في مشهدٍ أخير من روايته المُتفردة “وليمة لأعشاب البحر..نشيد الموت”..يَهوِي جسدُ البطل “مهدي جواد” من عُلُوٍ شاهقٍ بجبل “سرايدي” بمدينة “بونة” الساحرة مُنغمسا في لُجَّة البحر المتلاطمة ،تاركا وراءه “وردةَ حمراء” طافيةً على سطح البحر..في إشارة واضحة إلى تَوَهُجِ الحلم وإمكانية التغيير، بالرغم من الانكسارات والخيبات العربية المتتالية وأزمنة الإحباط، التي أتَت على آخِر ما تبقَّى من الأحلام البنفسجية المتوهجة
ينتحر البطل-في الرواية- أو يسقط-كما سقط مهدي جواد-لكن هذا لا يعني بالضرورة انهزامَ الحُلم أو انكماش الآمال في التغيير.برغم من واقع الهزيمة المُدِوِّي واهتراء الأنظمة العربية التي لم تعُد تَسرُّ الناظر أو تُوفِّر رغيفا صغيرا من الخبز لمواطنٍ عربي مُتْهَكٌ في بلادٍ اتَّسعَت فيها أقبية السجون وضاقت فيه هوامش التعبير والحرية.
هكذا يرحل الروائي الكبير “حيدر حيدر” ، وفي قلبه آلافُ الغُصص لوضع عربي، لا يني يزداد في التفكك والانهيار، بالرغم من تلويحة الأمل،ونبرة التفاؤل التي تُصاحب -عادة ذوي النفوس الكِبار من المُفكرين والكُتاب والفلاسفة .
هذا الكاتب المهُووس بالقْنص والصيْد، العاشق للحرية ،عِشقُه للبراري الفسيحة والجبال الأسطورية. والطبيعة الساحرة، هو الابنُ “البَار” للبواشق والنوارس الحائِمة، يعرِف-بالتحديد- مواقيتَ هجرتِها حينما تَحين المواعيد والفصول،يتحسَّسُ قــدُومَها ،وهي تتأَهبُ للعودة إلى مهاجِعها الأُولى ، إذَا مَا جذبَها “الحنين” أو جَرفَها الاشتياق إلى أعشاشها الدافئة،..هو الذي ذاقَ مرارة المنافي وتجرَّع لوعة الغربة، بعيدًا عن التُربة الأصلية والسماء الأُولى، كاتبُ من طراز خاص ابنٌ للعاصفة الهادرة، والرعود التي تًومِض من سماءٍ نائيةٍ، كاتبٌ منذور للترحَال والسفر الدائم..توزعَتْه تضاريس العالم حتى أضحت عيناه كالصقر في نظرته الحادة ، الصفة التي لا حقتْه باستمرار، وَوَسَمَت كتاباتِه بأسلوب مُتفرد ولغةٍ جارحة، كأسِنَّة الرِماح، تذهب مباشرة إلى مَراميها دون أن تُخطئ أهدافها.
كاتب مُشاكس جسُور لا يعرف المُهادنة أو المُلاينة-كما يفعل البعض-..كاتب حقيقي وعُملة نادرة في أزمنتنَا الرعناء هذه؟
برحيله ستفقِد الرواية العربية إحدى ركائزها الأساسية المدعُومة بالرؤية الثاقبة والوعي العميق والخِبرة في اكتنَاه الوقائع ومُقاربتها روائيا .
- تُرى كَم يلزمُنا من سنواتٍ- لاستعادة، قلمٍ شُجاعٍ كهذَا ؟ لا يتلعثَم لسانًه في قوْلِ ما يُريد قولَه،
مناضل أصيل لم يتنصَّل عن “الهمِّ العربي” في أحْرَجِ الأوقات وأصعب الظروف، كان حاضراً دومًا بجسده وقلمه في قلب المعارك ولهيب الأحداث ،وحينما كانت “بيروت “محاصرة العام 1982 كان بنْتضِي سيفه-قلمه- للتصدي والكتابة باستمرار، فيما كان “الإخوة الأعداد” يتناحرون،وسيْل عرمْرم من الرصاص والقنابل يغْشى سماء “بيروت “وأزقتها وشوارعها الكبيرة.
هل مات “حيدر حيدر” ياتُـــــرى ؟…لا أكادُ أصدِق ، الأصحُّ أنَّه غَـــفَا غفوةً أخيرة، وتوسًدَ عُشب الحديقة -كما يقول الشاعر اللبناني الراحل “محمد علي شمس الدين”- في قريته الهادئة “حصين البحر” وأغمضَ عينيه لهنيهَةٍ فقط..
سيُوارَى الجثمان في “حصين البحر” القرية الهادئة ، التي شهدت مولد صديقه المسرحي الكبير “سعد الله ونوس”…كلاهما تولًهَا بالطبيعة وانغمسا في التراب والجذور وكلاهما أحبّا الطبيعة والكتابة والحرية.
سيعود “حيدر حيدر”إلى الضفاف والخُضْرة اليانعة، بعد أن تَعِبَ الجسد وهدّهُ التّرحال في مشارق الأرض ومغاربها، ستسمُو الروح إلى مَعا رِجها في السَّماواتِ الرحْبة اللَّامُتناهية، بعيداً عن صخب الموتى والأحياء..وداعًا “حيدرحيدر”وداعًـــــــــــــــا [i]