محمد مصايف والتنظير النقدي / إبراهيم مشارة
بواسطة admin بتاريخ 17 نوفمبر, 2023 في 03:17 مساء | مصنفة في حفريات | لا تعليقات عدد المشاهدات : 118.

محمد مصايف(1923/1987) من أهم النقاد في الجزائر في السبعينيات والثمانينيات ولعله أكثر المثقفين تعرضا للتهميش والنسيان وحسب الواحد منا أن يبحث عنه في الأنترنت  أو يكتب اسمه في محركات البحث  فلا يكاد يعثر على شيء ذي بال وهو صاحب المؤلفات النقدية الهامة”فصول في النقد الأدبي الجزائري الحديث” “النقد الأدبي في المغرب العربي” ” الرواية العربية الجزائرية الحديثة بين الواقعية والالتزام”  ”القصة القصيرة العربية الجزائرية في عهد الاستقلال”.

حفظ مصايف القرآن الكريم وواصل دراسته بجامعة القرويين بفاس ثم الزيتونة وفرنسا التي لم يمكث بها طويلا فعاد أثناء الثورة ليسجن أشهرا ثم يمم شطر مصر لتحضير شهادة دكتوراه تحت إشراف سهير القلماوي تلميذة طه حسين عن جماعة الديوان في النقد ودكتوراه أخرى في الجزائر عن النقد الأدبي  الحديث في المغرب العربي عام 1976.

اشتغل أستاذا للنقد الحديث والمعاصر بجامعة الجزائر وكان من النقاد والأكاديميين من زملائه من كان  يمارس الإبداع كشاعر أو قاص أبو العيد دودو وصالح خرفي وعبد الله الركيبي كما كان عضوا في اتحاد كتاب الجزائر ودأب على تقديم حصة إذاعية أدبية بعنوان الصحافة الأدبية في أسبوع مقدما وناقدا وموجها الشباب في ممارساتهم الإبداعية الشعرية والسردية ومنهم من صار من ألمع الكتاب القصة والشعر.

كما مارس الكتابة الصحفية الأدبية عبر مقاله النقدي في جريدة الشعب اليومية وكتب بها عددا من المقالات الهامة عن التعريب ووظيفة الناقد، رسالة الناقد والمناهج النقدية وعن اللغة والإبداع الفني ،الأدب والمجتمع والأدب والالتزام.

وشارك كثيرا في ندوات اتحاد الكتاب حول قضايا هامة كقضية التعريب والنقد الأدبي والالتزام في الأدب ،فهو ناقد خصب الإنتاج ومفكر جم النشاط شديد التواضع عازف عن الأضواء والشهرة والكسب المادي على حساب الجودة والإضافة والعمق وهو الذي أخذ على النقد الأدبي في أيامه خضوعه للمجاملة وتصفية الحسابات مما أثر سلبا على العملية الإبداعية والحركة الأدبية فهو يرى النقد عملية هامة في تقويم الأدب لا مجرد التفسير وقد كتب ( وفي هذه القضية بالذات وفي السنوات الأخيرة يمكن القول بأن النقد لم يقم بدوره كما كان منتظرا، فنقدنا مازال يدين بأسلوب المجاملة ومازال يؤثر الصمت على قول الحق).

اهتم مصايف بالتنظير النقدي مؤكدا على أهمية النقد في تقويم الأدب فضلا عن تفسيره وفق منهجية وقواعد صارمة لا تخضع للانطباعية والأهواء فالناقد ليس عدو المبدع يتتبع عوراته ويشهر بسقطاته كما أنه ليس بمتطفل  على إنتاج الشعراء أو القصاصين بل هو مرشد ومقوم وموجه كما كتب ميخائيل نعيمة في الغربال وقد اختلف مع الناقد سمير قطامي حول هذا الموضوع وقد حصر الأخير وظيفة النقد في تفسير الأدب فقط وضرب مصايف مثالا بابن الرومي الشاعر المغبون المنسي الذي قيضت له الأقدار العقاد الذي درس حياته وشعره وبين مكامن الإبداع فيه والتي لخصها في عبقرية التصوير وهذا مما يؤكد أن وظيفة الناقد لا تنحصر في التفسير فقط بل تتعداه إلى  إصدار الحكم كما اختلف مصايف مع من طالب بضرورة وجود منهج واحد صارم في النقد كما كتب أيامها الناقد عاطف يونس الذي شدد على ضرورة وجود منهج واحد يدرس في الكليات وهذا حسب مصايف يضيق على النقد وعلى الإبداع ذاته.

مرونة مصايف وانفتاحه العقلي وثقافته الأدبية والنقدية الغزيرة بالعربية والفرنسية جعلته كذلك ينتقد الماركسيين الذي يقومون العمل الأدبي فقط من منظور الواقعية الاشتراكية والجدلية الماركسية وكتب بموضوعية(وإنما يؤخذ على هؤلاء الإخوان هو أن تعلقهم بالماركسية كمذهب في الحياة ومنهج في النقد يجعلهم في أغلب الأحيان ينسون أن العمل الأدبي ليس موقفا عقائديا  من الحياة فحسب بل هو بالإضافة إلى ذلك فن يقوم على أسس لا يمكن إغفالها عند ممارسة النقد).

كما أنه لم يحبذ بالمرة نظرية الفن للفن في الأدب بل إن الأدب للحياة وإذا كانت المجتمعات في منعطفات حضارية كبرى وجب على الأدب أن يساير قضايا الشعوب في النضال ضد الاستعمار أو ضد الإقطاع والتخلف والظلم الطبقي لأن الأدب صورة الحياة ومادتها وذلك لا يعني إكراها سياسيا أو دعاية شعاراتية فضمير الكاتب وحريته هما المعتمد ،فالدعاية والدغمائية  تقتلان الأدب وتجعله سطحيا عابرا لا قيمة فنية ولا إنسانية له وهو صاحب مقالات هامة عن الالتزام والأدب الملتزم.

ولأن مصايف كان بصدد التنظير النقدي وجعله يقوم على ذوق ومعرفة وخبرة وثقافة واسعة وفق مناهجه المتعارف عليها جر عليه ذلك خصومات كثيرة فقد هاجمه الكاتب عبد الأمير الحبيب الذي كان يعتبر  نفسه الممثل الوحيد للجدلية الماركسية  فمصايف حسب رأيه يريد احتكار وظيفة النقد مثلما هاجم مندور وطه حسين وعبد الله عنان الذين رآهم متمسكين بقوالب قديمة معتقدا أن تلخيص الكتب وتقديمها يعد ممارسة نقدية  كذلك وهذا من باب التجديد والتحديث في العملية النقدية.

وفي قضية الشعر الحديث سواء تعلق الأمر بشعر التفعيلة أو الشعر المرسل لم يعاد مصايف الشعر الحديث الذي يتماشى ومنطق التجديد والتطور كما أنه لم يعتبر كل الشعراء الذين يكتبون وفق الطريقة الكلاسيكية أن  لا شعرية في قصائدهم  فالشعر الجيد هو شعر أكان عموديا أم حديثا وهو يكتب (لازلت أعتقد أن الشعر ليس في الشكل بقدر ما هو في الروح وأن الوزن ليس إلا إطارا موسيقيا تقتضيه طبيعة المشاعر المعبر عنها).

وبهذا الفهم المتحرر من رواسب الماضي ومنطق الحاضر المتحرر من كل القيود احتفى الناقد بكل الشعراء المبدعين قبل الثورة وبعد الاستقلال دارسا وموجها ومصدرا للحكم فكتب عن ديوان أبي اليقظان الذي صدر عام 1931 وقد اعتبره شاعرا مقلدا نجح في التوفيق بين مدرسة الإحياء التي امتازت بالصنعة والجزالة ومدرسة الديوان وكان هذا دليلا على عمق الروابط بين الجزائر والمشرق أيام الاستعمار كما اهتم  بدراسة  شعراء كبار منذ عام 1967 كمحمد العيد آل خليفة ومحمد أبي القاسم خمار ومحمد الصالح باوية الذي كان يكتب القصيدة الحديثة واعتبره شاعرا فذا  في ديوانه “أغنيات نضالية” وأشاد كثرا بقصيدة “الإنسان الكبير”  التي كتبت أيام الوحدة بين مصر وسوريا  وقد كتب مقدمة الديوان أستاذ مصايف محمد الربيعي  كما اعتبر القاص عبد الحميد بن هدوقة شاعرا مجيدا كذلك مشغولا بالهم الوطني والإنساني في ديوانه “الأرواح الشاغرة” الذي أصدره عام 1967 كما كتب نقدا جديا في حق الشاعر محمد ناصر معتبرا إياه شاعرا كبيرا ملك الأداة والنفس الشعري والرؤية الفنية والخلفية الفكرية  وأشاد كثيرا بقصيدته “رسالة اعتذار إلى الفدائي أوكاموتو” وأشاد بمحمد أبي القاسم خمار في قصيدته “لتنزل الصاعقة” التي كتبها كردة فعل غاضبة على التمييز العنصري الذي يلقاه المهاجرون الجزائريون في فرنسا وكان لمصايف الفضل في التنويه بالشاعر المحافظ مصطفى الغماري لولا نزعة الإغراب عنده والتمسك الشديد بالمحافظة في الصنعة الفنية ودعاه إلى التخلي عن اللغة القاموسية  فهو مع ذلك شاعر ينبئ بمستقبل شعري كبير.

كما ظهرت له مقالات بجريدة الشعب تؤكد اهتمامه ومتابعته للإبداع القومي فكتب عن قصيدتي نزار قباني “هوامش على دفتر النكسة “ومنشورات فدائية على جدران إسرائيل وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الحس القومي المتأصل عند هذا الناقد الكبير دون أن يغفل المغرب العربي ومتابعة إبداعه فثمن كثيرا قصيدة الشاعر المغربي محمد الميموني “كلمة وداع” التي كتبها عقب وفاة عميد الأدب العربي طه حسين وكانت قصيدة من الشعر الحديث .

ومن الشعر إلى السرد وقد كان أيامها يواكب قضايا البلد الحيوية كقضايا تأميم المحروقات والثورة الزراعية والإقطاع والتعريب والتخلف في الريف وحرية المرأة وهي القضايا التي شغلت بال كتاب القصة القصيرة والرواية أيامئذ وكانت مجلة “آمال “حاضنة هذا الإبداع وكتب عن هذه المجلة بالذات مشيدا بعملها وفضلها في ترويج الأدب والتعريف بصناعه وفضلها على المبدعين الشباب وقد قدم فيها قصص الطاهر وطار وكثيرا من الإبداع الشبابي كذلك وهو في نقده يتناول العمل الفني من زوايا عديدة كالرؤية الفنية والتقنيات واللغة والخلفية الفكرية مشددا على ضرورة عدم طغيان الأيديولوجيا والنبرة التعليمية أو الدعائية أو السياسية لأن ذلك كله يقتل الإبداع ومن الأعمال التي تناولها  بالنقد قصص عبد الحميد بن هدوقة القصيرة “الكاتب وقصص أخرى”  ومجموعة عثمان سعدي القصيرة “تحت الجسر المعلق” ومن الشباب الذين كانوا في بداية إبداعهم وتناول إنتاجهم بالدرس قصة عبد الله بن الضيف “بائع الذباب” التي تناولت قضية تأميم المحروقات  و”عودة الأم” لأحمد منور في قضية التعريب  و”غدا تلد النعجة يا سلمى”  لرفيق ظفار و”حتى لا يموت مرة أخرى” لعبد الحميد بورايو وهما تدوران حول الثورة الزراعية وقصة لمصطفى فاسي حول الهجرة والعمالة  الجزائرية في فرنسا  بل تتبع الإنتاج الشبابي في أوساط طلبة الجامعة بلا خلفية كتعالي الشيوخ على الشباب فكتب عن إنتاجهم الأدبي معرفا به في حصته الإذاعية وفي مقالاته بجريدة الشعب فقدم بالتعريف والتوجيه قصة لنجيبة أرسلان “بزوغ فجر” حول حرية المرأة و”أنا وهو مرض السل” للأذرع بن الشريف وانصب النقد والتوجيه حول نظرية الانعكاس في الأدب والأسلوب والولوع بالتفاصيل التي تضخم العمل والمونولوج والعثرات اللغوية وكان لا يتسامح فيها  وقضية استخدام العامية في الحوار من أجل مصداقية وواقعية العمل الفني فلا مانع من استعمال ما هو قريب من الفصحى في الحوار حتى لا يتكلم الفلاح بلغة الأكاديمي أو المثقف فيضر ذلك بمصداقية وواقعية العمل الأدبي  وهي قضية تناولها توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومحمد مندور ورجاء النقاش وغيرهم.

واهتم كذلك بالأدب المكتوب بالفرنسية  وفي هذه النقطة بالذات أظهر موضوعية ومرونة واسعة الثقافة ورحابة صدر فرغم دفاعه عن التعريب لم يخاصم من يكتب بالفرنسية على العكس من كثيرمن  المثقفين بالفرنسية الذين كانوا يهاجمون التعريب ويتعالون على من يكتب بالعربية وهي عقدة نفسية ناجمة عن تجذر الاستعمار في البلد والتركة الاستعمارية الثقيلة التي خلفها وراءه  فقد كتب مصايف دراسة نقدية لقصة كريم مسكين المنشورة في يومية “الجزائر الأحداث”  حول الثورة الزراعية .

وأما فيما يتعلق بالأعمال السردية الطويلة فمن الروايات التي تناولها بالدرس والتحليل رواية عبد الحميد بن هدوقة “ريح الجنوب” وهي إحدى روائع الأدب الجزائري حول معاناة المرأة في الريف وطبيعة الريف المحافظة وإكراهات الواقع ومسرحية” يوغرطة” لعبد الرحمن ماضوي وكانت مسرحية رمزية وإسقاطية على واقع الاستعمار الفرنسي للجزائر.

كل هذه المقالات والمساهمات الحثيثة في التفسير والتوجيه وفي التقييم والترويج كذلك  للأعمال الأدبية يؤطرها موقف لمصايف من الأدب يختصره قوله(إن الأدب كسائر الفنون التعبيرية الأخرى ليس إلا وسيلة لتشخيص موقف الفنان من الحياة).

ولم يكن مصايف مجرد رجل أكاديمي تعاطى الدرس النقدي في الجامعة وناقدا اهتم بتقويم وتوجيه العمل الإبداعي بل كان مفكرا مشغولا بالهم الوطني والقومي والإنساني فكتب مدافعا عن التعريب باعتبار العربية حجر الزاوية في الشخصية الوطنية مختلفا عن دعاة الفرنسية  وكان يدعوهم  بالإخوان مما يظهر مرونة وحسا إنسانيا ونبالة ناقدا توجههم الأيديولوجي ونظرتهم الضيقة وتحاملهم على العربية وشعورهم بالنقص إزاء لغة المستعمر كما تتالت مقالاته حول الثورة الزراعية والصناعية والثقافية  وهما الركائز الثلاث للانطلاقة الحضارية في مسيرة الجزائر المستقلة وفيما يتعلق بالثورة الثقافية رأى  أن دعاماتها تنحصر في التعريب والعلم والتراث كما تناول أزمة الفكر العربي في السبعينيات وقضية التزام المثقف والأديب  ولا يخفي إعجابه بعميد الأدب العربي طه حسين وقد كان يترصد منهجه في تصميم وإخراج المقالات النقدية التي جمعت بعد ذلك في كتب مع الاحتفاظ بموقفه الشخصي وذائقته الأدبية في لغة دقيقة لا تخلو من جمال وحس مرهف وثقافة غزيرة واعتدال عاطفي والتزام بالروح العلمية والموضوعية التي لا تتحرى إلا الحقيقة والإخلاص في طلبها.

رحل مصايف ذات شتاء في أوج العطاء الأدبي والعلمي والساحة الأدبية أحوج ما تكون إليه ومما يؤلم التهميش والنسيان اللذان طالاه فيكاد يكون نكرة للأجيال الجديدة وهو في هذا ينضاف إلى  قائمة من المهمشين والمنسيين من المثقفين والأدباء يشتركون في الحكم ويختلفون في الدرجة أمثال جمال الدين بن الشيخ ومحمد أركون ومحند تازروت وحمودة بن ساعي ومبارك جلواح ومحمد بن أبي شنب  وغيرهم

اترك تعليقا