هوامش على هامش ما أضحى لدينا فنا ؟ … سعيـد بوخليـط *
بواسطة مسارب بتاريخ 24 مارس, 2015 في 09:04 مساء | مصنفة في الفن التشكيلي | لا تعليقات عدد المشاهدات : 2666.

 

1 –

يحاول مقدم البرنامج،نفخ الروح في لغة مستحثة ،ملاحقا الكلمات الفارة منه،تأففا وضجرا،لأن اللغة كيان وجودي محترم، يسود وجوده قبل ماهيته،هكذا تبدو أصواته ثقيلة بلا مبنى ولا معنى،مادامت هي تخادع نفسها قبل مخادعة الآخر،أليس الصدق بأقرب مسلك نحو القلب :  ((والآن مع الفنان المغربي الشهير…،الذي والذي ثم أنه.. وعليه..وبه..ومعه…وحيث هو))).يتقدم أخونا الميسِرُ،من اليسر والتيسير،بخطى متثاقلة،سيتكلم كأنه يشرح لنا، مشاريع مابعد حرب النجوم،يفصح لنا عن وازع موهبته العظيمة، بحيث كان يدندن بين تجاويف بطن أمه ترنما، بما سبق تآليف بيتهوفن، ثم لأن الله أراد له، أن يكون بصنيعه ذلك فاتحة للعالمين،دون نسيانه دعاء الوالدين،فقد كان له، أبى من أبى وكره من كره،ثم هاهو؟سيمنحنا أعذب الألحان، وينحت أجمل الكلمات، وينشد بطريقة “ميكساجية”، جامعا بكيفية غير معهودة بين المرجعية الشعبية، والأكاديمية،والدينية، والدنيوية،والروحية، والجسدية، والنفسية، والتنفسية،والدراما، والميلودراما، والأفريقي، والآسيوي، واللاتيني،مستطردا إلى مالانهاية،في تكديس النعوت والأوصاف.الأغنية،التي هي من تدبيجه وتلحينه،وقد لحنها بقدرة قادر،خلال ومضة زمنية، لم تتجاوز لمسة فتحه باب سيارته الرياضية الفارهة، وإغلاقه ثانية،تقول :((أجي عندي،ولما بغيتي تجي،راك تجي تجي،وسير كاع لاتجي،وجي ولاكاع لاتجي،الله يخلصك جيتي ولما جيتي،المهم لهوا يجيبك… ،راه مرضي الوالدين، عمرو مايتخص،هيلا ،هولا…،ميرسي، شكرا، تانكيو،أنا كنبغيكم)).

سيحتفي الإعلام، أيما احتفال،طولا وعرضا بالشاب، الذي لم تلده “ولاَّدة”،ولم يخرجه بطن امرأة، مرتقيا إلى ذات أساطير عظماء البشرية،وصناع التاريخ الكبار،ملهما المجتمع قاطبة،فيقضي الشعب باقي يومياته، جراء الاكتشاف العجيب،مترصدا تفاصيل “الفنان” من صورته التي بلا شارب إلى أخرى بشارب ولحية.المهم،هزلت.

2-

هو،ليس بالسهل الممتنع،لكنه الممنوع السهل.كل شيء غير طبيعي،أضحى عندنا ضمن السهل،فاختلطت الألقاب، وتقوضت صلابة المراتب المتأتية، من الجدارة والاستحقاق.لذلك،فما تتعلمه أجيال الأمم المتقدمة،بربط الاستحقاق بالعمل الدؤوب والمكابدة،صار عندنا محض مناسبة  لشطار المناسبات،وما على المتربص إلا اختيار،مناسبته السانحة،كي ينتقل من التنسيب إلى المطلق.بالتالي،وبذات طريقة إنبات  كثير، من ”مناضلي”المكاتب السياسية للأحزاب،وقد”ناضلوا” على مزاجهم من الطائرة إلى الصالون،فتكرس اللقب مادام”عندي بابا وعندي ماما،هما معايا حتى في الموت”،سيتأسطر بسرعة البرق ذاتها، كل من أدرك كيفية إعادة توشية،ولو بآهات نشاز،قطعة غنائية قتلت سمعا وترديدا، لسنين طويلة،بحيث يراهن عليها الميسرون كي ييسروا السبيل نحو يسر المال والأعمال والشهرة.يا أخي،لا أفهم !جميع هؤلاء الميسرين،يتسابقون كي يكرروا علينا، بملل،ماغناه السابقون،وكأن هذا التاريخ الموسيقي لايريد أبدا أن يتطور؟والعقل الجمالي،رحل برحيل السابقين؟فأن تحظى بلقب فنان، يعني أن تبدع، والإبداع هو خلق.إذن، فأنت فنان أو غير ذلك؟.

3-

الفنان حالة وجودية،بكل ماتحمله الكلمة من معنى.هو مضمون ورؤية وموقف وحاضر ومستقبل،غياب وحضور،حضور الغياب ولاغياب في الحضور.قد يبدع عملا واحدا،وينحت لنفسه الخلود المتفرد،وقد يتزاحم ويتطاحن من أجل تكرير المكرور،طيلة حياته،ثم ينسى بعد دقائق من وفاته.صحيح،أن الثورات المضادة، التي أوقدها لهيب البراميل النفطية،منذ عقد السبعينات، فعلت فعلها لأجيال،وما اقتضته من تكريس للتسطيح والتبضيع والتسليع والسهل والميسر،ثم جاء إعصار العولمة الذي باغتنا  بدوره كما اجتاحتنا على الدوام ونحن نيام،التطورات المذهبية العالمية،مع عجزنا القبلي على بناء هوية ثقافية لها مقومات الحياة،وقادرة على النهوض باستراتجيات التناظر،كي تبقي المفاهيم لدينا على إطاراتها الواضحة المستشرفة لسياقاتها الذاتية،فبالكاد كنا نجمع  فسيفساء صورة الفنان في أولى معطياته الطبيعية،وتجلياته الخام إن صح التعبير، حتى انتقلنا بدون مقدمات إلى الصناعة الماكرة للفنان السبرنطيقي،من الفنان المتجرد الذي يجدر به تنمية القيم الجمالية،في أبعادها المعرفية والقيمية والروحية، إلى ثان،هو مجرد هبة سريعة لفبركات التقنية الماكرة،مما يدفعنا إلى طرح التساؤل التالي :حينما ينتشل أغلب هؤلاء صنيعهم، من الخدع الصوتية والمشهدية والصورية والإعلامية،فماذا سيبقى في جعبتهم،كي يقدموه لنا؟.

4-

إذا كان أصل القاعدة،يقول :بأن مهمة الفنان الأولى،أن يشتغل وينتج،ليس بالضرورة أن يكون منتوجه كثيرا،لكن بالضرورة عليه التكلم قليلا ،مادام الإبداع والتهريج عدوان لا يلتقيان،سنلاحظ، بأن الميسرين الجدد، يملؤون المكان ضجيجا، بتفاصيل تافهة، لاتهمنا لامن قريب أو من بعيد،ثم نتساءل أين الإبداع؟دخل، خرج، أكل، نام، استيقظ،…،ضحك، بكى، صلى، ثمل،ذهب إلى الحج، رجع من العمرة، تحول إلى داعية يخبر الناس عن دقائق عذاب القبر، تزوج، طلق، قال، لم يقل،…ثم نتساءل أين الإبداع؟ارتدى، اشترى، تجول، زمجر، تبسم، استحم، سبح،…،ثم نتساءل أين الإبداع؟.أظن، بأن أفراد جيلي،لازالوا يذكرون الطنين الأول،لتلك الفرية الهدامة التي انتعشت بين ثنايا واقع نكسة العقل العربي،بسبب تغول الديكتاتوريات:”الجمهور،عايز،كده ! ”.أصحاب الشعار،كانوا يعلمون علم اليقين،بأن الجمهور المبرر به”مش عايز كده !”،بل أريد له قصدا أن يعيش في غيبوبة شبه تامة،فكانت الحصيلة شبه المنطقية كذلك، الأفق المظلم الذي يلفنا آنيا،ألا يقال : “الجزاء من جنس العمل” ،ومن يزرع الريح يحصد العاصفة، فكيف تريدون لأقوام المحافظة على آدميتهم والتصرف حضاريا،بينما اعتقلوا داخل غياهب كهوف،خلال حقب ليست بالهينة؟.

5-

هناك السليكون بالنسبة للميسرات الجديدات،هكذا كلما انتفخن تصفيقا، إلا وفكرن في المقابل، كي يضاعفن من ملكاتهن وحضورهن، بحشو أطراف أجسادهن.أما آخرين من الميسرين،ففي الحقيقة، لم تعد تفرق من ناحية الهيأة الفيزيولوجية،بين ألفة بورتريه الفنان الشاعري الحالم،الرقيق،الشفاف والمرهف والعذب ، كما رسخته فلسفات الجمال في كل الحضارات،ثم نموذج مصارع من مصارعي الأقفاص الرومانية،بحيث لاتكاد تمر أيام على شهرة أحدهم،حتى ينمو حجم جسده بأرطال من اللحم الفائض عن الحاجة،مقرف ! ثم تتساءل يا إلهي، أي حنطة يبتلع هؤلاء؟أحاول تقليب ألبومات الفنانين الحقيقيين،أجدهم جميعا مثل طيف الروح العظيمة غاندي،أجسام ذات حيز ضئيل جدا،لكن فيض عطائهم،يبلغ الجبال طولا. 

6-

متى إذن، يتوارى هذا الضّجيج، المسمى عندنا فنا؟.

َ

* باحث ومترجم من المغرب

 

 

َ

اترك تعليقا