فرنسا بمنظور الحركى رواية في رواية الحركي لمحمد بن جبار / فضيلة بهيليل
بواسطة admin بتاريخ 3 فبراير, 2023 في 12:58 مساء | مصنفة في حفريات | لا تعليقات عدد المشاهدات : 358.

” الحركي ” رواية المشاهد المعكوسة، تقلب لنا ما كان مألوفا بالسرد :مقت الحركي ونبذه، بل نفيه من الذاكرة ومن الوطن ، غير أن الرواية تعكس الأدوار وتغير لنا زاوية النظر وبدل أن يُسرد عن “الحركي”من بعيد أو بإشارة ازدراء إليه نجده هو الذي يروي لنا تفاصيل حياته بكل ما فيها، يشرع لنا نافذة بوح لم يكن الحركي يجرأ على فتحها، إنه يعرض تفاصيل كثيرة عن فرنسا ، عن مكانته كسائق للنقيب “مونتروي” الذي يرافقه في كل تنقلاته، إننا نكتشف في هذه الرواية الاستعمار الفرنسي بعين الحركي، وبما كان يراه في مستقبل الجزائر الذي كان آنذاك بقبضة فرنسا إلى غاية الاستقلال. يفتتح الراوي مذكرته معرفا بنفسه قائلا” أنا أحمد بن شارف من مواليد 1936، متقاعد عن الجيش الفرنسي، مقيم بدنكيرك بشمال فرنسا. أتواجد يوميا في نهج الجيش الذي ينتهي عند الميناء التاريخي. تقاعدت بصفة شبه عسكري سنه 1988 بطلب مني، وضعت حدا للجندية، رحلت مثل آلاف الجزائريين الحركى والفرنسيين واليهود إلى فرنسا، اخترتُ الرحيل لم يكن لي خيار آخر، لم أتردد لحظة في توديع هذا البلد ، لولا أمي التي جعلتني أفكر قليلا وأتريث في قرار الرحيل وألتفت قليلا إلى الوراء، لكني رحلت، اخترت مصيري، في حين كثير من أقراني لم يحصل لهم شرف تحديد مواقفهم. اخترت فرنسا أحببتها ، تشربت روحها ، اعتنقت أفكارها، تكلمت لغتها وتجنست، استفدت من الرعاية والامتيازات الاجتماعية والمهنية والصحية. أنا الآن تحت رعاية مدام << فاني بوركي>> بالديوان الوطني لقدماء المحاربين وقد أصبت بأمراض الشيخوخة وقد شجعتني على كتابة مذكراتي عن الجزائر، تجسيدا للذاكرة والتاريخ في مساعيها لأجل التخفيف من التوتر الذي ينتابني في أوقات عزلتي (…) أن أتخلص من جزائريتي ليس انتقاما أو كرها ، أريد أن لا يكون هناك حنين. لم أوفق بعد . بعد مرور كثير من السنين ، مازال أصدقائي ينادونني بن شارف الحركي أو الحركي ببساطة ، لا تحرجني هذه التسمية إطلاقا لأن ما أراه الآن في بلاد العرب من تدمير ذاتي وتحطيم مقدرات شعوبهم وبيع بلدانهم وثرواتهم وأحيانا الاستعانة بجيوش الغرب يدعو للسخرية، الخيانة لا تكون إلا إذا كانت جماعية أما الخيانة الفردية فهي موقف، اتخذت موقفا يوما ما ، ودخلت في الصف الفرنسي ووجدت نفسي في خضم أحداث الجزائر “(ص7_8).ثم يضيف ” أنا في سباق ضد تهتك الذاكرة، قبل أن يغزوني النسيان، في سباق الزهايمر اللعين، أريد إسماع صوتي للآخر قبل أن يخرس للأبد، ليست تبرئة لأفعالي وتاريخي وسوء سمعتي، أو تبييضا لذنوبي، فقط، أنا أجاهد وأكافح ضد الموت،ضد القمع،ضد المزايدة.فأنا يتيم الحرب والتاريخ والوطن، من موقع الهوان والمرض أحدثكم”(ص12).

ثم يشرع الراوي (الحركي) في سرد الظروف التي دفعت به للانضمام إلى فرنسا، يقول: “انتقمت بطريقتي إذ كنت أسكن في أحد دواوير غابة سيدي عبد العزيز ، يتم الأب ، توفي أبي في ظروف عادية، كنت شابا في العشرين من العمر . درست التعليم القرآني والتعليم النظامي بمدرسة زمورة وبعدها انتقلت إلى غليزان لإكمال تعليمي المتوسط لظروف الفقر والحاجة عدت إلى مسقط رأسي .وجدت أمي تبكي!! أدركت أن القطعة الأرضية التي كانت للمرحوم أبي استولى عليها عمي، ضمها لأملاكه (…) عمي أصبحت له هيبة بعد صعود ابنه إلى الجبل يرهب به أهالي الدوار في كل مناسبة”(ص8).

يروي لنا الحركي بن شارف تفاصيل كثيرة عن فرنسا، عن مكانته كسائق للنقيب مونتروي الذي يرافقه في كل تنقلاته،عن العلاقات بين الحركى أنفسهم، يروي أيضا انضمامه لفرنسا بعدما رأى كيف قام بوعمران بتصفية الحركي “وهاب” الذي لم يكتف بالوشاية بل واستولى على أراضي المجاهدين وذويهم بالغصب وبحماية وتواطؤ من فرنسا ، هذا الموقف الذي قام به بوعمران جعله يتذكر ما حدث له مع عمه وكيف أنه انتقم لأمه وأخته منه ، يقول الراوي بن شارف:”سررت لمقتل وهاب وأعجبت ببو عمران ، رأيته بطلا لقضية عادلة . رأيت نفسي فيه . تذكرت عمي وتذكرت أمي. عمي الذي اعتدى علينا بالضرب وقد جرجر أمي إلى خارج السكن العائلي ماسكا إياها من شعرها ثم تركها في جرف الوادي ، لأنها تجرأت عليه . أتذكر كيف صفعني بقوة ووضع قفا عصاه على رقبتي. كنت أبكي لحزن أمي وأختي الصغيرة. أتذكر كيف طردنا إلى المدينة كالكلاب المتشردة”(ص 43 ).ولم يقف الحركي بن شارف صامتا أمام ما فعله بهم عمه بل إنه قتله بحقد كبير، يقول :” انتقمت من عمي أشد الانتقام. ضربته ضربا موجعا إلى حد أفضى به إلى الموت، تركته مرميا في الوادي وهو عائد من السوق.هنا انتهت علاقتي بالوطن وانتهت علاقتي بالأهل”(ص8).

يبين لنا الراوي كيف أن فرنسا لم تكن تعبأ لموت الحركى رغم طاعتهم وولائهم، فهم لم يهتموا لمقتل وهاب رغم كل ماقدمه لهم من أخبار عن المجاهدين ، بل اكتفتوا بتسجيل ملابسات الحادث وطي صفحته المخزية للأبد.

تتواصل الأحداث لتنتهي بتصفية الحركى من طرف الجزائرين ونبذهم من طرف فرنسا وهم الذين كانوا أحبتها قبل دنو الاستقلال . يصور لنا الكاتب مدى خوفهم كلما اقتربت ساعة انسحاب فرنسا من أرض الجزائر فلا هم استطاعوا البقاء في الأرض التي خانوها ولا هم كانوا أبناء فرنسا الحقيقيين بل بين هذا وذاك ماتوا نحرا أو ماتوا ببطء على أرض العدو

يموتون بشهادة الخيانة فهم حتى وإن تجنسوا ،لا بلادهم سترحب بهم ولا فرنسا ستأمنهم بعدما باعوا أرضهم وأهاليهم.

هكذا كانت رواية ” الحركي” بكثير من التفاصيل وكثير من القضايا الغامضة المتشابكةقدمها الكاتب بأسلوب سلس بسيط شبيه بمذكرة عجوز همه الأول والأخير أن يوصل أخبار حقبة من عمره انقضت لكن سجلها التاريخ.

 

 

اترك تعليقا