استهلال
البشر نوعان : نوع يتذكَّر ونوع آخر يتذَكّرُه الآخرون
الكاتب الياباني يوكيو ميشيما(1925-1970)
-01-
في العشرين ماي عام 2005 رحلت عنا شحرورة وهران المطربة “فاطمة الزهراء بن ثابت”(1952)، صاحبة الصوت العذب والنبرَة الوهرانية الشَجِيّة عن عُمر يُناهر53 بعد مُعاناة مع مرض السرطان، في كل الأشواط التي قطعتها “صباح الصغيرة”،مع هذا الدَّاء الفتَّاك ،كانت مُتشبثةً بحبل الأمل ولم يثنها “سرطان الثدي “اللعين عن الغناء أو الشَدْوِ بأغنيات الفرح والحب، ولم تُقْعِدها جلسات العلاج الكيمياوي المتواصل عن الاستمرار في الغناء وإقامة الحفلات في هذه الولاية أو تلك،وبالرُغمِ من ضراوة الألم كانت تبدُو مُشرقةً الوجه و مُبتسمةً على الدوام .
-02-
قبل عامٍ من رحيلها وفي ربيع عام 2004 ، حَطَّت الرِحال بولاية “النعامة”بالجنوب الغربي، وكان برفقتها ،ابنةٌ جميلة ـاتضَح فيما بعد -أنَّها ابنتُها بالتَبنِي، وقد نظَّم لها مسؤولو الولاية-آنذاك- حفلاً خاصًا بالقاعة المتعدِّدة الرياضات ،وحضرَه ُجمهور غفير من مُحبيها، كانت ترتدي فستانا سمَاوي أزرق تتصدَّره زهور بيضاء صغيرة، وقد اتسَقَ اللبَاس مع قِوامها الجسدي الأهيف، ما عكس تَشبُثَها بهُويِّتها الجزائرية الأصيلة، أعادت للجمهور أغانيها القديمة الخُمري، مهما تنزل من العْلالي، الحُب صعيب ،ماننساش أنَا، آه يالسْمَر ياَزين،..الخ ،تهلَّلَ الجمهور لحضورها، وتفاعل مع أغانيها، عندما انتهي الحفل نزلت بِهدوء من درجات المِنصة، عانقت الأطفال والنساء والشباب بحرارة.ولحظتها اغرورقت عينَاها بالدموع، وهي تستقبل باقاتٍ من الورد، قَرَّبَت الميكرفون من شفتيها، ورفعت عقيرة صوتها من جديد وقالت بلهفة المُحِب للجمهور:”شْحَــــال نبْغي وْلاَد بلَادي،.شحْال نبْغيكم بزْاف “وتهاطل حينئذٍ،التصفيق والهُتاف من كل الجهات باسمِها.
-03-
هكذا كانت “صباح الصغيرة” إنسانة رهيفة الإحساس، صادقةً في مشاعرها تُجَاه الآخرين حتى وهي تُحِسُ بِدنُوِ ساعة الرحيل ، كانت إنسانة شعبية في الصميم،لن أنسى مَاحييت نُزهَتها السريعة في مدينتي رفقة المطرب الرّاحل عبد القادر الخالدي(1957-2024)،،وكاناَ يتجوَّلان بأحياء المدينة العتيقة،وفي لحظة مَا تعثَّرت في مشيتها، وسقط الحذاء،أو اهترَأَ، مَا تطلَّبَ إصلاحُه على الفَوْر، لم تجزَع بل أخذت فَردَة الحذاء وبدأت تمشي ببطء ، في اتجاه الإسكافي القريب من الحي،وجلست بالقُربِ منه بعد أن نَاولهَا هذا الأخير كرسياً صغيرًا لتقتعِد عليه،وبدأت تُحدِّثُه بلهجتها “الوهرانية “المألوفة ، كَمَا لو أنَّها تعرفه منذ زمنٍ بعيد،تعالَت ابتسامتها كالعادة ونشرت الدفء على المكان، أحسَّ الإسكافي-لحظتها- بروحها المرِحة وبتواضعها الكبير، بغيابها تنقضي فترة ذهبية من جيل أمتَع بأغانيه الهادفة أسمَاع الكثير من الجزائريين في الثمانينيات من القرن الماضي ، رفقة أسماء لمعت بقوة واختفت كالبرق كمليكة مدّاح،سعاد بوعلي،حسيبة عمروش..وأخريات……..لروحها السَّلام.