” نصر الدين دينيه ” من الاستشراق إلى الإشراق …/ عبد القادر رابحي*
بواسطة مسارب بتاريخ 15 مايو, 2013 في 10:07 مساء | مصنفة في رواق الواسطي | لا تعليقات عدد المشاهدات : 9798.


لم يكن ألفونس إيتيان دينيه (1861-1929)، و هو يحاول أن يجد له مكانة ضمن أقرانه ممن أسسوا لموجة الفن التشكيلي التي سميت فيما بعد بالفن الاستشراقي الغربي الذي صاحب الحملة الاستعمارية الكولونيالية على البلاد العربية المسلمة في القرن التاسع عشر، يتصور أن ينتهي به مطاف البحث عن الزاوية المضيئة في اللوحة الفنية الخالدة التي كان يرغب في تحقيقها، إلى الكتابة عن سيرة الرسول الأكرم محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه من زاوية الإنسان المسلم.
—————-
لوحةُ حياةٍ تبدو في غاية التناقض بين نقطة بدايتها وبين المآلات التي جعلت هذا الفنان من أكثر الفنانين الغربيين الذي مرّوا على بلاد الجزائر تميّزاً في تلك الفترة، وربما من أعمقهم فهماً لطبيعة الإنسان الجزائري ولخصوصية الصورة التي يبثها لدى الوافدين الغربيين من الكُتّاب والمفكرين والفنانين بمختلف اتجاهاتهم الفكرية ومشاربهم الإيديولوجية، والذي كان يجمع بينهم همّ واحد وحيد: صورة الاستعلاء التي ينظر من خلالها هؤلاء جميعاً إلى الشرط التاريخي الصعب الذي كان يعيشه الإنسان الجزائري. وهي نظرة ارتبطت عادةً بصورة الفن التشكيلي الغربي التي جسدت النظرة الاستعمارية في تلك الفترة من خلال ما جاد به مئات الفنانين المنتشرين في مدن الشرق القابل للاستعمار وصحاريه الثاوية على إرث فكري ومعرفي متروك للغازي، من لوحات تعد بالآلاف حاولوا أن يأسروا فيها ما سُمي بـ(سحر الشرق) في مرآة التشكيل من خلال ترسيخ صورة ثابتة عن الإنسان الشرقي في مخيال الإنسان الغربي المندهش مما أحدثته قصص ألف ليلة وليلة من دهشة في أذهانهم حال ترجمتها.

ثمة فرق كبير بين رؤية الفنان إيتيان دينيه المجسدة في أعمال المرحلة الأولى من حياته، والتي كانت تحمل كغيرها من الأعمال الاستشراقية صفة التعالي والتعرية واعتبار الإنسان الجزائري موديلًا خاضعاً لرغبة الوضعية التي تنخر المكبوت الأوروبي، وبين رؤية الفنان نصر الدين دينيه في أعمال المرحلة الثانية من حياته والتي حاولت أن تعكس الروح المتجلية في طبيعة الإنسان الجزائري المسلم في حقيقة اندراجه في البعد الحضاري الذي ينتمي إليه، والتي لم ينتبه إليها مئات الفنانين الاستشراقيين وهم يبحثون عن الموضوعات المثيرة التي تعودوا سماعها عن سحر الشرق و أسراره.

 

ما كان من المستحيل أن يعتقد هذا الفنان ولا غيره ممن رافقه في حياته أو عرفه عن بعد، بمآل كهذا الذي حصل له وهو يكتشف دهشة الصحراء الجزائرية وطريقة معيشة أهلها والعلاقات الاجتماعية والإنسانية التي كان يراها متوقدة في أفعال الجزائريين وأقوالهم رغم قلة الحيلة وضعف القوّة وانغلاق الشرط الاستعماري.

لقد استطاع هذا الفنان أن ينتقل بما توافر له من مقدرة على تجاوز الإكراهات اليقينية للفكر الغربي، من «الاستشراق» بوصفه نسقاً راسخاً في تصوره للآخر وصناعته وإعادة إنتاجه وفق المفاهيم الكولونيالية، إلى «الإشراق» الذي حرره من ضغوط هذه الإكراهات وفتح له عوالم التخييل اللانهائية في سهولة اندراجها ضمن المألوف الإنساني الخاضع لطبية العوالم الكونية كما خلقها الله سبحانه وتعالى. ولعله الفنان الوحيد، مع الأديبة إيزابيل إيبرهارت، الذي استطاع أن يشهر إسلامه ويموت مسلماً تاركاً وراءه، على غرار لوحاته التشكيلية الكثيرة، كتاباً ضخماً سمّاه: (حياة محمد رسول الله).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

—————————————————————–

* عبد القادر رابحي (كاتب وأستاذ جامعي من الجزائر)

اترك تعليقا