هل الترجمة مهنة؟ / سعيد بوخليط
بواسطة admin بتاريخ 25 أكتوبر, 2024 في 09:01 صباح | مصنفة في حفريات | لا تعليقات عدد المشاهدات : 140.

تحتمل مقاربة التساؤل المطروح أعلاه، جوابين ينطويان على معنى الإقرار والتأكيد، بأنَّ الترجمة فعلا مهنة، لكن الدلالة الضمنية تختلف على مستوى القيمة الأخلاقية لكل واحد من التبريرين:

التأويل الأول إيجابي، فالترجمة مهنة وصنعة وحرفة. غاية في ذاتها، وليست وسيلة أو أداة بهدف تحقيق أهداف ثانية أخرى غير سعي الفرد نحو المعرفة وأسبابها وسبل ترسيخها، حتى يبلغ حدود الأسمى وجدوى حياته. هنا، الترجمة مهنة يومية، نكتشف بها ومعها الوجود وتعدديته.

البعد الثاني من التعريف،أقل سموّا من الأول، لأنه يظل في نطاق المحدِّدات المادية العابرة، بحيث تغدو الترجمة وسيلة للبحث عن أسباب العيش.

طبعا، لايقصد سياق الحديث جملة وتفصيلا، الذين اختاروا الترجمة منذ البداية، باعتبارها بوَّابة تخصُّص مهني فقط، بالتالي كمورد مادي خالص عبر سبيل انتمائهم إلى مؤسسات إعلامية أو قانونية، وحتى تدريسها حينما يختار الشخص التكوين المعرفي والبيداغوجي في مجال الترجمة، قصد الانتقال إلى موقع التدريس وامتهان ذلك دون زيادة أو نقصان على مستوى المطلوب والممكن. زمرة أشخاص يدرِّسون الترجمة داخل أروقة معاهد وجامعات، ولايفصحون بالضرورة عن هويتهم تلك من خلال الكتابة. هكذا يلقِّنون أدوات وتقنيات الترجمة نظريا، بغير ممارستها عمليا.

إذن، يشرئبُّ لديَّ سؤال الترجمة باعتبارها مهنة أو ليست كذلك، صوب الترجمة الموصولة عموما بمشروع الكتابة، وفق مفهومها المجرَّد أي إبداع الأفكار والتعبير عن الأحاسيس بين طيات نصوص مكتوبة.

حينها، يمتهن الشخص الترجمة، ويمنحها الأولوية الوجودية قياسا لأنشطة وظيفية أخرى، تهتمُّ أولا وأخيرا، بتحويل نصوص من لغة إلى أخرى وفق الشروط الأكاديمية المطلوبة على مستوى الشكل والمضمون، مقابل حصول صاحب العمل على مكافأة مادية لقاء الترجمة التي أنجزها.

بهذا الخصوص، يتجلى واضحا مكمن السؤال والدافع إلى طرحه، حول النزوع الأخلاقي والوازع القيمي فيما يتعلق بمقتضيات التعويض المادي ثم حدود ودرجات سلطة إطار ”تحت الطلب”، ومدى تأثير ذلك على حرية المترجِم وممكنات إبداعه، بمعنى ثان حينما يستند دافع عمله، على تعاقد رسمي مع ناشر أو غيره قصد تنفيذ ترجمة معينة.

حينها، تستدعى حيثيات أخرى جوهرية غير مطروحة أبدا ضمن أخلاقيات الترجمة المهنية حسب مفهومها الإداري والبيروقراطي، بحيث يختلف التناول تماما جراء هذا الانتقال إلى مرتكزات الترجمة المعرفية الخالصة حيث المعرفة في ذاتها ولذاتها، وقد تسامت عن مختلف الحوافز البراغماتية أو الأداتية مما يقتضي شروط الحميمة والحكمة والشغف والتأمل والحرية. جملة معطيات، تغيب كليا أو جزئيا عن باقي المقامات الأخرى، التي اختزلت الترجمة إلى مهنة و وظيفة.

عموما، لابد من توفر شرط مجتمعي أساسي لاغنى عنه، بخصوص هذا التداخل الطبيعي والسليم والمتوازن والخلاَّق بين الترجمة في إطار ميثاليتها الإبداعية، ثم مفهوم الترجمة/المهنة ضمن إحالاتها المادية الأداتية، يتعلق الأمر مبدئيا بالبناء المؤسساتي للمشاريع الفكرية داخل مجتمعات متحضِّرة ومتطورة على مستوى صناعة المعرفة، تستند مرتكزات ديناميتها على مشروع مجتمعي حقيقي مبدع، تتوخى مؤسساته صدقا السموّ بالإنسان تبعا لأفق جدلياته اللانهائية.

تصبح الترجمة رافعة بنَّاءة صحبة مختلف آليات المشروع المجتمعي الكبير، الذي يشتغل وفق منظومة محكمة التشكُّل؛معرفيا واقتصاديا وسياسيا، والمترجِم فاعل أساسي يراكم من جهته وعلى طريقته ناحية ذات الأفق الذي تصب غايته جلُّ الروافد التأملية الأخرى.

إذن،ضمن إطار المناحي المؤسساتية، بغية توطيد منظومة الفكر المادية وشتى الممارسات المعرفية ثم تحوُّلها باستمرار إلى قوة روحية خلاقة تأخذ المجتمع تحو طفرات نوعية. أقول، لحظتها تصبح الترجمة مهنة لاغنى عنها، والمترجِم موظَّفا ينتمي بنيويا ووظيفيا إلى منظومة متكاملة أبعادها من أجل تحقيق المشروع المجتمعي المأمول. ينعم المترجِم بوضع اعتباري مميَّز، منسجما مع قناعاته ورؤاه، يختبر حريته تبعا للشغف العام ارتباطا بمنظومة المجتمع وقد تبنى الحكمة ارتباطا بجذور بنائه الإنسان حسب مفهومه الكامل.

هكذا، أفهم تداعيات تصور الترجمة كمهنة، من خلال التمييز بين المستويات المادية والمعنوية للمفاهيم، ثم تحديد كنه المعرفة باعتبارها شغفا وتحرُّرا شاملا للإنسان من كل سلطة أو استلاب أو حاجة، وأخيرا انسجام هذا التعريف مع نفسه، وامتلاكه لمختلف أسباب المشروعية، ارتباطا بمجتمع تديره هيكليا مؤسسات تصبُّ نحو مشروع معرفي متكامل المبنى والمعنى، الظاهر والجوهر، بالتالي لامناص من منظومة للترجمة تشتغل بدأب أشبه بماكينة هائلة، قصد تطوير وترسيخ مدى التعدد الهوياتي عبر التحاور اللغوي اللامتناهي الذي يعكس ماهية الإنسان الأبدية والخالدة . .

 

 

 

اترك تعليقا