منازل الضوء
بواسطة مسارب بتاريخ 25 يناير, 2012 في 09:29 مساء | مصنفة في متعة النص | لا تعليقات عدد المشاهدات : 1723.

خليل حشلاف / قاص وروائي

 

ما إن أزحت فراشي وتقدمت خطوات حتى وجدت زوجتي تقفز لتسألني
ما الذي يجري ؟
أريد الخروج……
فقالت بعيون محدقة:  
في هذه الساعة المتأخرة!

كانت ليلة صقيعية تراءت فيها قبة السماء، كان ثمة مصابيح تنير الطريق وهمست في خبيئتي: إن رحاب بيتي قد ضاقت وإلا لما شعرت أن كل المدينة قيد أناملي ، البيوت القديمة، العمارات، شجيرات التوت، لكم تحبني حين تمنحني ساعة الليل أنوارا، على الأقل تكشف لي مشهدا ، فقط أحول مكان الإقبال عليها حتى تفاجئني بحضور أخر وأصبح كالطفل الذي تستغويه الأضواء الملونة، الأخضر،البرتقالي، والبنفسجي، لا أعرف لماذا تضيء دواخلي الألوان هل هو البحث عن شيء ما ؟ أم أن الأشياء الملونة جزء مني ؟ سألت: منذ زمن لم تبرح بي هذه الفاصلة التي على النقيض مما اعتقدت سوف تنفصم عراها عن حياتي الخفية، وهل أتعلم كيف أصرف نظري عنها أم أن روحي مهرت بها ؟ كثيرا ما أطوف بين الشوارع وتعمر قلبي هناءة، إذ تستحيل حواف جدران المنازل ومشدات شبابيكها إلى كائنات أنيسة، مرات ألمس جليز شرفة خفيضة فيقفز عصفور أخضر الجناحين، أطل به من مباسط الروح فأجده يطير بين قمر ضاحك بهلاله والنجوم فوقه تنوس.
ما زلت عبدا للأضواء المعلقة على سيقان حديدية وهل يعني هذا أني أرفض المعتاد من حياتي ؟
 المهم أنى عندما دخلت إلى الشارع الرئيس لمدينتي، بدا لي أحد معارفي يقف في ميدان الشارع وبقربه شخصان يتشبث أحدهما بيد الآخر وما إن شاهدوني حتى انطلقوا إلى زقاق جانبي، لم يكن الاتجاه صحيحا إلى بيته، هذا ما لفت انتباهي، كان أحدهما يحدثه ويتحاشيان المارة القلائل.
- بحثنا عنك في كل مكان
- كنت في مجلس مع أصدقائي
- …………….                                 
- اليوم اجتماعنا ألم تعلم ؟
أسرعت لأدقق النظر لمعرفة الشخصين، كان أحدهما يتدأدأ في مشيه من ثقل جسمه، يرتدي خرقة لا تستر سوى حقويه وجانب من ظهره، أما الآخر فكان يضع طاقية حمراء على رأسه وقميصا أبيض، يحشر رجليه في سروال من الخيش، شده بخيط من الكيمونو، يتدلى وراءه كحزام، أظنني عرفته:
 - أنظر هناك، هاهو الكتبي والوناس ، قال مقداد.
ظهر شخصان في أول الطريق، كانا حافي القدمين، مكشوفي الشعر، يكاد كل واحد منهما يشبه الآخر، يعتمران قلنسوتين ، وعندما شاهدوهما، نهضا متكاتفين ليلحقا بهما.
حاولت أن أكون أكثر هدوءا، كي لا أفسد شيئا، كنت أعرف أن هناك لحظات في حياة كل إنسان يجب أن أحترمها، ومن الممكن أن يكون (محمد ع) قد سايرهم واستجابوا له، لكن الذي لم أتبينه، كيف يسير معهم كل هذه المسافة حتى أنهم توجهوا إلى الشارع الذي يؤدي إلى خارج المدينة، حيث الغابة والمقبرة في أعلى الهضبة؟
- أسرعوا سيدي في انتظاركم!
عندما التقطت هذه الجملة اختفيت وراء شجيرات التين،لأنني رأيت أحدهم يلتفت إلى الوراء، لا أعرف كيف تحايلت على نفسي للقول: إنهم يتحدثون بأشياء أفهمها وأستطيع تصورها، لذا لم أشعر بالرعب أم أنه بدأ يتسرب إلي وعقلته، فهل أقدر على إخفاء رعشة جسدي بعدما مررت بالمقبرة ؟ عندما توقفوا اختفيت خلف كومة من التراب عليها شجرة تين وطفقت ارقب أصوات بعضهم، لكن البعض الأخر لم أره من قبل، وأردت أن أعرف أنى لم أخطئ وظهر لي من رثاثة ملابسهم وشعوث شعورهم أنهم كذلك.
جلسوا بأمر من أحدهم يدعى أحمد بن واوة ، إذ رفع  يده:
سادتي جاءنا ضيف أريد أن أخصه بالامتنان وكلكم تدركون صنيع ما يقدمه من خدمات، إذ نبشره أنه جاء الأمر بتكريمه، بعيد انتهاء الديوان بإحدى الرتب.
هل أؤمن في هذه اللحظة بأن ما أسمعه كان متاحا لحواسي؟ لا أظن ذلك ممكنا، كانت هناك ضوء نازلا من السماء، من مكان لا وجود له، دار خلق كثير حول( محمد ع) يقبلونه وعندما ابتعدوا عنه ذهب ليقبل رئيسهم.
 كان أحمد بن واوة يجلس على الأرض و كل الحاضرين حوله، أسكتهم أحد الحضور.
- صلوا عليه
- عليه الصلاة و السلام
- نعلن أن ديوان هذه السنة قد بدأ من هذه اللحظة إلى ساعة الفجر.
لم افقه من الخطبة إلا ديباجتها الأولى وبعض النتف من وسطها:
(….أبناءنا ببغداد تداءمت عليهم أذناب الغدر، والغفل منهم يتحدثون عن انتخابات تعددت فيها الأنهار، يالحزن شعوبنا ما زالوا ينامون على أخبار موت أطفالهم وينهضون على صناديق تثقل كاهلهم بإذاعة رأيهم والرأي المخادع، فأصبحوا لا يحركون نأمة وكلما حاولوا نفض التراب، تجنح الملوك إلى رميهم بقناة مسيلة للكرامة وقد جمح الجنرالات على ضعفائها كأنهم الناقة الجرباء..)
لقد سمعت الكثير من الأخبار التي تواردت من شيوخ أريافنا عن أحمد بن واوة، منذ فترة يتقول الناس أنه كان هناك رجل من الحجاج يؤدي مناسك الحج وأثناء الطواف تعثر وقبل انهياره بثوانى بين الأرجل قال مستنجدا :
- (يا رجال الدالة )
فانتشله رجل من بين أرجل الحجاج.
- من أنت ؟
- أنا أحمد بن واوة
وتلاشى وكأنه لم يوجد .  
سرد الحاج ذلك الحادث، فسخر بعض الحجاج منه ثم اخبروه إن هذا الرجل مجنون، لكنه ألح عليهم غداة نزوله من المطار أن يراه، فوعدوه بذلك ولم تمر أيام حتى زار أحدهم في داره …..
- من المهم أن اعرف مكان إقامته ؟
ضحك ابن بلدتنا، قل مكان وقوفه حيث يهش بعصاه ويحمل جرابه.
لم ينتظرا طويلا حتى خرج لهم من قمة الشارع.
- هل هذا هو الذي تريده ؟
- هو….هو
- أنت تتوهم
- بل هو…هو..

سمعت همهمة ثم سكونا وصوتا يقول:  
 - هناك إنسان غريب يتنصت علينا، أراه من وراء شجرة التين
 - سيدي هل نبحث عنه ؟
كانت ضربات قلبي تزداد وأنفاسي تهرب مني وصوت ذلك الرجل يقول
من سارروه فأبدى كل ما سـتروا  *    ولم يراع اتصالا كان غشاشا1
وإذا النفوس أذاعت سر ما علمت   *  فكل ما حملت من غفلها حاشـا
ومن لم يصن سر مولاه وسـيــده  * لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا

وأردت أن أزحف على صدري، لكن أرجلي لم تبرح مكانها، تفطنت أن لا أحد ورائي:
- أعطوا له مكتومكم لأنه كشف مستورنا
وركضت وكأنني اهرب في الحلم.                                   

  …………………….
 1 من قصيدة للحلاج

 

 

اترك تعليقا