بين الصمت والارتكان إلى التأمل العميق في الحياة ،تشُقُّ الكاتبة “فضيلة بهيليل” لنفسها جدولاً صغيرا من نهر الإبداع الكبير، تارِكة إيَّاهُ ينساب بهدوء ودَعَةٍ،غير هيَّابٍ بالأعشاب الضَّارة أو المنحدرات الجبلية الصعبة، كاتبة وقاصة تشتغل في صمت ودَأَبٍ،غير حافِلةٍ بضجيج المدن الكبرى ،همُّها الأساسي هو “الكتابة” وحسب.
-02-
إنّ هذه المرأة- –صَدِّقونِي-لا تتحدَّثُ كثيرًا لكنّها تكتُب في صمت بعيدًا عن الأضواء وبريق الشهرة، فهي تُصِرُّ ألّا تَذْوي ،كما ذَوَت الكثيرات،مِمَّن سبقنَها من المُبدعات اللواتي تأَلقْن في بداياتهنَّ، لكنّ ظروف الحصار والقهر الاجتماعي حالت دون المواصلة والاستمرار،غير أنّ “فضيلة” كسَّرت الحاجز وواصلت المسيرة بالعرق والكدّ والنَظَرِ بعيدا عن “عيون” القبيلة و”حراس” النوايا، لا أذْكُرُ بالتحديد متى التقيتُها لأول مرّة ، هذه الكاتبة المُوغِلة في الصمت،كانت على جانبٍ كبير من الحياء والحِشمة، في تلك الظهيرة الغابرة،بالمركز الثقافي بالمدينة،تحدَّثنا-يومئذٍ- بشكلٍ تلقائي عن الأدب والقصة وروادِها في عالمنا العربي،وأول شيء عَلِقَ بذاكراتي حول ذلك اللقاء هو إصغاؤها الجيد، للآخرين، لم تكُن “فضيلة” تتحدَّثُ كثيرا،بِمقدار ما كانت تُصغِي إلى مُحَدثِها بانتباه بليغ،وهي خصلة نفتقدها -الآن -للأسف في جَو ثقافي مُلَغَم تضخَّمت فيه “الأنا” وتَعالَى فيه منسوب الذات والنرجسية أكثر من اللزوم، لقد دَارَ بيننا القليل من الكلام والكثير من الصمت ،أَذْكُر أنّنا تحدَّثنا عن” حنَّا مينة”وعن سيرته الذاتية في “بقايا صور”وعن “فيضان” “حيدر حيدر”..وكتاب “بلَِارجل” للكاتبة التونسية “حياة بن الشيخ” وكيف أدهشَها هذا العُنوان المُستفز، ولَعلَّني تساءلتُ- لحظتَها-كما تَساءَلت هيَّ بمرارة:
-هل يُمكِن، أن تعيشَ امرأة بلا رجل في مجتمع مُسيّجٍ بركامٍ من الأعراف والتقاليد البالية ؟
،فلاذت” فضيلة”-حينئذٍ- بالصمت والسُّكون، سؤالٌ صعب ظلَّ عالقاً في الحَلق كالغُصَّة المُميتة، قطعتُ للتوِّ حبل دهشتها ، فأهديتُها النسخة الوحيدة من الكتاب كنت أُحِسُّ أنّها تختزنُ فيضا من المشاعر والأحاسيس، ينتظر فقط الانفجار في أيِّ لحظة، وبدأت –بالفعل- تخطو وتكتبُ قصصا قصيرة أقربَ ماتكونُ إلى اللوحات القصصية بمسحة رومانسية مُفعمة بالتأمُّل و الإيحاء والشاعرية ، فيها قبسٌ من “أحلام مستغانمي” وشيء من تمرد “غادة السمّان “وهي حصيلة طبيعية لِمَا تراكمَ لديها من قراءات ومطالعات سابقة،هكذا بدأت “فضيلة” مسيرة الاشتغال والتجريب، وبدأت كتاباتُها –لاحقا- تأخذ طابع الجِديّة والانغماس في الهَمِّ اليومي،في تدَاخُلِ الذاتي مع الجماعي وتماهي الخاص بالعام، مثلما هو مُبيّنٌ على نحو خاص في قصتها “المادة “64″، التي تُشير إلى معضلة الطلاق إِثْرَ زواج سابقٍ كان مصيره الإخفاق.
-03-
شيء مَا-اعتقدُ- حَرَّكَ سَواكِن هذه “الأنثى” المبدعة وأطلق العِنان للقريحة الإبداعية في التدفق والانهمار،وشرعَت كتاباتها في الظهور بعد أن ظلَّت صاحبتُها، لسنواتٍ تتوارَى عن الأنظار،فأصدرت تِباعاً، ثلاث مجموعات قصصية ، ورواية وكتاباً آخَر مشترك مع الفنانة التشكيلية “فتحية باهرة.”وهي مغامرة أخرى لامَست من خلالها ، تُخوم الرسم والتشكيل وسحر الألوان، ناهيك عن الدراسات الأكاديمية المُعمقة التي قدمتها الدكتورة ” فضيلة بهيليل” كناقدة أكاديمية مُتمرسة، حول مُنجز الرواية الجزائرية وأنماط التجريب وآفاق الحداثة.
وهذا ما يعني-في المُحصلة- أنّ الكاتبَ-أيّاً كان-لا يكتب في نهاية المطاف ، إلاَّ جُرحَه السِرّي على حَدِّ قول الكاتب الفرنسي “جان جنييه” ذلك أن الكتابة في جوهرها، هي إعادة ترميم لجراح الطفولة السريّة على نحو من الأنحاء،نكتبُ ربَما،للتعويض عن تلك الجراح الغائرة التي ظلّت قابعةً في الذاكرة والوجدان لسنوات طويلة ،والكتابة –على هذا النحو-هي البلسَم الذي يُعيدنا إلى منابع النقاء وصفاء اللحظات المُنقضية وعُذرية الأمكنة الأولى.
-04-
هل تُراني قد تجرَّأت ، ونبشتُ شيئا خاصا في سيرة هذه المبدعة والكاتبة والإنسانة المرهفة الأحاسيس.؟
رُبما؟..لكن إحساسٌ ما، كان يستحِثُني دوماً للكتابة عنها إحياءً لتلك الذاكرة ووفاءً لِحُلم قد عَبرنَاهُ معًا .