حينما نشر شارل بودلير ديوانه ” أزهار الشرّ” لفت الأنظار عبر هذه الضدية إلى الجماليات الكامنة في ما اتفق عليه الناس بأنه قبيح، وإن كان الشاعر قد مال إلى المرأة الزنجية التي وهبها شعره الخالد فما كان ذلك إلا انتقاما من طبقته البورجوازية التي ينتمي إليها وخروجا على السائد والمألوف، وكأنه أراد أن يؤسس لعالم جديد بقيم جديدة ،ليست بالضرورة المتعارف والمتفق عليها لما فيها من سطحية ونمطية واجترار واختزال وظلم كذلك.
ولاشك أن تصنيف القبح و الدمامة يندرج ضمن السائد والمألوف والنمطي، فقبيح الشكل أو الدميم هو خارج عن المألوف والسائد ومقاييس الوسامة والملاحة ، التصنيف الذي يجعله يعيش في مواجهة الآخرين منذ الطفولة، ويجعله ذلك ينطوي على ألم عميق أو جرح ينزف يزداد نزفه ويشتد ألمه بحسب درجة الوعي الاجتماعي ودرجة تقبل المجتمع للمختلف.
إن الدميم لم يخلق نفسه ،ولم يختر جنسه ولا أسلافه ولا وطنه ،كما أنه لم يختر طول قامته ولونه أو تناسق ملامح وجهه، ولكن المجتمع يحاسبه على ذلك ويحشره في حيز خاص، فهو مدان ومتهم ويشعره بالدونية وذلك بجعله موضعا للتهكم أو السخرية والتهميش أو الإلغاء وعليه أن يتقبل التبعات الأخرى لأنه مختلف عن المقاييس النمطية المتوارثة .
يمكن ملاحظة أن المجتمعات التي يقل فيها الوعي والتنور الثقافي والتعددية والروح الديمقراطية (مجتمعات الواحدية) هي التي تميل إلى إقصاء المختلف على المستوى الفيزيقي أو الجنسي أو العقيدي أو الفكري وممارسة العنف بكافة أشكاله على المستوى البدني والفكري أو الرمزي وحتى اللغوي، وهكذا تحت وطأة الواحدية تتحول الطفولة المسعفة عبر العنف اللغوي إلى اللقيط، و يصبح ذوو الاحتياجات الخاصة المعاقين وهذا العنف مورس أولا على المرأة باعتبارها مختلفة عن المعيارية الذكورية ومازال هذا مستمرا إلى اليوم.
والدمامة بما أنها اختلاف عن السائد والنمطي ومقاييس الجمال المألوفة تدرج في اللامرغوب فيه في إطار الثقافة المنحازة إلى تكريس المألوف وتحييد الشاذ مع ما في ذلك من ظلم وتمييز وإجحاف، فهذا التعدي الرمزي والمعنوي يجبر الشخص على الانطواء على عقدته والانكفاء على آلامه الداخلية في مجتمع لا يعي ولا يرى ولا يسمع.
كان الجاحظ أحد ضحايا الاختلاف- وقبله عنترة العبسي- فقد صفّده التمييز اللغوي أولا بنعته بالجاحظ (لجحوظ عينيه) ولصق ذلك به أبدا، ولكنه كان من الذكاء والدهاء أنه عالج نفسه بنفسه، فحكى النكت التي تخصه والتي سخر فيها الناس من بشاعة وجهه، فإذا وصل إلى سمعه تهكم الآخرين لم يشعر بالنقيصة ولا بالأذى وكف الناس هكذا عن تتبع أثر هذه النكت والسخرية ووقعها على نفس الجاحظ لأنهم يعرفون أنه حكى عن نفسه بنفسه وبالتالي لا جديد في الأمر ولم يصدمه قول المتهكم:
لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيــا
ما كان إلا دون قبح الجاحـــظ
رجل ينوب عن الجحيم بوجهه
وهو العدو لكل عين لاحـــــظ
ومن النكت الساخرة منه ما رواه بنفسه من ذلك أن امرأة رأته فتلت الآية “وإذا الوحوش حشرت “،وحكاية المرأة التي جاءت به إلى صائغ وطلبت أن يصنع لها شيئا تخوف به أطفالها مثل الجاحظ الواقف أمامه، بل حتى حكى أن الخليفة لما سمع بظرفه وعلمه دعاه إلى مجلسه فلما رآه أمر له بجائزة وصرفه.
كل هذا حكاه الجاحظ عن نفسه بنفسه وهكذا عالج عقده بنفسه وشفي منها وكانت هذه المرويات بمثابة التداعي الحر حسب علم النفسي التحليلي .
وعاش الجاحظ بعدها طبيعيا لا يؤذيه غمز الناس وتنمرهم عليه فتزوج وأنجب وضحك وكتب وخلد ذكره ،ولكنه انتقم من المجتمع بالإغراق في الكتابة والإبداع والتأليف مخلفا تراثا ضخما حتى عد كتابه” البيان والتبيين” من أركان الأدب حسب توصيف ابن خلدون وماتت الوسامة وتحلل الجمال كأن لم يعش على هذه الأرض ، بينما خلدت البشاعة الجسمية كأبهى ما تكون وضاءة وإشراقا في كلمات الجاحظ وبيانه.ويونغ يفسر الإبداع على أنه تسام.
والشاعر محمد إمام العبد (1862/1911)أحد ضحايا المجتمع في العصر الحديث فهو ضحية العنصرية ، ولد بالقاهرة لأبوين جلبا من السودان للخدمة وكان أسود اللون ،ضخم الجثة بارعا في لعب الكرة يحفظ القرآن ،ولكن النبذ طاله منذ الصغر فألصقت باسمه صفة العبد (أي ليس حرا) فهو مختلف، وهذا التصفيد اللغوي اقترن بالتهكم من لونه والسخرية من شكله بالرغم من نبوغه وذكائه فهو شاعر في الفصيح والزجل وله قصص مع أعلام عصره كالشيخ محمد عبده والشعراء شوقي وحافظ وخليل مطران وغيرهم، كل هذا لم يعفه من قسوة المجتمع وتنمره عليه وأحكامه القبلية وميله إلى المألوف والنمطي والواحد، فعاش مشردا فجاع وشبعت الماشية وعري واكتست الأضرحة ،وانفجر شعرا حزينا يشكو ظلم الناس على شيء لم يصنعه بيديه ،لم يختر شكله ولا لونه ،فلم يطاله ظلم الناس لغويا ورمزيا واجتماعيا؟:
خلقت بين أناس لا خلاق لهم
فباعني الفضل في الدنيا بلا ثمن
لولا بقية من دين أمسكت خلقي
لقلت إن إله العرش لم يرني
ومن تندر الناس بلونه أنه كان يكتب مرة فسقطت بقعة الحبر الأسود على الورقة فقال له أحدهم “جفف عرقك”،وارتدى ربطة عنق سوداء فقال آخر: لم كشفت عن صدرك؟
لم يتزوج محمد إمام ومات أعزب وعلل ذلك تعليلا طريفا ينم عن يأس وألم دفين :
أنا ليل وكل حسناء شمس
فاقتراني بها من المستحيل
ثم أسلم نفسه إلى تعاطي الخمر لتناسي جرحه وانهدت قواه حتى مات في عمر الخمسين ضحية لأحكام وقيم المجتمع الذي عاش بينه.
وكامل الشناوي الشاعر البديع (1908/1965)أخو مأمون الشناوي الذي غنت أم كلثوم بعضا من كلماته وغنى عبد الوهاب من قصيدة كامل “لا تكذبي “واشتهر بحبه للمغنية نجاة الصغيرة ولكنه كان حبا من طرف واحد وانطوى كامل على جرحه ومأساته بالرغم من نبوغه وخفة ظله وذكاء قريحته وسرعة بديهته وبراعة نكته واختلاطه بأطياف المجتمع من ساسة ووجهاء وأدباء وصحفيين وفنانين، ولكنه ظل دائما يحمل عقدة البدانة والدمامة اللتين يفضحهما ضوء النهار فعاش في الليل ونام في النهار، فهو يعيش الواقع نائما وقد حكى بنفسه عن التمييز الذي طاله وهو صغير إذ لما سئل لم يضرب الأطفال؟ فقال( أنا بضربهم علشان يعاكسوني ويقولو لي ياتخين).
تألم كثيرا ولم يتزوج مرددا كلما حدث في أمر النساء هذا البيت القديم:
وأما الحسان فيأبينني
وأما القباح فآبى أنـــا
وقد غنى له الراحل فريد الأطرش من قصيدته الحزينة والمشهورة التي تقطر شجنا:
عدت يا يوم مولدي
عدت يا أيها الشقي
الصبا ضاع من يدي
وغزا الشيب مفرقي
ليت يـــا يوم مولدي
كنت يوما بـــلا غد
وعلى رأي فرويد في فان جوخ “لو وجد امرأة تحبه لوجد حضنا يحتويه”.
وتعد مأساة الكاتب المصري محمد رجاء عليش (1932/1979) فاجعة كذلك فهو صاحب رواية “لا تولد قبيحا” والمجموعة القصصية “كلهم أعدائي” فعنوان الرواية يحيل على التنمر من قبل الآخرين إزاء قبح لم يختره الكاتب فهو قدر مقدر وعنوان المجموعة القصصية يحيل على رد الفعل من قبل الكاتب وهو التوجس والكره والحقد على الناس وفقد الثقة بهم مع الإحساس بالدونية وكراهية المجتمع لعدوانيته وسخافة مقاييسه الاجتماعية وأحكامه السطحية الاختزالية وظلمه ،لم يصبر رجاء ولم يختر حل الجاحظ ،فأطلق الرصاص على نفسه واجدا صوت الرصاص الذي اخترق جمجمته أرحم من بذاءات الناس وكلماتهم الجارحة القاسية بعد أن أوصى بجزء من ثروته لتشجيع الأدباء الشباب وبجزء آخر لإحدى الجرائد السيارة - – فقد كان ثريا – ولم يتزوج مع يسره ،وفي أدبه تطل علينا من كلماته الشكوى من مجتمع غير متسامح مع دمامة خلقية لم يخترها فغدا مصدرا للسخرية والتنكيت والتهكم من قبل الآخرين مما ضاعف من آلامه وميله إلى الوحدة والإغراق في الكآبة واليأس ولم يجد الملاذ أخيرا إلا في أحضان الموت ،فهو في لا وعيه أرحم من الأحياء، وقد كتب (عشت هذه الحياة وأنا أحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلوني أكفر بكل شي).
أعماله الأدبية تفضي بنا إلى اكتشاف عالم المنبوذ والمهمش بجرم لم يفعله والاختلاف عن مقاييس الجمال السائدة والمألوفة، فقد كان أصلع، ضخم الجثة بنظرات موحشة وحزينة، ومن العبث إيجاد صور له عبر محركات البحث.
انتقدت أعماله نظرة الناس السطحية وضحالة تفكيرهم واستسلامهم إلى الأحكام القبلية وولعهم بالمألوف والمادي الزائف وممارستهم للنفاق الاجتماعي فعالمه الروائي والقصصي عالم الضديات: الجمال مقابل القبح والنبالة مقابل الوضاعة والكره مقابل الحب وهي في مخيال الناس تستند إلى أحكام غير منطقية وغير إنسانية ،وكأنه أراد عالما جديدا لا مكان فيه للظلم الاجتماعي والتمييز الذي يطال المختلفين حتى وإن كان لا دخل لهم في اختلافهم العرقي أو الجسماني أو الجنسي أو اللغوي
(أنا رجل بلا امرأة، بلا حقل للقمح، بلا زجاجة نبيذ ، بلا كرة للعب، بلا ذكريات ، بلا طريق للمستقبل ،على قبري تكتب العبارة التالية :هنا يعيش إنسان مات أثناء حياته).
وإنها لمأساة أن يعدّ الحياة موتا والموت حياة، ولكنه الإحساس بالفجيعة والوحدة والكآبة .
إن درجة استيعاب المجتمع للمختلف على كافة الأصعدة وتقبله له وعدم تحسيسه بعاهته أو اختلاف لونه أو معاملته بالدونية لاختلاف جنسه أو دينه او مذهبه أو انتمائه السياسي أو الفكري أو هواياته وطريقة حياته كل ذلك يعكس الثقافة السائدة في المجتمع ودرجة تحضره ووعيه ،ففي داخل المجتمعات المتخلفة – حتى وإن ارتكز الدين على مؤسساته الباذخة- آلام رهيبة مكبوتة، وأشجان مقموعة ،وأنات مدفونة وتأتي الثقافة السائدة والمتوارثة لتكرس هذا الواقع تحت يافطة المرغوب والسائد والمألوف حتى وإن انطوى على لا إنسانية. وتمييز كبير مجحف.