بوليميا الحكايا / قصة قصيرة / روابح الحاج *
بواسطة مسارب بتاريخ 8 أبريل, 2017 في 08:12 مساء | مصنفة في متعة النص | لا تعليقات عدد المشاهدات : 2318.

على ارتطام المرآة خطى بوجهه خطوة أولى نزف ملامح عجوز مشوﱠه بذاكرة معطوبة ومن هواء تلك اللحظة استرخى على زمن رطب أعدﱠ له ثغرا كاملا للشروق فقط ليروض ابتسامة مسافرة على عجل وعلى كامل طريق شفتيه ترك ضحكة صفراء.

وبينما هو يبحث عن باقي جسده خطى على مساحتها خطوة ثانية عملاقة كي يرى حقيقته بكل شجاعة كتمرين يومي يسعف به هوى النفس وشغفها ليسترجع بحنين فضيع سحر عمر مضى سريعا كومضة وآخر قادم من تأرقات ليلته السابقة أيقن من صباحه أنه قبضة من ريح فقط.

مبديا حيرة شديدة من تكرار نفسه في نهار مغلق ينتظره وبكل السأم والأوجاع مشى عليها سريعا لئلا تختنق من بخار تثاؤباته وصدأ أفكاره.

بالغالب يستيقظ ملوث بكثافة أدخنة قطارات رحلة كوابيسه التي لا تصل إلى أية محطة ولا يبرحها إلا بعد خطاب طويل مع المشط “واشتعل الرأس شيبا” إلى أن تأخذ منه كل صوره العابرة غرقها التام في عالم هلواساته اليومية.

لا يغيُر من عاداته وسلوكاته بثرثراته المتسارعة وانفعالاته الحادﱠة أمام مرآة “ماريو” التي نؤدي على خشبتها أدوارنا اليومية نحن نزلاء مستشفى الأمراض العقلية.

البارحة أمضى العجوز ليلة مرعبة فقط استمر في زعاق فضيع تحت طائلة تعذيب منهجي ومنظم رسمته مخيُلته كمعتقل “بسجن أبو غريب”.

فبرغم برودة الفصل والمرقد الشديدة إلا أنه قام بخلع كل ثيابه وأسند بجسده العاري إلى جدار الغرفة بعدما اعتلى كرسيُا مرتعبا مرتجفا متوهما أنه أعدُ وصلات كهربائية بكامل جسده وخيُل له أنه تمكٌن من شدُ جميع أطرافه بإحكام بأسلاك الدارة.

ظهر عليه خوف شديد وراح يعلي من نباحه مقلدا كلبا بوليسيا متوحشا محاكيا جميع حركاته وطرائقه في تحسُس جسده.

إشتدُ به بكاء مؤلم لحظة دخول رهط التفاحات الفاسدة اللواتي مارسن عليه كل الاكراهات الجنسية بتقنيات برنامج “سار” ، راح يخرج من حقيبته أسلحة جنسية من ملابس إباحية وإيرات بلاستيكية وفي مشهد مغاير أبدى مقاومة شرسة للتعذيب الجنسي والإغتصاب الذي يلاقيه فأكثر من الاستغفار والاتسعاذة من الشيطان بصوت عال ومرتجف.

في وحدة رهيبة سلُط على نفسه شتى وضعيات الاكراه الجنسي متقمصا أدوار التفاحات بين “ماشوشيست” و “ساديك” حتى التهم شبقهن الكامن بطقس “الفيتشيزم” واحدة بواحدة مناديا بأسمائهن في مراحل مباشرات جنسية جماعية إلى أن أدركن شهقتهن الجنسية تحت تصفيقات الحلزون العاشق  الذي باشر يأمره بالإستنماء بإيعاز الصعقة وعضات الكلب المؤلمة بحسب ما فهمته من ساعات البروفا التي أداها.

وقبيل غمضة مني تركته في وضع مخجل متأوُها لينام بجواري برائحته العطنة مكثرا من سب وشتم الأمريكان.

هو الآن لا يزال أمام المرآة يمارس هواياته بالتجوال بداخلها هاهو ذا يذرع شوارع نيويورك برفقة صديقه “ميلر” الذي إلتقاه بمدار الجدي ها هما يصلان إلى حانة شعبية والأصدقاء الإثني عشر بإنتظارهما.

أفسدت عون إدارة المصح مواصلة متابعاتي لفصول أدوار النزلاء الآخرين حين حضرت لمرافقته، فاليوم موعد تحيين نتائج اختبارات السلامة العقلية فقد نفذُت كامل حصص الفحوصات المضنية والمتعبة التي أشرف على مسايرتها فريق طبي متعدد الجنسيات مختص بإكتشاف حالات المصابين بأمراض عقلية وتمييزهم بين أولئك الذين يعانون إضطرابات نفسية بمساعدة وسائل تكنولوجية بالغة الدقة تمكنهم أيضا من استخلاص نتائج تصل إلى قياس مستويات الشخصية في حالة الكذب.

لقد وصلت إلى هذا المختبر السري الذي لا أعرف مكان تواجده أو أية هيئة أو منظمة تشرف على تسييُره إثر متابعات أمنية طالتني بالبقاع المقدسة مباشرة بعد حادثة “منى” فبعد عملية التحقيق تبين لهم أنني حاج بطريقة غير قانونية أفتقد إلى أية وثائق ثبوتية.

 وككاذب محترف يتقن الجنون تجهمت كل تحقيقاتهم وأدعيت إصابتي بمرض عقلي وبعد عجزهم في الوضول إلى أية نتائج تم اقتيادي إلى هذا المصح.

يبدو أن الصور والفيديوات التي شاهدتها أمس في آخر حصة فضحت أمري فالشخص الذي أحيطت صوره بدارة سوداء والتي تظهر متسوُل يجوب شوارع باريس وتحديدا مقطع الفيديو في الدقيقة والنصف الذي كنت أظهر فيه بالقرب من محيط مجلة “شارلي إبيدو” قبيل وقوع الهجوم بلحظات.

وبالرواق الطويل المفضي إلى قاعات الإختبارات السلوكية إفتعلت كل حركات الجنون التي احترفتها حين غادرت شخصيتي لما يزيد عن النصف قرن.

فصراع الإخوة الأعداء جعلني أختار خانة الظُل وأبقى بعيدا ووحيدا أجتر ذكريات العمل السري ضمن خلايا استخبارات الثورة الجزائرية ” المالق” التي تنشط بأوروبا.

لم يبقي مؤتمر طرابلس أية ثقة أو صلة بالرفاق فلبست جنونا بوهيميا أجوب مدن أوروبا، ولأن نداءا خفيُا ظلُ يصلني مؤخرا وأنا بأرذل العمر فأخترت إستجابة له سفرا أخيرا إلى حيث يرقد نبينا المختار علُ موتا كريما يدركني هناك.

وبمساعدة تاجر قذر من ضواحي مارسيليا ربطتني به تجارة فاسدة أيام الطيُش “دعارة، مخدرات، وأسلحة تغذي الحروب الأهلية بإفريقيا”.

تمكنت من الوصول إلى مكة المكرمة تزامنا مع موعد الحج بحسب إتفاقنا المسبق مع شبكة مختصة بالأسفار الغير شرعية وقد كلفني ذلك كل مدخراتي من عائدات التسوُل أما المال الفاسد فقد تبرعت به لفائدة جمعية خيرية غير حكومية تنشط بمسجد باريس الكبير.

لم أتمكن من إتمام خطواتي وقطع كامل المسافة الاعتيادية إلى أن باغتتني مجموعة نظامية مسلحة وملثُمة بقبعات “كاغارو” لا تبرز منها غير عيون حادة، اقتادوني بعنف إلى سيارة مصفحة وفلاشات التصوير تلفح كامل وجهي وجموع الصحافيين يغطُون على المباشر أحداث اعتقال إرهابي مفترض مشتبه به في أحداث “شارلي إيبدو”.

والآن بعد مضي ما يزيد عن عامين ها أنا ذا أعود بدون عقلي إلى نفس المكان أقف إلى المرآة نفسها أخطو عليها سريعا، ها أنا ذا لا ألحق بأصدقائي الذين خرجوا منها وغادروا المصح بصفة نهائية.

ها هي ذي “سكرتيرة الناتو” تسعف لهاثي وعطشي أعدُت لي قبلات حارقة نستند لفراش دافئ سرير يكفي لثلاث أشخاص.

أنام برائحة معطنة إلى جوار عشيقتي ووافد جديد أكثر من سب وشتم ” آل سدوم”.

فجأة وبغضب جزائري كسرت المرآة وخرجت منها وتركت له الحكايا حتى يتقيأها بدون مرآة. 

هوامش

   

*برنامج سار : خطة تعذيب تعتمد على الإكراهات الجنسية من إنتاج الإستخبارات الأمريكية.

*التفاحات الفاسدة: إسم مجموعة مسؤولات سجن أبو غريب المدانات.

*سكرتيرة الناتو: أهم صفقة للإستخبارات الجزائرية التي وفرت وسائل إتصال لجيش التحرير.

 

 /

* قاص من الجزائر 

اترك تعليقا