حدثنا كريم عن عدة أمور تتعلق بوالدته،تجعلك تكن لها إحتراما كبيرا، كان كريم محبوب من أمه وكان سعيدا بما أخبرنا به عنها.
نصيرة تكون حرم كريم،حدثتنا هي ألأخرى عن المرحومة و عن السنوات السبع التي عاشتها معها تحت سقف بيت واحد.لم تخفي نصيرة إعجابها بوالدة زوجها التي تقول عنها:” كانت “مامي” إمرأة رائعة،منذ أن عرفتها دأبت على تلقيني كيف أحب الحياة، كيف أكون جميلة،كانت لا ترغب في رؤيتي مهملة نفسي و كانت مهتمة بمتابعة دراسة أطفالي و على هذا الأساس كانت صارمة مع الكل،عشت معها و تعلمت منها اشياء كثيرة فقد كانت لي بمثابة صديقة حميمة،لم تكن بيننا أسرار نخفيها عن بعض،بالعكس كنا نتقاسم حميمياتنا و كنت محظوظة بذلك فأغلب الكنّات لا تتلقى نفس المعاملة التي تلقيتها من والدة زوجي.كانت تعجبني كثيرا خاصة عندما أراها تساعد الآخرين،كانت مستعدة لأي تضحية و لذلك لن أعزي نفسي بفقدانها.”
نصحنا البعض بالتحدث الى السيدة بوزوينة و هي موظفة بوزارة الثقافة و الإتصال و تعتبر إبنة خال الراحلة نادية قندوز و كانت قريبة جدا منها . إقتربنا منها فحدثتنا قائلة:”لن أحدثكم عن شيء كثير لكن ببساطة كانت نادية نموذج للمرأة المثالية.لقد عانت في حياتها كثيرا و كنت دائما أراها قوية و شجاعة.كانت وحيدة كشجرة في مهب العواصف تصارع في صمت،بيد انه قبل وفاتها بحوالي ساعة سألتني مستفسرة عن مآل إحتجاز سي محمودي و حاولت معرفة هل تم إطلاق سراحه أم لا و لأنها كانت في غرفة الإنعاش لساعات فقد كانت منقطعة عما يدور في الخارج من أحداث و مع ذلك فقد كانت مهتمة بمعرفة ما يدور حولها بإختصار هناك اشياء عديدة تغيب حاليا عن الذاكرة لا يمكن إستحضارها في ضجيج هذه الأمسية الحزينة.
إقتربنا من الشاب عبد الكريم آيت واعلي، وهو شاعر لم يصدر له أي ديوان بعد عرف نادية قندوز عن طريق الصدفة قبل عشرة أعوام و من ذلك الوقت توطدت بينهما صداقة يحدثنا عنها قائلا:” لقد إعتبرتني مثل ولدها، تبنتني و دعمتني كثيرا، عرفتها على هامش إحدى الأمسيات الشعرية قبل عشرة أعوام و بقيت على إتصال بها، كنا نتقاسم هم الكلمة و كنت أزورها في بيتها مرارا، كنت أجدها صارمة،مع نفسها و مع الغير .كانت تحشر أنفها في كل شيء و كانت دائما وسيطة خير و لطالما قدمت يد المساعدة لكثير من الناس و كانت سعيدة و هي تفعل ذلك.صدقوني إنها امرأة كبيرة حتى أن جيرانها لا يتكلمون عنها إلا بخير.”
في هذه العشية الممطرة و المكفهرة إستمعنا مطولا لحكايات رائعة عن نادية قندوز، عن حبها و إخلاصها لمهنتها كـ”قابلة” مهنة لطالما إحترمتها بصدق جعلها تفرض إنضباطها على الغير في عيادة”الجليلة” التي كانت تعمل بها الكائنة بمقربة فندق الأوراسي. هذه المرة كلمتنا”ربيعة” عن علاقتها بالمرحومة و هي رفيقة العمل طيلة 20 سنة تقول عن المرحومة أنها كانت منضبطة في عملها و صعبة المراس لم تكن تتقبل مثلا أن ترى إحدى العاملات و هي بدون مأزر.لم يكن بمقدورنا تجاوز ما فرضته علينا من قواعد في عيادة كانت تمثل بالنسبة لها كل حياتها.لقد كانت ايضا بمثابة أم لكل ألأطفال الذين وقفت على ولادتهم بالعيادة كما تركت اثرها الطيب في نفسية كل المريضات الذين مروا من هنا .
تدق الساعة الثامنة مساءا و كأن كل شيء بدأ للتو، لا تسمع غير البكاء و التأسي و تذكر خصال المرحومة وإذاك تنبعث الآهات متقطعة. لقد كانت نادية قندوز لكل واحد عرفها بمثابة “الصديق الكبير” كلهم حضروا اليوم لجنازتها. شعراء و فنانون و حضر أيضا أناسا بسطاء جاؤوا لتوديعها الى مثواها الأخير.
Algérie Actualitéالتحقيق من إعداد سمية آيت محمد منشور في جريدة الجزائر الأحداث
عدد من 16 الى 22 أفريل 1992.
من هي نادية قندوز؟
من مواليد 26 فيفري1932 بالقصبة أين عاشت طفولتها.تخلت عن الدراسة و هي صغيرة بسبب أوضاع إجتماعية خاصة بأسرتها.دخلت المستشفى بسبب مرض عضال أصابها و هي في سن المراهقةو هناك إكتشفت حب المطالعة على سرير بمستشفى الدويرة. و مع ذلك بقي شغفها بالتعليم معلقا كحلم تحقق مع متابعتها لدروس بالمراسة في مجال التمريض. كانت في سن شبابها مداومة على المكتبات تنهل منها ما تسير من العلم لا سيما مكتبة”عبعوب” التي أسستها جمعية علماء المسلمين.
في سنة 1954 تنقلت للعلاج بإحدى المستشفيات بفرنسا و هناك إنخرطت في العمل السياسي ضمن فدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا و هناك سجنت لشهور بإحدى السجون الفرنسية بسبب نضالها.
و بإستقلال الجزائر إنخرطت نادية قندوز في الإتحاد العام للعمال الجزائريين و ناضلت من أجل ترقية عمل المرأة في الجزائر المستقلة.
صدر لها أعمال شعرية متتالية بدءا من ديوانها البكر الموسوم “أمال” الصادر سنة 1968 ثم ديوانها التالي الموسوم”الحبل” الصادر سنة 1974 و قد تم إعتماد بعضا من اشعارها في المقررات الدراسية بسبب بعدها الوطني و الجمالي.
كانت عضوة في إتحاد الكتاب الجزائريين.
شاركت في عديد الملتقيات و الفعاليات و ألأمسيات الشعرية منها و الثقافية و الفكرية.
أعتقلت يوم 29/ أكتوبر1988 مما شكل لها صدمة نفسية قوية.
آخر أعمالها الشعرية كانت كل من ديوان ” حالة حصار” و ديوان” صيف تحت الدبابات”
لا ندري لماذا غيبّت دواوينها الشعرية المفقودة و النادرة أصلا مع أنه تم إعادة إصدار العديد من الكتب و الدواوين الشعرية مؤخرا و كان بالإمكان تكريم هذه الشاعرة المجاهدة بإصدار الأعمال الكاملة لها عرفانا بنضالها و بما قدمته للمشهد الأدبي الجزائري طوال عقود من الزمن.
توفيت الشاعرة في شهر أفريل من سنة 1992.
من شعر نادية قندوز
1- أنـــا الصــرخة يــا أمــــاه…
( الى عصافيري)
شعر/ نادية قندوز
ترجمة/ محمد عاطف بريكي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يلفني هدوء
من كل جانب
لا صراخ و لا نداء
تؤثث الموسيقى لياليّ
فأنا الصرخة يا أماه
ليس مرغوب فيّ
هل لي في فنجان بن ـ من فضلك ـ
لا أحد يشكو من الجوع
هذه أول ليلة تمر، دون عصافيري
و دون عش
إنها الحرية المطلقة
الجزائر نافذة مشرّعة
على حفلة صاخبة
و تلك الأضواء النجمية المنثورة
على ساحل حسين داي
بينما عينيا مغمضتين
تلك الكوة ما عادت تسليني
حيطان بلا ضجيج
جدران بلا ضحكات
لا اثر لعصافير حول عنقي
و المجتمع ينأى عني بظهره
كأنني مصابة بالجذام
طرقت الأربعين
و بالكاد أصبحت أتحرك
تبا لهؤلاء الناس
فمن الصعب أن تكون امرأة في الجزائر
داويت جراحاتي بأقراص الدواء
إبتسمت بوجه مصقول
ضجت في كل يوم خميس
في النهاية عاقبتني مدرسة الحياة
و يتيم الحب ما فتئت تكبر
حيراته، ثوراته،صرخاته،
و كلها قد دونت فوق كراريس المدرسة.
حسين داي
04/04/1967
ــــــــــــــــــــــــــــ
القصيدة مأخوذة من ديوان الشاعرة نادية قندوز الموسوم”الحبل”LA CORDE
2- الإستقلال كما رأته نادية قندوز بين “البارحة و اليوم”
ترجمة : محمد عاطف بريكي
البارحة كنا نعيش الحرب
اليوم نحن نعيش الإستقلال
البارحة كان علينا ان نقتل
لكي يبقى الوطن حيا يرزق
اليوم لا بد لنا ان نشيّد
البارحة كان لزاما علينا ان نهدّم ونخرّب
اليوم لا بد لنا ان نبني
ان نكد و نعمل
فالعمل هو مفتاح نجاح الوطن
ان نعمل ليس من أجل توفير المال
لكن برؤية
رب العائلة الذي يبني بيته
والفاجعة تغمر قلبه
و الفلاح الذي يحرث حقله
البارحة كان يخيّم علينا الليل
اليوم إنبلج الفجر
كان علينا ان نتعاون
ان يعلّم الواحد منا أخاه
ما يجهل
من دون استعلاء او تكبر
بل يلقنه بملء قلبه
كيف يقرأ و يكتب
و يحسب
هذه ثماني سنوات من الحرب تصرّمت
لا يجب ان ننساها
البارحة كان يسوسنا الحقد و الخوف
و اليوم عرفنا معنى الحب
ثماني سنوات تصرمت
لا أحد فرّط في أخيه
كنا أشبه بسلسلة
ليس من معدن بل من أخوّة
لماذا لا نستمر على هذه الحال
و قد أصبحنا اليوم أحرارا
لقد أقسمنا بوطننا ” الجزائر”
أن نعمل
أن نتعاون
أن يحب بعضنا البعض
انه شيء يسير
لكن كم هو أمر جليل من أجل
ثورة.
*محمد عاطف بريكي / شاعر ومترجم جزائري
-