حاول ألبير كامو تجاوز العدميّة من خلال الأدب، والذّي قال إنّه يمكن أن يصف ويحلل الوجود بقوّة أكبر من أيّ أطروحة فلسفيّة، لقد عاش من خلال محاكاة ساخرة حربين مدمرتين، ومثل معظم الوقت، شعر أن إراقة الدّماء هذه كانت عبثيّة ولا معنى لها، كان صمت الله – الذّي كان موضوعًا ثابتًا في جميع كتاباته – يصمّ الآذان، في الواقع، بعد خمس سنوات فقط من وفاته في حادث مرور، سلطت مجلة تايم بتاريخ 22 أكتوبر 1965 الضّوء على مجموعة صغيرة من اللاّهوتيين الذّين اتّفقوا جميعًا على أنّ”الله قد مات”، “لاهوت موت الله”هذا هو جزء من قطعة أساسيّة لفهم فلسفة العبث لدى كامو، البعض يصف العبث بأنّه وباء يصيب النسيج البشري فيدمّر الأفراد والمجتمعات، بحلول نهايّة القرن الّتاسع عشر، أعلن فريدريك نيتشه قولته الشّهيرة”أنّ الله قد مات”، لقد حدّد كامو بالفعل أن نيتشه لم يحاول”قتل الله”، بل إنّه”وجده ميتًا في أرواح معاصريه”، بحلول نهايّة القرن، كان الله ببساطة قد عفا عليه الزّمن في الخطاب الفلسفي الغربي، كما لاحظ نيتشه”الشّيء الحاسم الآن ضدّ المسيحيّة هو ذوقنا، وليس أسبابنا”، لقد أدرك الحقيقة البسيطة وهي انّ”الله”قد تمّ القضاء عليه تدريجياً من الثقافة الغربيّة الحديثة، لكن ما هي التداعيات؟، في كتابه(العلم المرح)سنة 1882، أعلن لأوّل مرّة أن”الله”قد مات، يجادل نيتشه بأنّ البشريّة يجب أن تتعلّم كيف تعيش بدونه، كان يعني إعادة تقييم جميع القيم، لاسيّما تلك المرتبطة بالدّيانة المسيحيّة، كتب”المسيحية هي نظام ونظرة عامة على الأشياء التّي تمّ التفكير فيها معًا، من خلال تحطيم مفهوم رئيسي وهو الإيمان بالله، فإننا نحطّم كلّ شيء بحيث لا يبقى شيء ضروري في أيدينا، تفترض المسيحيّة مسبقًا أنّ الإنسان لا يعرف، ولا يعرف شيء، تعرف أيضا ما هو خيّر له، وما هو الشرّ الواجب تجنّبه، فقط هو مطالب بالإيمان بالله، وأنّه، أي هذا”الله”، متعال، فوق أيّ انتقاد، لديه الحق فقط إذا كان الله هو الحقّ – إنه يقف ويسقط بالإيمان بالله”، بدلاً من المسيحيّة أعلن نيتشه عن فكرة”الرّجل الخارق”(Übermensch)، شخص لا يخاف من الآخرين، لا يخاف من الذّات أو الموت، كان هذا الرّجل الخارق متوافقًا مع المذهب الطبيعي العلمي، لكن بالنسبة لنيتشه، فقد تجاوز العلم أيضًا، لأنّ الحياة ليس لها معنى آخر غير ما يعطيه الأفراد لها، إذا أراد أيّ شخص أن يسمو فوق وجود تافه، فعليه أن يختار أسلوب حياة يجد فيه احتراما لذاته، يشعره بالرضا عن الذّات، على الرغم من أنّه قد يتسبّب في معاناته ومعاناة غيره .
تمّ وصف هذه الثورة ضد”الله”بشكل مناسب أيضًا في كتابات فيودور دوستويفسكي، وخاصة في الإخوة كارامازوف (1880)، فبينما يبرّر نيتشه أرائه من زاويّة علميّة، يهاجم دوستويفسكي ادّعاءات النزعة الإنسانيّة العلميّة ويصرّ على الحاجة إلى الله كأساس لحريّة الإنسان، لقد رفض فكرة أن البشر ملزمون بالقوانين العلميّة وبالتّالي يتم تحديدهم بالكامل من خلال العوامل الفيزيائيّة، كما رفض فكرة أن كلّ شيء يحكمه العقل، أدّى ظهور النظرة الطبيعيّة للعالم والعدميّة التّي نتجت عنها، إلى زيادة اهتمام العديد من النّاس بمشاكل الحياة البشريّة في المجتمعات العلمانيّة الحديثة، بدأ الكثيرون في التشكيك في القيم والفلسفات المقبولة ولاحظوا عبثيّة الحياة والبحث عن معنى في الموت، هذه الأسئلة هي جوهر الفلسفة الوجوديّة في أوائل القرن العشرين، وتجدر الإشارة إلى أنّ معظم العلماء يتتبّعون أصول الوجوديّة عند المفكّر سورين كيركيغارد والذّي بشّر بما يعرف عند عامة الجمهور الغربي بالأرثوذكسية الميّتة ، لقد قدّم الإيمان على أنّه مسعى شخصي بحت، وأنّ المسيحيّة المؤسسيّة(الكنيسة)أصبحت مشوّشة وغير ذات صلة بما يحدث في واقع النّاس ،مع ذلك، بالنسبة لكيركجارد، كان”الله”لا يزال مختلفًا تمامًا ولا يمكن تحديده بأيّ شيء انتهى، حتّى في الوحي يظل هذا”الله “مستترًا، عندما رأى النّاس يسوع على الأرض، لم يروا سوى رجل واحد، رجل فان، لا يمكن تحويل اللانهايّة إلى شيء محدود، في التجسّد، لذا ظل”الله”متخفيًا، فقط من خلال الإيمان يمكن للمرء أن يكون لديه رؤيّة حقيقيّة عنه.
كان الإيمان”بالله”في بدايات القرن العشرين يبدو مستحيلًا بالنسبة للعديد من المثقفين،وهذا ما تمّ تأكيده بشكل مفاجئ إلى حد ما في كتابات رجل الدّين الألماني ديتريش بونهوفر، الذي كتب إلى صديق من زنزانته في السّجن عام 1944″ لقد تعلم الإنسان أن يعتني بنفسه في كلّ الأمور ذات الأهميّة دون اللجوء إلى فرضيّة العمل”المسماة” الله”، في مسائل العلم والفن والأخلاق أصبح شيئًا مفهوماً بالكاد نجرؤ على لمسه الآن، لكن على مدى المائة عام الماضيّة، أصبح الأمر كذلك أكثر فأكثر في المسائل الدّينيّة، يصبح من الواضح أنّ كلّ شيء يحدث أيضًا بدون”الله”… كما هو الحال في العلم، كذلك في الشّؤون الإنسانيّة بشكل عام، يُدفع “الله”بشكل متزايد من الحياة، ويفقد المزيد والمزيد من الأرض”، مهما كانت مفاهيمنا عن المذهب الطبيعي والعلم الحديث، فلقد قضى العلم على”الله”، كما قال المؤرّخ كارل بيكر المعاصر السّابق لكامو “لا يزال من المستحيل تمامًا أن نعتبر الإنسان ابن الله الذي من أجله خُلقت الأرض كمسكن مؤقت”، وبدلاً من ذلك، يجب أن نفكر في الأمر على أنّه أكثر قليلاً من مجرّد رواسب صدفة على سطح العالم، يتم إلقاؤها بلا مبالاة بين عصرين جليديين بنفس القوى التّي تصدأ الحديد وتنضج الذرّة، كائن حسّاس منحه حادث سعيد أو غير سعيد الذّكاء، لكن هو بذكاء مشروط بالقوى ذاتها التّي تسعى لفهمها والتحكّم فيها، السّؤال الوحيد المتبقي هو ما العمل حيال ذلك؟، كيف يجب أن نعيش إذن؟.. الإجابة المقدّمة من قبل الوجوديين( الفلسفة الوجوديّة)تقول”المادة موجودة والله غير موجود”، زيادة على هذا تقول هذه الفلسفة بانّ الموت هو انقراض الأشياء، انمحاؤها النهائي، لا وجود لحياة أخرى بعد الموت، التّاريخ مسالة كتابة وسرد وفقط، هو مرتبط بالسّبب و النتيجة، على الرغم من أنّ العقل البشري يمكنه فهم الكون، فما الذي يهم؟.. هذا العالم القاسي، المتعنت في فرض أبجدياته الماديّة/الوجوديّة على الإنسان يبدو سخيفا، غير عادل في كثير من الأحيان، هناك تنشا فكرة العبث، العبث المطلق هو الموت، بالنسبة لكامو،هو على المرء أن يعيش في مواجهة هذه الآلة المخيفة التّي يطلق عليها اسم العبث، يعيشها دون خوف، دون تردّد، يعيشها بطريقته الخاصة، دون أن ترمش عينيه، وفي نفس الوقت علينا أن نخلق قيمة في عالم لا توجد فيه قيمة موضوعيّة .
وفقًا لألبير كامو”الحياة الأصيلة”و”الحقيقيّة”الجديرة بالحياة هي تلك التّي تعترف بعبثيّة الكون ومع ذلك تتمرّد عليه و تخلق معناها الخاص، تخلق لك عالما يسعك بشكل من الأشكال، لا أن تذوب في داخله فتتلاشى وتضمحل، وهذا يعني أن الشّخص الأكثر أصالة بالنسبة لكامو يجب أن يثور ضدّ عبثيّة الموت ويخلق قيمه الخاصة، في كتابه اسطورة سيزيف ( 1942)،على سبيل المثال، استخدم قصّة سيزيف ملك كورنث الأسطوري، كاستعارة لعبثيّة الوجود البشري، تقول الأسطورة انّه بعد إهانة سيزيف للآلهة، حُكم عليه بقضاء الأبديّة في العالم السّفلي وهو يدحرج صخرة حول جبل مرارًا وتكرارًا، وعند هذه النقطة ينزل الحجر مرّة أخرى، فيضطر سيزيف بدء المحاولة من جديد، دورة لا نهايّة لها وغير مجديّة، بالنسبة لكامو سيزيف هو بطل، وهو كذلك بطل واقعنا العبثي، بعد إدانته من قبل الأحداث الطارئة في التّاريخ لوجود لا طائل من ورائه وبلا معنى، يشرع في تحقيق أقصى استفادة منه، يدرك انّه لا يستطيع تغيير وضعه، يجب أن يقبل مصيره، لا يوجد في الأفق أيّ راحة من عبثيّة الوجود، هذه هي الاستعارة التّي اختارها كامو لتسليط الضّوء على حالة الإنسان، يعود كامو ليقول لنا إنّ أيّ فلسفة تؤمن بإمكانيّة فهم الأشياء هي خادعة، سواء في شكل الدّين أو أي إيديولوجيا مبشّرة بالخلاص البشري، في الواقع، في كتابه الإنسان المتمرّد(1951)، رفض كامو تمامًا ما يسمّيه ” الأديان الأفقيّة في عصرنا”، الأنظمة السّياسيّة مثل الماركسيّة، وأيّ نوع من اليوتوبيا”المسيحانيّة” التّي تدّعي بأنّها سترفع الإنسانيّة إلى مرتبة الألوهية وهذا وفقًا لكامو”لا أعرف ما إذا كان لهذا العالم معنى يتجاوزه، لكنّني أعلم أنني لا أستطيع معرفة هذا المعنى وأنّه من المستحيل بالنسبة لي في الوقت الحالي معرفته،ما الذّي يمكن أن يعنيه خارج حالتي بالنسبة لي؟،لا أستطيع أن أفهم إلا من منظور إنساني، لا أريد أن أبني أيّ شيء على ما هو غير مفهوم،أريد أن أعرف ما إذا كان بإمكاني العيش مع ما أعرفه” . ويضيف”لقد فهمت بالفعل أن سيزيف هو البطل السّخيف، إنّه بسبب عواطفه بقدر ما هو بسبب عذاباته، لقد أكسبه احتقاره للآلهة وكراهيته للموت وشغفه بالحياة هذا الألم الذي لا يوصف والذّي يُمارس فيه الكائن إرادته في تحقيق أيّ شيء، هذا هو الثمن الذّي يجب دفعه مقابل أهواء هذه الأرض .
قبل الحرب العالمية الثانيّة، اعتبر كامو أن المسيحيّة”عبثيّة”، كان الإيمان بالله بمثابة خيانة للعقل، والمسيحيون على وجه الخصوص هم أناس يرتكبون”انتحارًا فلسفيًا”، كامو لا يعرف أنّ الله غير موجود، اختار أن يصدّق ذلك، كيف يمكن أن يكون هناك إله؟، إذا كان هناك واحد ما فهو صامت، ولا يقدّم أيّ تبرير لنفسه.بالنسبة لكامو، فإن فكرة موت الله يتمّ التّعبير عنها بصمت أفضل من غيابه، في الوقت نفسه، غالبًا ما صُدم أولئك الذين قرؤوا كامو بالدّور الأساسي الذّي تلعبه المسيحيّة في رواياته وكتاباته الأخرى، في مرحلة ما، تظهر عناصر من الإيمان المسيحي، في الواقع، يتّضح أنّه في جميع أعماله الأدبيّة محور اهتمامات الموضوعات الدّينيّة والأخلاقيّة وأن هذه تشكل جزءًا كبيرًا من قوّة وجاذبيّة أعماله، وسيظهر هذا جليّا في روايّة الغريب والطاعون، في الواقع، جادل بعض المعلقين بأنّ كامو أصبح أكثر انفتاحًا على المسيحيّة في نهاية حياته، وهذا التحوّل واضح في هذه الرّوايّة
***
حكمت الآلهة على سيزيف أن يرفع صخرة باستمرار إلى قمّة جبل، لكن كلما نجح في رفعها للأعلى تتدحرج إلى الأسفل، لقد اعتقدوا لسبب ما أنه لا يوجد عقاب أفظع من العمل غير المجدي واليائس، وإذا أردنا أن نصدّق هوميروس، فإن سيزيف كان أكثر البشر حكمة وحذرًا،وتختلف الآراء حول سبب تحوّله إلى مهنة اللصوصيّة (قاطع طريق)التّي ينظر لها على انّها شكل من أشكال انحطاط الإنسان، فلقد تمّ اتّهامه بتجرّئه على الآلهة، قيل أيضا انّه أخفى احد أسرار الآلهة اليونانيّة القديمة، حيث قام(جوبيتر) باختطاف(ايجينا)ابنة(اسوبس)، صُدم الأب بهذا الاختفاء واشتكى لسيزيف، مع العلم أنّ هذا الأخير كان على علم بالحادثة، فاقترح بالتحدّث في هذا الموضوع بشرط واحد وهو أن يعطي(اسوبس)الماء لكورنثوس، لقد عوقب على جريمته وهي إخفاء السرّ إلى العالم السّفلي، يخبرنا هوميروس أيضًا أنّه تمّ تقييد سيزيف بالسّلاسل، لم يستطع(بلوتو)احتمال مشهد إمبراطوريته المهجورة والصّامتة فأرسل إله الحرب الذّي حرّر الموت من يدّ قاهرها، يقال أنّ سيزيف وهو قريب من الموت، أراد بتهوّر اختبار حب زوجته، أمره بإلقاء جثته غير مدفونة في وسط السّاحة العامة، وعندما استيقظ وجد نفسه في العالم السّفلي، لكنّه حصل بشكل ما على إذن من بلوتو للعودة إلى الأرض لتوبيخ زوجته، ولكن عندما رأى وجه هذا العالم مرّة أخرى، تذوّق الماء والشّمس، والحجارة السّاخنة والبحر، لم يعد يريد العودة إلى الظّلام الجهنمي، عاش لسنوات عديدة في مواجهة منحنى الخليج والبحر المتلألئ وابتسامات الأرض و اغراءات الحياة الكثيرة، قبل أن تصدر الآلهة حكمها فيه، فأرسلت(جوبتير)ليمسك بسيزيف ويخطفه من أفراحه .
سيزيف هو البطل العبثي، أصابته اللعنة بسبب عواطفه ممّا تسبّبت له بعذابات لا طائل لها، احتقاره للآلهة وكراهيته للموت وشغفه بالحياة قد أكسبته هذا الألم الذي لا يوصف والذّي يُمارس فيه الكائن كلّ طاقته في تحقيق أيّ شيء،هذا هو الثمن الذّي يجب دفعه مقابل أهواء هذه الأرض، تُصنع الأساطير كي تنفخ الّروح في الحياة، لإحيائها، أمّا بالنسبة لهذه الأسطورة فنحن لا نرى سوى جهد يبذله بطل منبوذ يحاول رفع الصّخرة الكبيرة، تتدحرج فيعود من جديد في رفعه مرّات ومرّات، ماذا نرى؟، نرى الوجه مجهدا، مهزوما، محبطا، الخد مضغوط على الحجر والكتف يدعم الكتلة الطينيّة، والقدم تحاول أن تتثبت بالأرضيّة الملساء والمسنّنة، في نهاية جهده الطويل الذّي يُقاس بالمكان المظلم والبارد والرّطب، بدون سماء، الزّمن مجرّد، أثناء ذلك وهو يحبس أنفاسه، يتنفّس بصعوبة، صوته مخنوق، أنفاسه مضطربة ويراقب الصّخرة الكبيرة تهوى في لحظات قليلة إلى العالم السّفلي حيث سيتعيّن عليه رفعها من جديد نحو الأعلى .
خلال هذه الوقفة يتعاطف القارئ مع البطل،يتعاطف مع سيزيف بوجهه الحزين، ذلك الشّعور بالعزلة والضّعف والقهر و اليأس، ما يحاول هوميروس إخبارنا به، إذا كانت هذه الأسطورة مأساويّة، فذلك لأنّ بطلها واع بها، واع بكلّ ما يحدث له، يحيلنا هذا إلى العامل الذّي يكدح في مناجم الفحم، يعمل كلّ يوم من أيّامه في نفس المهام، البقاء لأطول فترة تحت الأرض محروم من رؤيّة السّماء ووجوه النساء الرطبة و الملساء وعذوبة حضورهن، من اجل ماذا؟، من اجل راتب لا يحقّق له الأماني والأحلام التّي اقنع نفسه بها، يمكن القول انّ مصيره ليس اقل عبثيّة من مصير سيزيف، لكنّها مأساويّة فقط في اللحظات النادرة عندما يصبح واعياً بمصيره، أيضا سيزيف بروليتاري الآلهة، العاجز والمتمرّد، يعرف حالته البائسة، لا يوجد قدر لا يمكن التغلب عليه بالازدراء، مرّة أخرى، أتخيّله و قد عاد لرفع الصّخرة، وكان الألم في البدايّة، عندما تتشبّث صور الأرض بالذاكرة كثيرًا، وعندما تصبح الدّعوة إلى السّعادة شديدة الإلحاح، يحدث أن ترتفع الكآبة في قلب الإنسان، إنّه الحزن اللاّمحدود الذّي يطغى ويغطّي على حياة بطلنا، يصعب تحمّله، لكن الحقائق المرّة تموت وتولد من جديد من خلال الاعتراف بها، ما يمكن ملاحظته انّ هذه ألأسطورة تقدّم توضيحًا مذهلاً لمفهوم العبث، والذّي ياتي مع إدراك أنّ العالم ليس عقلانيًا، في هذه المرحلة يجد الإنسان نفسه وجهاً لوجه مع اللاّمنطقي، يشعر فيه برغبته في السّعادة والعقل، ولكن … ينشأ العبث من هذه المواجهة بين الحاجة البشريّة والصّمت الغير المعقول للعالم، انّ هذه العبثيّة بالنسبة لكامو هي نتيجة مباشرة لغياب الله، بدون الله، تزداد الفجوة الحادة بين تطلعات الإنسان والعالم وتتوسّع بحيث تصبح بحجم قارة، تتميّز الحالة البشريّة باحتماليّة المعاناة واليقين بالموت وهو مصير لا يستطيع العقل البشري قبوله على أنّه معقول، في مواجهة هذه الفراغ المخيف ليس للعقل ما يقوله .
***
بسبب جرأة، أو ربّما هي وقاحة سيزيف حكم على نفسه باللعنة، غضب الآلهة، حيث حكم عليه بالعقاب الأبدي في العالم السّفلي، سيدحرج للأبد صخرة ضخمة على قمّة تلّ شديد الانحدار، لكن جهوده كانت دائما تصطدم باللامنطق واللاّجدوى، ففي كلّ مرة يقترب من القمّة تنزل الصّخرة لذلك يضطرّ لبدء عمله مرّة ثانيّة، إن أسطورة سيزيف هي صورة قويّة عن العبث، كما يصف كامو، هناك بعض الغموض والتعارض، فيما يتعلق بشخصيّة بطله على الرّغم من أنه تمّ إغفال جرائم هذا الأخير وهي كثيرة،القتل والاغتصاب والسّرقة التّي عُرف بها، فلم يعاقب على أيّ من هذا، لم يعاقب إلا على انّه تجرّأ وازدرى الآلهة فأطلق هوميروس على سيزيف لقب”أكثر الرّجال مكرًا”ويقترح أنّه كان والد أوديسيوس(عولس)، يبدو من الغريب إلى حد ما أن تصبح شخصيّة بغيضة بشكل خاص، على أقل تقدير، ممثلة لأطروحة بليغة للفلاسفة على الطريق المؤلم لقبول عبث الوجود، بالنسبة لكامو، فإن هذا الاعتراف”الواضح”بعبثيّة الوجود هو الذّي يحرّرنا من الإيمان بحياة أخرى ويسمح لنا أن نعيش اللحظة، من أجل الجمال والمتعة، الوضوح هو صفاء وشجاعة العقل الذّي يرفض كلّ الأوهام المريحة وخداع الذات، وهذا بالتأكيد هو تعريف البطل السّخيف، في الحقيقة يرغب كامو في تحديد لحظة”الوضوح”هذه بينما تنزل الصّخرة وسيزيف من الجبل، تشير الفقرة الأخيرة من الأسطورة :
” أترك سيزيف عند سفح الجبل!، نحن دائما نجد عبئنا، لكن سيزيف يعلّم الإخلاص الأعلى الذي ينكر الآلهة ويرفع الصّخرة، ويخلص أيضًا إلى أن كلّ شيء على ما يرام، هذا العالم، من الآن فصاعدًا بلا سيّد، لا يبدو له عقيمًا ولا عديم الجدوى، كلّ ذرّة من هذا الحجر، كلّ تقشّر معدني لهذا الجبل المليء بالليل، تشكّل عالماً بحدّ ذاته … النضال بحدّ ذاته كافٍ لملء قلب الرّجل، عليك أن تتخيّل سيزيف سعيدًا ” .
مع ذلك لا أحد يستطيع أن يتخيّل اليوم أنّ سيزيف”سعيد”لأنّه أدرك الآن عدم جدوى وضعه، لا يوجد فداء متاح له، إنّه عقاب محض، بالعكس،أستطيع تخيله غاضبًا ومتمرّدًا، ربّما برفض تحريك الصّخرة، ولما لا الدّخول في إضراب أو عصيان؟ ماذا إذا؟، عقوبة أخرى؟، تخفيض إلى العبث، حتّى ينهار الوضع العبثي برمّته، نعم، هذا العبث، فلماذا يستمر في دفع هذه الصّخرة؟، إذا توقف، فإن كلّ التّمثيليّة الغير الضّرورية ستنتهي بعد ذلك’ لن افعلها!، يصبح ثوريّا، من بين جميع العقوبات التّي ابتكرتها الآلهة، يجب أن يكون هذا هو أكثر العقوبات الغير الضّروريّة(يقصد التورية)على الإطلاق ، لأنّها غير ضروريّة حرفيا، السّخرة للأبد ليست عقوبة، إنّها قسوة وجوديّة، إن مثل هذه القسوة والعقوبات التّي لا معنى لها هي النقيض تمامًا للعالم الأخلاقي،حيث استثمرت الآلهة اليونانيّة بشدّة، على الرغم من ظهور تجاوزاتهم، إن معاقبة سيزيف بهذه الطريقة لا معنى له،لم تكن جرائمه ضدّ الآلهة تشبه الجرائم التّي ارتكبها غيره ممن تحدّوا الآلهة، على سبيل المثال، جريمة سرقة النار التّي عوقب بروميثيوس بسببها ولم يكن مصيره مختلفًا .
كان بروميثيوس مقيدًّا بالسلاسل إلى صخرة وكلّ يوم كان نسر يأكل كبده ثمّ ينمو مرّة أخرى وتتكرّر نفس العمليّة، كان عقوبته أبديّة من الألم الذّي لا يطاق ولكن لا موت، لكن العقوبة المفروضة على سيزيف هي أبديّة من عدم النفع، الألم الوجودي، النفسي، ماذا عرفت الآلهة اليونانيّة عن الألم الوجودي؟، لا شيء، لكن بروميثيوس هو المتمرّد، زعيم تمرّد ضدّ استبداد زيوس، أن تكون”سعيدًا”كما يقترح كامو لأنّه يرى عبثيّة حالته هو أكثر من السّماح باستمرار اضطهاد أي سلطة، سواء كانت الآلهة أو جهاز دولة … بما إذا قبلنا التهمة الرئيسية الموجهة إلى سيزيف المتمثلة في التفوّق على ثاناتوس(في الأساطير اليونانيّة، هو ابن آلهة الليل نيكس، وكان عبارة عن إله يمثل بروح لها أجنحة يجسّد الموت غير العنيف، حيث كانت لمسته ليّنة، مثل شقيقه التّوأم هيبنوس الذّي يمثل النوم، بينما الموت العنيف كان من اختصاص شقيقاته كيريس، المحترفات في ساحة المعركة )، وهزيمة الموت نفسها ببراعة، فإن جعل الإنسان يعيش حياة عبثيّة هو الأكثر سوادًا في روح الدّعابة المظلمة لدى الإله زيوس، لكنّها ليست عقوبة، إنّه إنكار للعقاب، لأنّه ليس له علاقة جوهريّة بالجريمة المرتكبة وفقد كلّ معنى للشخص المعاقب في تفاهة العمليّة وسخريتها، إنّها عقوبة تقوّض نظام العدالة، كانت هذه العقوبات دائمًا تقريبًا مبدعة ومؤثرة من النّاحيّة المجازيّة، لقد أعمى أوديب نفسه لأنّه يستطيع الآن ” رؤيّة”حقيقة أنّه قتل والده وتزوّج والدته، ولكن لا يوجد شيء شعري في علاج سيزيف، إنّها أبعد من المأساويّة، فهي في جوهرها عدميّة، على هذا النحو، لن يكون الأمر منطقيًا إلا بعد مرور 2000 عام، عندما شهد العالم نفسه الإرهاب والعدميّة على نطاق غير مسبوق في الحرب العالميّة الثّانيّة، تبدو أسطورة سيزيف شبيهة إلى حد كبير بعقوبة القرن العشرين، يبدو وكأنّه عقوبة جوهريّة في عالم متوحّش حيث تتمتّع الدّولة بسلطة شبه إلهيّة والرّأسماليّة إلهها الجديد، عمل شبيه بالآلة لا معنى له حيث يتمّ تأكيد العبث ومعنى الحياة في دورة لا نهايّة لها من العبث، لقد رأينا آلية قتل الرجال والنساء والأطفال والتعامل مع الموت، لقد دمرّت الآلات التّي بنت العالم الحديث هذا العالم أيضًا، النظام الذّي أنتج سلعنا الاستهلاكيّة الرّائعة أصبح عدوّنا اللدود، أصبحت دورات الإنتاج دورات موت ووجدت عبثيّة سيزيف أرضًا خصبة للنموّ والازدهار.
***
تعود جذور سيزيف جزئيًا إلى روح أوقات الحروب العالميّة القديمة والجديدة عندما دخلت البشريّة الهاويّة، لكن هناك ما هو أكثر من ذلك، لماذا؟،لأنّ تاريخ العالم كان في جزء منه جسر طويل محفوف بالمهالك نسير على طوله نحو البرّ، ارض الخلاص المتوهّمة في مخيّلة الإنسانيّة والتّي وصفها احد الفلاسفة بالإنسانيّة السّاذجة، لكن يبدو وهذا ما هو مؤكد انّها رحلة اوليوسيوسيّة(نسبة إلى رحلة عولس)، رحلة بطيئة ومؤلمة ومستنزفة، كما لو كانت صخرة ضخمة دفعت من القمّة للأسفل ونحن مطالبون بإيقافها رغم ثقلها ورؤوسها المسنّنة وقوّة الجاذبيّة التّي لا تمنحنا مبدأ الأفضليّة والفوز، لا يمكن أن يكون عدم جدوى الوجود أكثر وضوحًا وعارًا مما كان عليه خلال الحرب العالميّة الثّانيّة، وفكرة أن سيزيف قد يكون”سعيدًا”بعبثه مفهومة إلى حد ما نظرًا لحاجة البشريّة إلى العثور على شيء ما، وعلى الرغم من أنّ وضوح سيزيف في مواجهة عبثيّة السّلطة لا يزال وثيق الصلّة بالموضوع، فإنّ”السّعادة”بعبث الحياة من خلال تجربة العقوبة الغير العادلة لم يعد ممكنا ومستدامًا،البطل العبثي هو بطل بنصف دوام، لأنّ النصف الثّاني يقضيه في مواجهة طواحين الهواء الأكثر عبثيّة في الوجود،يمكن لهذا البطل أن يكون”نشطًا”في بيئة فلسفيّة ولكن لا يمكنه العمل في العالم الحقيقي لإحداث التّغيير، لأنّ هذا العالم يواجه تغيّر المناخ الكارثي(الابوكالبتي)الذّي يلوّح في الأفق والذي لا رجعة فيه، انّه نبوءة عن نهايّة الجنس البشري ولا احد مستعد لتغير الوضع، انّها صخرة سيزيف تهوى على رأس الإنسانيّة بينما الآلهة الأرضيّة تنظر دون لامبالاة وكان الأمر لا يعنيها، لقد تجاوزت الأزمة الوجوديّة، تمّ تجاوز الخط الغير المسموح بتجاوزه، هذا ما هو واقع ويحدث يوميا أمام أعيننا، ولا يمكن للمرء المماطلة مثل هاملت أو قبول مصيره مثل أوديب”، دعونا لا نحارب الضّرورة”، المنطقي يقول انّه لا بدّ من أن تقاتل الإنسانيّة من اجل مصيرها المهدّد ومصير الأجيال القادمة، هذا إذا كنّا وضعنا نصب أعيننا فكرة القربان، التّضحيّة بهم، بمعنى آخر هذا إذا ما رغبت هذه الإنسانيّة السّاذجة أن تعيش قرونا إضافيّة علي كوكب مهدّد بالاندثار .
تختلف أسطورة سيزيف في جوهرها عن العودة الأبديّة الذّي تحدّث عنها نيتشه”ماذا لو في يوم من الأيّام أو في إحدى الليالي، زارك شيطان وأنت في أكثر عزلة وحيدة وقال لك، هذه الحياة كما تعيشها وعشتها، هذه الحياة كما تعيشها و عشتها يجب أن تعيشها مرارًا وتكرارًا، مرّات لا تحصى،ولن يكون هناك شيء جديد هناك،لكن كلّ ألم وكلّ فرح وكلّ فكرة وتنهد وكلّ ما هو صغير وكبير بشكل لا يوصف في حياتك يجب أن يعود إليك، كلّ ذلك في نفس التعاقب والتّسلسل، ينزل ويتأرجح ويلعن الشّيطان الذّي تكلم هكذا؟، هل سبق لك أن قضيت وقتًا رائعًا عندما كنت ستجيبه؟، أنت إله ولم أسمع شيئًا أكثر إلهيًا من قبل(من كتاب العلم المرح ، فريديريك نيتشه)، أن تفسير كامو ينم عن الاستسلام وقبول المعاناة غير المبرّرة بينما يتسمّ مفهوم نيتشه بالنبل والقيمة في المعاناة لأنّ قوس العدالة قد تمّ دفعه إلى أقصى حد، أعلى قليلاً على هذا الجبل الغارق في التعصب والتعسّف .
***
يثير سيزيف اهتمامي، وربّما اهتمام أيّ مهتم بفلسفة كامو، حقيقة المأزق الوجودي للإنسان، حيث أرى هذا الرّجل الوحيد ينزل ببطء ولكن دائمًا نحو العذاب الذي لن يعرف نهايته أبدًا، إذا كانت هذه الأسطورة مأساويّة، فذلك لأنّ بطلها لديه ضمير، في الواقع، ما الذي ستتألف منه عقوبته إذا كان مدعومًا في كلّ خطوة بأمل الوصول إلى هدفه؟، لا يختلف مصير سيزيف عن مصير العامل البسيط يكدح يوميا نفس المهام، أو الوظيفة ، بدون أفق معيّن، يجهل ما سيحدث له، إن كان سيعثر على السّعادة المبتغاة من خلال الوظيفة،العلاقات الاجتماعيّة، الدّين، الهويّة، أو لا شيء، الخسارة، الحرمان، الخيبة، الفشل، بذلك هو يلعب دور سيزيف آخر ولا يختلف عنه كثيرا،عبثيتهما واحدة ومأساويّة فقط في اللحظات النّادرة عندما يصبح واعياً بوضعه، يعُرف سيزيف بأنّه بروليتاري الآلهة، العاجز والمتمرّد على حالته البائسة، يفكّر فيها أثناء عمليّة الصّعود والنزول، بين البيت والوظيفة، يحيلنا هذا إلى جملة كثيرا ما تتردّد، لا يوجد قدر لا يقهره الازدراء، المشكل’، معضلة سيزيف وربّما هي نوع من أنواع السّذاجة البشريّة، يعتقد انّ كلّ فرحته الصّامتة تكمن في اعتقاده الرّاسخ بأنّه مختار عن دون غيره لمواجهة ظلم الآلهة، غضبهم، استعمالهم الغير الشمروع للقوّة ضدّ كائن ارضي مقهور، ولكنّه في نفس الوقت شجاع، يقول انّه ليس مصيره فقط، بل هو مصير كلّ البشر الذّين يفكّرون بانّ هناك خلل ما ويجب معرفته، هذا هو مصير سيزيف، مصيري أنا ومصير الجميع، لا احد مستثنى من اللعنة، الغضب والازدراء، الصّخرة حقيقة، الصّخرة استعارة للمأزق الوجودي، وبالمثل، فإنّ الإنسان العبثي، عندما يفكّر في عذابه يسكت كلّ الأصنام،حيث ترتفع ملايين الأصوات الصّغيرة والمدهشة من الأرض، انّها النداءات البشريّة اللاّوعيّة، الخافتة، الدّعوات من جميع الوجوه تشكل انعكاسًا ضروريًا وثمنًا للنصر، للمعارضة والاحتجاج، لا شمس بدون ظلّ وعليك أن تعرف الليل، يقول الإنسان العبثي”نعم”ولن تنتهي جهوده سدى، إذا كان هناك مصير شخصي، فليس هناك قدر أسمى، أو على الأقل يوجد مصير واحد فقط يعتبره قاتلاً وحقيرًا، بالنسبة للباقي، فهو يعلم أنّه سيّد حياته، مصيره، في هذه اللّحظة الدّقيقة عندما يعود الإنسان إلى حياته، ومن جهة أخرى يعود سيزيف إلى صخرته .