واقع الفلسفة اليوم كما في كل مراحلها التاريخية يقف على نفس العتبة من التهميش والإقصاء والإبعاد من الواجهة والممارسة باليومي والحياة الاجتماعية، لأنها مقدمة لكل المجالات والأوضاع، تحت ذرائع معدّة مسبقا لفسح المجال أمام تشديد الغلق على المراجعات الفكرية والنقدية لمعالجة المشكلات التي تُستحدث عبر المتغيّر الاجتماعي والمعرفي، ومع كل مناسبة باليوم العالمي للفلسفة يعود الحديث بنا إلى طرح تحديات جديدة أمام إشكالية بدأت تبرز بالفعل على مستوى الدرس الفلسفي لتصبح حاضرة بصورة تصاعدية تغذيها حالة الستوندار عموديا بزمن الواقع المعزز والواقع الهجين الذي فرضته التقنية الفائقة، حيث يأتي ذلك وفق التفكير الرأسي والمرتبط بالمجالات التقليدية والراسخة أين يتم إعطاء الأولوية للاستقرار والالتزام بالمعايير الحالية والحاضرة، والذي تكون فعاليته في المواقف التي تتجدد بعامل التوقع الجاهز، إلا أن التفكير الرأسي قد يقف ضد استكشاف الحلول المبتكرة للمشكلات، وهو بذلك يتناقض مع التفكير الذي يشجع على الإبداع واكتشاف وجهات النظر الفكرية البديلة، كما أنه تفكير نمطي مباشر أيضا .
لماذا سادت هذه النمطية الطاردة للفلسفة؟ وماهي نتائجها على واقع النخب والمعرفة عامة؟ وهل يستطيع التفكير الفلسفي الإبداعي الحقيقي مواجهة هذه البيئة المنتجة للركود وتفعيل الستوندار المريح؟
لمناقشة هذه الإشكالية تحضرني هنا سردية ماتعة للفكر اللانمطي حيث تقول هذه الواقعة: «هناك شيخ معرفة آنس من مريد لديه نباهة ونضج تفكير وحسن عزم، فاستدعاه ليعلن له انتهاء طور تتلمذه، فدخل عليه المريد بكل إجلال، فبادره الشيخ بأن قال له شاهرا عصله: سأسألكـ”، فإن أجبت على سؤالي بالإثبات، ضربتك بالعصا هذه، وإن أجبت بالنفي، ضربتك أيضا، وإن أجبت بالإثبات والنفي معا، ضربتك ، وإن أجبت بغير الإثبات والنفي ضربتك، وإن أنت أمسكت كليا عن الإجابة ضربتك، وهبني قد ألقيت عليك السؤال، فما عساه يكون جوابك؟ فما كان من المريد الذكي إلا أن سارع بافتكاك عصا المعرفة من شيخه، وسافر يشق طريقه بالرموز الأنطولوجية، فأضحى كالنهر يحفر مجراه بنفسه ، فكان ذلك هو الجواب الذي اغتبط له الشيخ مروقا عن دوائر التضخم الكلامي»، هذا المثال يطرح التفكير المضاد لآلية النمط الرأسي، وهو التفكير الجانبي والذي يسعى لتفكيك المشكلات والنظر إليها في تسلسلها الأفقي المنظم وفق الأسباب والمسببات، والمساءلة القائمة على الدهشة إلى حدّ الإحراج أمام المعضلات الصعبة، وهي الدائرة التي يتقاطع فيها العلم بالفلسفة.
مما يعني أن الأفراد الذين يقعون تحت طائلة التفكير الرأسي هم الذين يحاولون الوصول إلى الحل الجاهز مباشرة، وهم الذين انتجوا التفكير الستوندار، وهي الفئة الأكثر سلطة وشيوعا بالمحيط الاجتماعي الذي فرض وجوده على قضايا اليومي، وهي أيضا تقف ضد القلة من الأفراد الذين يتميزون بالتفكير الجانبي الذي ينظر إلى القادم وتوقعاته الاستراتجية، بناء على أن تقدم العلم لم يقطع الجدل والسؤال: «بل يمكننا التنبؤ بنفس الثقة باستمرار هذا الجدل حول كيف ولماذا وبأي معنى يتم هذا التقدم»، وهي المعادلة التي ينبغي للعقل أن يعمل بها لا أن يلتزم ماتم بالفعل ليقرأ به واقعه ويعلم الجيل الجديد الجمود والكسل والاتكالية التي تقضي على حياة التفكير السليم وتنعش التفكير القائم على مقاس اللحظة الجاهزة و فقط .
واقع وضع الفلسفة اليوم أمام وضعية يمارسها العقل الراهن من أجل تحييدها بناء على تأثير البيئة التي لا تقبل الأسئلة التي تبحث حول الحقائق ، كما لا تقبل الوقوف عند محاولات تمديد التدقيق لأنه حسب رؤيتها لا يجدي، كما أنه قد يهدد التفكير الجاهز والنمطي والأخطر هو تجاوز الإتجاه العمودي والانفتاح على منطقة الوعي المتقاطعة والمتجددة مع الإتجاه الأفقي، وهي تلك الأفكار المتجاورة والمتسارعة في قابليتها للتغيير ، بحيث لا تنتظر مساءلة العقل إذا لم يحاول القبض على سرديتها اللامستقرة على حال، لأن الفلسفة في صميمها تمنح الفكر القدرة على المراجعات النقدية للمعرفة، وهي بذلك تعطي أهمية بالغة للأهداف التي تسعى إليها من أجل ممارسة منطقية وجادة لحل المشكلات العالقة، بفعل المواجهة النقدية المنظمة والموضوعية لتحقيق التجاوز وتنمية القدرات العقلية و العادات الفكرية، لا أن يكون القول بعيد عن التحقق بل يجب السعي الحثيث لجعله خارج اللعبة الميتافيزيقة البحتة والجامدة، بحكم أن مطلب التفكير العمودي أو الرأسي يقف كحالة مستقرة تكرس مفهوم الستوندار ومساره القلق الذي أثر بالسرديات المجتمعية القابلة لتلقي مثل هذه المقولات اللامنتجة للنشاط العقلي .
هذه الستاتكية التي ميزت الفكر الفلسفي الذي يتعارض مع طبيعته، اكتسحت الساحة العلمية من مثل المقال الستوندار و الفكرة الستوندار والجواب الستوندار ، مع تكريس الحفظ على الفهم والمناقشة.، قد يقول البعض بأن الواقع يتطلب ذلك، ولكن الستوندار لم يعد ممارسة فقط بل انتقل إلى ديمومة الظاهرة خاصة مع هيمنة التقنية التي ساهمت في تسهيل الفكر النمطي والرأسي، ليطغى التسلسل العمودي البياني لحركة المساءلة الفلسفية في طموحها لمعاينة قدرتها على تناول المشكلات بمدى اقترابها من الناس والحياة و الوجود بكل متغيّراته ، ليصبح التواصل بين الناس شكلًا لغويا بلا مضمون، وألفاظ بلامعنى ، وتتابع أصوات خالية من التحقق الخارجي، فاقترب العقل من المزيف والوهمي وهو يعتقد بتحققه، بل اختلط على العقل الخيال بالواقع، والأكثر من ذلك لم يعد يهمه هذا الواقع الذي يعيشه لأنه جُرد من السؤال الذي يُطرح لتحسين أداء الواقع، ولم تعد الوظيفة التواصلية إلا لحظة تترجم حاجات اللحظة لا أكثر، بهدف تخفيف القلق والتوتر و عدم الجدوى.
___________
1- 01)مصطفى كمال فرحات، لماذا الفلسفة اليوم؟، ط1، منشورات الجمل، العراق، 2016، ص 127.
- 02) كريس هورنر و إمريس ويستاكوت، التفكير فلسفيا
،تر: ليلى الطويل، ط1، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب وزارة الثقافة، سوريا، 2011، ص 198.