التجربة الشعرية للشاعر الجزائري عبدالله الهامل ..عناقات مع متاهات لا متناهية / حميد عقبي
بواسطة admin بتاريخ 28 يونيو, 2024 في 03:23 مساء | مصنفة في حفريات | لا تعليقات عدد المشاهدات : 156.

بعيداً من النقد وقريباً من التأمل سوف نحاول أن نلتقط بعض الشذارات من هذه النصوص التي تتدفق على مجموعة مجانين قصيدة النثر وهي من المختبرات الحقيقية لقصيدة النثر ويشرف عليها الشاعر المصري محمد نصر والشاعرة الجزائرية سوسن محمود نوري وقد خصصت يوماً بديعاً للشاعر الجزائري عبدالله الهامل وأخذت أيضاً نماذج منشورة على جدار الشاعر الفايسبوكية، من الوهلة الأولى وللذين يقرأون عبدالله الهامل لأول مرة فهم سيعيدون القراءة مرة وربما مرات، كأننا بشاعر يرغب بالهذيان ويتحاشى الشعر ليبحث عن ذاته وجغرافية وجوده ومكانه في هذا الوجود، يستفزنا النص لنتحاور مع قيمته وأغواره ومتاهاته اللأمتناهية وهذا النموذ مثلاً نحتاج تأمله.

في شتاء قديم

كنت أمرّ بمدن الساحل بلا هدف

و لا أموال و لا بيت؛

كانت الأرض صغيرة بيدي

أركلها كيفما اتفق

في الخيبات المزمنة.

في شتاء قديم

لم أكن أجد ما أفعل،

تركت قصائدي معلقة على الشجر

كما يليق بتروبادور كئيب،

السماء كانت صغيرة

و البحر يغلق أبوابه ليلا

و ينام،

القراصنة غرقوا في بحر إيجه

و الحب هو الحب؛

عين قلقة

تفترس عطرها و صوتها

و مشية الغزالة في الصباح.

في شتاء قديم

ما زال يرتجف فيه قلبي،

طريق الرعاة موحشة و ملتبسة؛

قلتها لك:

التعويذة التي أنجتك

قرضها فأر

أعمى.

كأننا هنا مع شخصية أسطورية أصابتها نكبات التراجيديا والأقدار والفجائع، يخرج هائماً على وجهه يحكي مآسيه، لكن واقعنا الإنساني اليوم يخلق تراجيديا في كل لحظة ولكن الكثير من الشعراء يذهبون لأعادة التراجيديات القديمة ولا ينتبهون لما يحدثه واقعنا المرعب والمتخم بالحروب والأسبداد والوجع، هنا لا نشعر أن الشاعر يعود بنا إلى الماضي البعيد البعيد، (في شتاء قديم ) كأن الشاعر يريدنا أن ندخل في طقوس لعبة الزمن أو كأن هذا الشتاء كان قديما وهو يتجدد ثم يصبح قديما، يستخدم الشاعر ضمير المتكلم ويأخذ دور الراوي والحاكي وكأنه يوهمنا أن ما سنسمعه ليس شعراً قواعدياً ذو منهجية محددة، لعل الملفت في تجربة الهامل هذا الاحساس بالواقع ومحاولة تصوير عمقه وليس وصفه ولا رسم ظواهره الخادعة البراقة وهو كما يبدو مستمعاً جيداً لألم الآخر وكأنه يأخذ كل حمولات الألم الشخصية والجماعية ويحمل اثقالها وحده.

يرى الشاعر عبدالله الهامل أن الشعر عامل من عوامل التطهر ومحو القسوة والتطرف.

متلقي شعر الهامل يدرك من اللحظة الأولى ولعه بالمسرح وربما ما جذبني للكتابة عنه هي بعض التمظهرات المسرحية والخروج من جلباب القصيدة وأي تجنيس وعدم الخوف من فقدان تجنيس الكثير من نصوصه، أحياناً نجده كأنه يتلصص على هذا العالم، وهو من نوعية الشعراء الذين يرون، يفككون، يهدمون ثم يعيدون الخلق، هنا أن يعيد الشاعر الخلق فهو خلق إبداعي يمتزج مع الذات ولا يهتم الشاعر أن نشيد بنصه ونختار له أسماً وهيكل وجنس لآن هذه النوعية من الشعراء يتعمدون الإخفاء والتشويها والجمل الناقصة والصور غير المكتملة والمحددة بمعنى ويرفضون المساحات والميل للمتاهات وربما التوهان أيضاً.

بظني الشخصي أن الشاعر ليس الحاكي والشعر أرقي من صناعة حكايات وهنا نتلمس الكثير من محاولات الهروب من الحكي والحكاية لدى الهامل وإن بدت بعض قصائده وبدايتها كأنها منطلق حكاية لكنه سرعان ما يفر ما يحاول الهروب من الحكاية وتبدو واضحة تآثيرات عشقه وولعه بالمسرح وإليكم هذا النموذج

كل شيء سيكون على مايرام

لا تقلق

لن يحدث شيء ستجلس في الصباح على كرسي أمام بيتك

ترقب رؤوس الموتى

مثل شارل بودلير وتضحك …

ستدفع ذكرياتك مثلما تدفع ام عربة طفلها ..

كل سيكون على ما يرام

الفصول تلبس الفصول

ومطر الصحراء سيجلب الوديان والثعالب

غير انك ستنسى دوما أسماء الرياح

سيكون لك فقط أن تسمي العاصفة قصيدتك الأولى

تتلثم بها كالرجال الزرق وزعماء قطاع الطرق

ستعرف مدنا جديدة

تسكر في باراتها

ثم تبول عليها وتهرب

كل شيء سيكون على ما يرام .

ربما يكون عبدالله الهامل، شاعر متأمل وكأنه يحاول أن يجد الطقس المناسب لتأمل هذا الكون المزدحم بالضجيج والعنف والمفاجآت المزلزلة، ليأتي النص كما يشاء وبما يشاء، ينقب في الذاكرة وربما كشاعر وفنان جزائري شهدت بلاده محنة سوداء وسنوات دموية فبالتأكيد سيحتل الموت مكانه وستتشكل صوره وعبثه، هنا في هذا النص ندرك أن لا شيء على ما يرام، لا الواقع ولا الشعر ولا حتى الشاعر.

أن عالمنا المضطرب وسريع المتغيرات تُحدث ارتباكات متصارعة في ذات المبدع الشاعر الأكثر حساسية وليس مهمة الشاعر أو الفنان أن يخلق جمالاً وأوهام خادعة لذلك قد يعمد بعض المبدعين الهروب من خلق الصور الجميلة الخلابة والساحرة والبحث في شظايا الجوهر ثم النحت من كل هذه المتناقضات الشائكة والمفجعة وليكن النص ناقصاً أو حُذفت بعض التفاصيل من الصور والمشاهد ولآن الهامل من النوعية العاشقة للمسرح فبالتأكيد سنجد في نصوصه بقع مظلمه نعجز عن فهمها، صوراً أو أصواتاً كأنها تأتي من الكواليس وضجيجاً يشوش على حوارٍ ما وتشويهات تعيق حتى تقلب وجريان الدلالات لتلعب دورها الجمالي.

ويشير الروائي د.الصديق حاج أحمد الزيواني في مقالة له نُشرت 2017 إلى نقطة مهمة حيث أن عبدالله الهامل يعشق الصحراء كجغرافيا وملهم إبداعي جعلت تجربته تنزلق لبعض الدهاليز الصوفية ويقول : ( مثّل الكتابة والشعر، بالنسبة لعبدالله الهامل، ذلك التيه الصوفي المستباح في رق وحمادة الصحراء، يلبس الوحشة والوحدة والمفازة؛ ثوب السؤال الوجودي المستفز.. فهو يكتب بلون خاص.. كما يحاول أن يجعل لتجربته الشعرية تفرّدها وهويتها الهاملية الخالصة، بحيث يتماهى الشعر ويندسّ في كتاباته، للحد الذي يربك المتلقي في إيجاد الحد الفاصل بين فوارق التجنيس الكتابية.. فوق هذا يمتلك لغة عفوية آسرة.. يبسّط اللغة.. أو قل عنه؛ يفصّح العامي، حتى ليغدو لك مقبولا لو قُرِأ على قبر سيبويه.)

لعلنا هنا في هذا النص ونتأمل

ومطر الصحراء سيجلب الوديان والثعالب

كأنه هنا يصور ما يحل بالذات الإنسانية، يستعير الصحراء، ليس ذنبها أن المطر يجلب الثعالب بمكرها، الوديان كدلالة للحياة والأمل والتجديد ولكن الثعالب أي اؤلئك الذين يسرقون خيرات الشعوب وقد لا يكتفون بالنهب والسرقة بل ربما يتجاوزون الحد بالعبث والتدمير، أي أن صفة الصوفية لا تعني السلبية حيث نجد الكثير من نصوص الشاعر ذات حمولات نقد وسياسية ولها أكثر من تأويل.

لنتأمل هذا النص

يكتئب الخريف برأسي

و لا يجد سنونوة لترف بجناح خفيض على الشجر القديم؛

يكتئب الحب

و عين القذى

و القنفذ الوحيد بجحره الرطب،

ينزل الليل من درجه بالقدم الضخمة تدق ضلع الكون و تجلس بقلبي،

يوجد. لك عشاء و حكاية طويلة

لا أعرف كيف أخرج منها،

يوجد. لك فراش

و شمس تنتظر عند عتبة الباب؛

يكتئب المكان

و شهر أكتوبر في خوف الفلاحين من الأحوال الجوية،

ضع خوفك على طاولة العشاء

و ابتسم.

يستخدم الشاعر الفعل المضارع، يبحث عن الحركة، ليس هو من يكتب هذا الضجيج!

يكتب الخريف برأسه ويتجاوز ليفعل أكثر من ذلك، يتلصص على ذلك القنفذ ببيته الرطب، هنا يميل ويتقارب مع تقنية الكتابة المسرحية ولكن ليس لتصوير مشاهد متسلسلة ولن تكون كلها مرئية وواضحة، الجنوح إلى اللأمعقول ولسنا هنا مع هدير صوري مفزع أو مفرح، يجتث الصمت بعض الصور وقد يحدث وجود فراغات لتوسيع دائرة المتاهة والتلاعب بنا أو ربما عدم تقديم وضوحات وتوصيفات لكل شيء وعن كل شيء ويحذف الشاعر بشكل متهورٍ غير مهتم حتى بضياع الأسلوب أو تقنية السيناريو أو المسرح وبهذا يقدم مادة خام لتخيل المتلقي والكثير من قصائده قابلة للمعالجة الفنية والتي تحتاج لمبدع يلتقطها ويتأملها ويحاول حل والشفرات، توجد تحولات مكانية وزمنية وربما ما دفعني للكتابة هنا هذه الأجواء والطقوس وهي التي جذبتني في تجارب شعرية إبداعية تناولت بعضها وأسعى أن أكمل هذه السلسلة.

واختم بهذا النص للشاعر :

تغني فيروز برأسي،

مالك الحزين وحده على ضفة النهر يحني رقبته الطويلة

و يموت؛

تغني فيروز

لإنقاذ أغنية الطائر الحزين

من ضجيج

العالم.

ويمكنأن ننوه إلى أهمية نصوصه وجاذبيتها ليس بالطول ولا البيان، وهنا يقدم الشاعر مونتاجاً بأسلوب متضاد أي يجمع بين السعادة والحزن، الحياة والموت وهما يسكنان عالم الشاعر وربما قد يشعر بعضنا إيمان الشاعر بالجمال ونلمس منح القداسة للغناء وفيروز كمغنية تسكن وجداننا العربي ووجدننا كشعراء، هذا العالم الصاخب بالعنف يحتاج أن يرفع كل فنان صوته بالغناء وكل شاعر وشاعرة بالقصيدة وكل أنواع الفن، الإبداع والفن يجب أن يستمر مهما تضخم ضجيج الحروب والبشاعة والاستبداد.

سخرية..مفعمة بالدهشة

تزخر العديد من نصوص عبدالله الهامل بنوع من السخرية، سخرية من الواقع بكل متناقضاته وحتى قد تصل إلى السخرية من الذات، فهو لا يدعي الكمال ولا حتى الصدق والفضيلة وقد تأتي بعض نصوصه بتلميحات مركبة وبعضها شفرات وإليكم هذا النص

الصباح تالف

الليل تالف،

بحجرة الفحص الطبي كانت الممرضة بصدرها العامر تنظر بإشفاق إلى حالتي،

كان المريول فيّ يضحك بحنان،

الطبيب المعالج مستعجل

و المرضى بالخارج مستعجلون

و مرضي يستعجل شفاءه

و يستعجل موتي،

قلت للممرضة :

أحرقت سفني

و خسرت كل حروبي،

الكلام مرُّ

و هذا الصباح التالف حول عنقي يطيل موتي

ضحكت كثيرا قبل هذا

و سأضحك أكثر بعصا الضرير تهش عليك أيتها الجميلة ؛

الصباح تالف

و الليل تالف في نباح مونيكا

تحتج على النزهة ،

لا تقلقي كلبتي

ستخرجين معي كثيرا

و أنت تقودينني

في العالم.

ثمة رسم مشهدي تصويري متكامل التقاسيم ووضح الملامح كما يبدو في الوهلة الأولى ونظن أنفسنا سنسير مع الشاعر ونستمتمع بحكاية ما،(بحجرة الفحص الطبي) وكل ما تعنيه هذه الغرفة كمكان ربما يكون مقلقاً وربما تنقلب الأحداث وتتشعب منها، التلف لا يعني تهوين الدمار بما تعنيه الكلمة من بشاعة، تلف الزمن، هنا قد يؤدي لتلف المكان بل الكون والحياة، هو أو الشخصية التي يرسمها بغرفة الفحص الطبي وبلباس المرضى والعالم حوله يستعجل موته، يخاطب الممرضة ويُخبرها بهزائمه وخساراته وخلاصة الخلاصة (الكلام مرُّ) وهو هنا يعني قصائده وكأنه يعترف بعجزه عن رسم عالم حالم وسعيد وكأنه لو فعل ذلك سيخون الحقيقة والشعر وسيخون نفسه ومحبيه وهنا الممرضة مستمعة وربما تحت الصدمة تعجز أن ترد!

ربما أخبره الطبيب أن موته قريب وربما العكس، لعل ذلك جعل النص قصيراً وفيه تقلبات متعددة وربما كنا ننتظر منه أن يتغزل بالممرضة مثلاً أو يخبر بالمسافة بينه وبين الموت.

يذهب بعيداً إلى كلبته مونيكا ويعدها بالنزهة والخروج ولكنها هي من ستقوده إلى الحياة والعالم.

ختاماً ومن خلال العديد من نصوص عبدالله الهامل، يمكننا أن نفهم أن الشاعر ليس من يدعي فهم العالم ولكنه من يسعى إلى فهمه ومن يتواضع ليتعلم من فراشة أو كلبة أو حتى نبتة صغيرة يابسه، تمتاز الكتابة الشعرية وتجربة عبدالله الهامل بهذا القلق والأسئلة والعودة إلى الذات ونبش ما فيها من القديم والجديد وهذه الحوارات اللأمتناهية والغير كاملة، وهذه المادة مجرد تأملات سريعة تذوقية.

اترك تعليقا